الأستاذ محمد علي حيدر عوّاد يتحدث عن تأريخ علمات وجوارها

01/09/2010
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الأستاذ محمد علي عوّاد من أبناء بلدة علمات درس وترعرع فيها وقضى شطراً من حياته في البحث والتحقيق حول تأريخ بلدة علمات وجوارها من سنة 1800 ولغاية سنة 1935.

مارس التعليم الثانويّ في ثانويات بلاد جبيل وكسروان.

فكان خير أستاذ، وخير مُربٍ للأجيال، سِيماهُ التواضع والاخلاص في عمله، ومحبة بلاد جبيل، والأخذ بيد طلابه ومريديه نحو محبة الوطن، والعيش المشترك والوحدة الوطنيّة، ونبذ التعصب والطائفيّة.

توجه رئيس تحرير هذه المجلة إليه بالسؤال عن أطروحته الآنفة الذكر التي كانت بإشراف الدكتور عصام خليفة. فأجاب بالرسالة التالية:

إندفعت إلى كتابة تأريخ علمات وجوارها ليس بدافع حصرية المكان أو التفضيل إنما إنطلاقاً من الجزء إلى الكلِّ وقد يصح العكس من ذلك.

عندما ينمو الإنسان بأحاسيسه ويكون قد تلوى بمراحل طفولته وَتضورَ جوعاً وعذاباً.

ويفعل ما يصادف من عذابات مادية ومعنويّة، تتكون عنده في البلوغ مجموعة تساؤلات.

ـ منها تساؤلات فرديّة، عائليّة، بيئية، دينية، وطنيّة.

ـ يعود لنفسه يسألها ويحدق النظر بالمكونات القريبة والبعيدة التي أثرت في تكوين نظرته أو بالأحرى مُعطياته النفسيّة الذاتيّة، وإنعكاس هذه الذات على المجتمع.

من هنا وجدت نفسي مُضطراً أن أكتب عن قريتي وجوارها، ولكنني لم أقف عند حدود الذات في المكان وفي الموضوع.

بالنسبة لي هي خطوة بسيطة (علَّ وعسى) أن تليها خطوات من سواي ليكتمل مفهوم القصيد من تدوين تاريخ قرانا وجوارها في تكوين الروح الوطنيّة في اسمى معانيها.

انني قصدت تدوين التأريخ عبر المسح الأفقي للمستويات الشعبيّة وكيفية تكوينها وتعاملها وتطورها مع مرور الأيام والسنيّن.

تدوين التأريخ عبر تدرج الإنسان في الأسرة والنشأة الأولى بالنسبة لتربيته على مفهوم أُسرته الضيقة، والتقاليد والأعراف البيئية المحصورة ضمن خراج القريّة وجوارها.

أدرس كيف يخرج هذا الفرد ويتعلم في مدرسة قريبة أو بعيدة ومدى إكتسابه وتوسيع معارفه.

والتدرج إلى الحياة العمليّة، وكيف يتم التعامل مع أفراد القريّة ومع الجوار.

إنّ جُلَّ ما لاحظته أنَّ حياة القرى تقوم على مفاهيم المنطق والحب والإخلاص المتبادل. وتظل كذلك إذا بقيت في منأى عن تأثر المتدخلين والمستفيدين وطالبي الجاه من رجال سياسة أو نفوذ وأصحاب غايات زمنيّة أو إقتصاديّة وحتى دينيّة.

الدخول في الموضوع:

إنَّ فترة القرون الوسطى الممتدة بين زوال الحكم الصليبي 1291م، و1697م، أي بداية الإمارة الشهابيّة في لبنان قد عززت النفوذ الإقطاعيّ في لبنان، وتعززت الأسر العائليّة ذات النفوذ العشائريّ، منها: أسر آل بحتر، وآل حرفوش، وآل تنوخ أمراء الغرب وبيروت، وآل حمادة في بلاد جبيل، والفتوح، وشمال لبنان، وآل حبيش وآل الخازن في كسروان، وغيرها من أُسر إقطاعيّة.

وانتشرت الملكيات العائليّة على مساحات واسعة من البلاد، حينها تعززت سلطة آل حمادة من ساحل جبيل حتى أعالي جبال المنيطرة وتوثقت علاقتهم مع العشائر البقاعيّة، وكان الأمراء المعنيون قرقماز، وفخر الدين يعتمدون على هذه الأسر في محاربة النفوذ المملوكي في البلاد ويميلون إلى الجانب العثمانيّ لتدعيم سلطتهم.

ومع إنتقال الإمارة من المعنيين إلى الشهابيين تبّدل الأمر فأخذ نفوذ هذه العشائر يتضاءل بسبب إعتماد سياسة التفرقة وضرب مصالح القبائل بعضها ببعض للتخلص من نفوذهم.

في الفترة الأولى كان الإقتصاد يعتمد على الإنتاج المحليِّ من زراعة وصناعة وتجارة، أمّا في الفترة الثانيّة أخذ الإقتصاد يتجه نحو الإنفتاح على الخارج بإتجاه أوروبا وأخذت أرباح التجارة طبقة جديدة من التجار التي أسست مراكز لها على سواحل لبنان وكان لها عملاء في الداخل وظلت اليد الفلاحيّة تنتج المواسم الزراعيّة من غلال وتبغ وحرير لكن الفائدة الكبيرة كانت للتجار.

عندها إنتقل النفوذ السياسيّ من أصحاب العقارات والمزارعين إلى الوسطاء وأصحاب المؤسسات التجاريّة.

من هنا أخذ نفوذ العائلات الحماديّة في بلاد جبيل بالتراجع وأنتهى بإنتقال الملكيات من هذه العائلات المالكة إلى الخواجيّة العمشيتيّة وسواها.

لذلك نلاحظ بأنَّ في جبيل الوسطى وبالأخص داخل علمات وجوارها وخلال القرن التاسع عشر إنتقال الملكيات بواسطة البيع من مالكيها الأساسيين إلى وسطاء في الخدمات وفي التجارة.

بيعت بعض الأملاك إلى الأديرة المارونيّة في زُمر، ونبع طورزيا، وأملاك أخرى في الورديات، ووطا يعقوب، والمخاضه - اللقلوق إلى مُتنفذين من آل جبرايل والخوريّ في إهمج؟ وكان هناك تبادل للملكيات بين القرى في وسط بلاد جبيل كما حدث مثلاً ما بين علمات وإهمج.

وكانت عمليات البيع والتبادل تتم برضى وقبول بين الفرقاء دون أي إعتبار للمذاهب أو الطوائف وغالباً ما تتم بين الأصحاب والأصدقاء وذوي القربى.

نعود بالطبع إلى علمات فهي أكبر تجمع شيعيّ في جبل لبنان في وسط بلاد جبيل تمتد على مساحة 25كلم2 وتضم عائلات عواد، وحيدر أحمد، وخير الدين، وشقير، وبدير، وحيدر حسن.. إن المجال الحيوي في الإقتصاد كانت الزراعة وهي، زراعة الحبوب: قمح، وشعير، وحنطة وتحولت المنحدرات فيها إلى جلول تزرع حتى أعالي المسطحات الجبليّة ونذكر هنا بأنَّ الإقتصاد كان مُغلقاً ولا سيما أبان الأزمات والأحداث والاضطرابات حيث أن طريق البحر كان يغلق أمام التجارة بين الغرب والشرق.

ظلّ أهالي القريّة أيام الحرب العالميّة الأولى يقومون بأعمال الزراعة ولم تدم فترة الجوع طويلاً، ولم يشجع الإنتداب الفرنسي الزراعة والصناعة بعد الحرب الأولى فنلاحظ الهجرة الكبيرة بعد الحرب كذلك بيع الأراضي لتأمين ناولون السفر.

أمَّا بالنسبة للحياة الإجتماعيّة داخل علمات وجوارها فكانت تحلّها علاقات الود والإحترام المتبادل ما بين تلك العائلات.

ففي الداخل كانت العائلات تحتكم إلى وجهائها. وعند أخذ القرار يجتمع وجهاء العائلات ويوحدون رأيهم ويقسمون على عدم الخلل أو التراجع عن تلك القرارات المتخذة على أنفسهم أو على أفراد عائلاتهم مهما كان الأمر لإنَّ الثقة والشرف والكرامة هي الغالبة عليهم.

وعند أخذ القرار كانوا يُغلِّبون المنفعة والمصلحة العامّة، لذلك كان الوجهاء عبارة عن مجلس شيوخ للشورى، أو لجنة إنماء لمناطقهم كما هي حال البلديات في وقتنا المعاصر.

أمَّا في وقتنا الحاضر تخلى المجتمع عن هذه النظرة الجماعيّة واتجه النّاس نحو الفرديّة والأنانيّة الذاتيّة وسيطرت النظرة الإقتصاديّة الفرديّة، وأخذ الأفراد ينظرون إلى منافعهم الخاصّة وسعوا إلى جمع النفوذ المالي مع التطلع إلى الجاه والنفوذ السلطوي. وهذا منحدر خطير للأخلاق الإجتماعيّة والوطنيّة.

نلاحظ أيضاً في ظل السيطرة الفرديّة رواسب مساوئ الروح العشائريّة التي تقوم على الإستعلاء وبدون وجه حقٍّ على الآخرين وتعيد الهمجيّة إلى المجتمع وتبتعد عن حقوق الإنسان العالميّة.

إني أدعو إلى قيام هيئات شيوخ إنماء في قرانا من المتنورين وأصحاب النظرة الإجتماعيّة الخيّرة لتقديم النصح والتوجيه ومراقبة أعمال الهيئات البلديّة والإختياريّة، وللقيام بدراسات مشاريع إنمائيّة صغيرة كانت أم كبيرة لإفادة هذا المجتمع الذي ننتمي إليه وتوجيه الإقتصاد وتنميته عُمرانياً وإجتماعياً.

عندها نكون قد جمعنا نشاط الجيل الفتي إلى خبرة الكبار المُثقفين وأنطلقنا بخطى ثابتة نحو المستقبل.

فنكون قد جمعنا الأصالة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وبنينا عليها كُلَّ ما يلزم من تطور وحداثة في عالمنا الحاضر وكل ما تتضمنه حضارة القرن الواحد والعشرين.