أزمة العقل العربيّ نحو الحكم والحكومة

26/09/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

إنَّ رفض السواد الأعظم من العرب في الحجاز والعراق والشام للخلافة الراشدة المتمثلة بسبط رسول الله(ص)، الإمام الحسن بن عليِّ بن أبي طالبL، في عام 41 للهجرة الموافق عام 661م. واختيارهم وتقديمهم لمعاوية بن ابي سفيان عليه كان السبب في الفتنة الكبرى للعقل العربيِّ أمام الحكم والحكومة في الإسلام. حيث لا زالت إرهاصات تلك الفتنة وآثارها ماثلة في تاريخنا وحاضرنا العربيّ بين المؤهلات والصفات التي يتمتع بها الخليفة الراشد وحرصه على العدالة وحقوق الإنسان وحقن دماء المسلمين من خلال كتاب الله تعالى وسُنَّة رسول الله مُحمّد(ص). وبين الملك الذي يحاول أن يكسب الملك ويحافظ عليه له ولذرَّيته مُتوسلاً ذلك بشتى الوسائل. وحتى بإنتهاك حقوق الإنسان وإذلاله. فقد حاولت جماعة معاوية بن أبي سفيان وبني العباس بعد ذلك تشويه صورة الإمام الحسن(ع)، وتصويره للرأي العام الإسلاميّ وللتاريخ بصورة تخالف الحقيقة والواقع. منها قول السيوطي في تاريخ الخلفاء: «وُلّيَ الحسن (رضي الله عنه)، الخلافة بعد قتل أبيه بمبايعة أهل الكوفة له، فأقام فيها ستة اشهر وأياماً، ثُمّ سار إليه معاوية ـ والأمر إلى الله ـ فأرسل إليه الحسن يبذل له تسليم الأمر إليه، على أن تكون الخلافة من بعده، وعلى أن لا يطالب أحداً من اهل المدينة والحجاز والعراق بشيء ما كان ايام أبيه، وعلى أن يقضي عنه ديونه، فأجابه معاوية إلى ما طلب، فتصالحا على ذلك، فظهرت المعجزة النبويّة في قوله(ص)يصلح الله به بين فئتين من المسلمين وَنزلَ له عن الخلافة»(1).

وفي هذا الكلام الذي أورده السيوطي تزوير لحقائق تاريخيّة كثيرة:

 

أولاً: تآمر قسم من بني العباس بن عبد المطلب(رض) على الإمام الحسن بن عليِّL، وانضمام قائد الجيوش العراقيّة عبيد الله بن العباس مع ثمانيّة آلاف من معسكره إلى معاوية بعد أن أغراه معاوية بالمال والولاية. ولعلّ ما جاء في خطبة الصحابيّ قيس بن سعد بن عبادة في البقيّة الباقيّة الصامدة من الجيش العراقي يوضح ذلك، حيث جاء في كلامه:«أيّها النّاس: لا يهولنكم ولا يعظمنَّ عليكم ما صنع هذا الرجل المولّه إنّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إنّ أباه عم رسول الله(ص) خرج يقاتله ببدر فأسره أبو اليسر كعب ابن عمرو الأنصاري، فأُتي به رسول الله فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين. وانّ أخاه ولاّه عليِّ البصرة فسرق ماله ومال المسلمين. فاشترى به الجواري وزعم أنّ ذلك حلال. وأنّ هذا ولاّه عليّ اليمن فهرب من بُسر بن ارطأة وترك ولده حتى قُتلوا. وصنع الآن هذا الذي صنع(2)».

ثانياً: تآمر القسم الأكبر من قادة جيش الإمام الحسن وهم رؤساء القبائل العربيّة في العراق عليه بإيعاز من معاوية. [«إنَّ معاوية دسَّ إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وحجار بن أبجر، وشبث بن ربعي، دسيساً أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه، إنّك إذا قتلت الحسن فلك مائة ألف درهم، وجند من أجناد الشام وبنت من بناتي فبلغ الحسن(ع)، ذلك فاستلأم ولبس درعاً وسترها وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة إلا كذلك فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة»(3)].

وقيام عدّة محاولات من قبل جيش الإمام الحسن بإغتياله منها ما قام به الجراح بن سنان من ضربه(ع)، بالسيف ووقوع الطعنة في فخذه حتى بلغت العظم وقوله له: الله أكبر يا حسن، أشركت كما اشرك أبوك من قبل.

وقيام قسم آخر من جيشه بالهجوم على فسطاطه وانتهابهم له حتى أخذوا مُصلاّه من تحته وقولهم: كفر الرجل!

ممّا يدّل أنّهم خوارج(4). يستحلّون دماء آل البيت(ع)، ودماء جميع المسلمين الّذين لا يوافقونهم بالرأي.

ثالثاً: عدم اهتمام المؤرخين والعلماء بشروط الصلح التي اشترطها الإمام الحسن بن عليّL، على معاوية والتي فيها لله تعالى رضى وللمسلمين خير وصلاح. والتي لو سار عليها معاوية وطبّقها لعاش المسلمون عصورهم الذهبيّة بأحسن حال: ومنها: «تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وسُنَّة رسوله(ص)، وبسيرة الخلفاء الصالحين، وأن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد. وأن يترك سبُّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر عليّاً إلاّ بخير. وعلى أنّ النّاس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإِحنة، وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة عليّ بمكروه، وأن أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقب عليهم شيئاً ولا يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب أصحاب عليٍّ حيث كانوا. وأن لا يبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة، سراً أو جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق. وإلى آخر ما جاء في هذا الصلح» (5).

أزمة العقل العربيّ

إن خلاص العقل العربيّ من الأزمة الكبرى والفتنة التي لا إنقضاء لها ولا نهاية لها إلاّ بتطبيق قوله تعالى على أُنفسنا:
}
إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم{ سورة الرعد، الآية:11، أمام ما قام به معاوية بن ابي سفيان وبني أُميّة وبني العباس وبني عثمان الأتراك من مخالفات لكتاب الله تعالى ولسُنَّة رسوله(ص)، وَسُنن الخلفاء الصالحين وللعهود والمواثيق الدوليّة. كما أنَّ العقل العربيّ أراد أن يتحرر من القيود والأغلال التي قيده بها معاوية أيام نهضة الإمام الحسين(ع)، وثورته بعد وفاة معاوية بن ابي سفيان وذلك في العاشر من شهر محرم عام 61 للهجرة الموافق لعام 680م. والثورات الأخرى التي إقتدت بتلك الثورة الأُم عبر تاريخنا الإسلاميّ الطويل.

قال المدائني: «أنّ معاوية لما خطب النّاس بالكوفة وقال في جُملة خطبته: كل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين! قال المُسيب بن نُجبة للحسن(ع)، ما ينقضي عجبي منك بايعت معاوية ومعك أربعون ألفاً ولم تأخذ لنفسك وثيقة وعقداً ظاهراً أعطاك أمراً في ما بينك وبينه، ثُمّ قال ما قدم سمعت والله ما أراد غيرك!. قال: فما ترى؟. قال: أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه فقد نقض ما كان بينه وبينك.

فقال: يا مُسيب إني لو أردت بما فعلت الدُنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ولا أثبت عند الحرب مني. ولكني أردت صلاحكم وكف بعضكم عن بعض فارضوا بقدر الله وقضائه حتى يستريح برٌّ وَيُستراح من فاجر» (6).

وجاء في تذكرة الخواص للعلاّمة سبط ابن الجوزي:[«قال علماء السير عن إستشهاد الإمام الحسن(ع): منهم ابن عبد البر سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي. إلى أن قال: وقال الشعبي: إنّما دسَّ إليها معاوية، فقال: سمي الحسن أزوجك يزيد وأعطيك مائة ألف درهم. فلما مات الحسن بعثت إلى معاوية تطلب إنجاز الوعد، فبعث إليها بالمال. وقال: أحبُّ يزيد وأرجو حياته لولا ذلك لزوجتك إياه» (7).

ولاية يزيد بن معاوية

ولم يكتف معاوية بمخالفته لكتاب الله تعالى وسُنّة رسوله(ص)، ولوثيقة الصلح ما بينه وبين الإمام الحسن بن عليّL، ومن ثمّ إغتياله بالسم وجعله سبَّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، وملاحقة شيعته تحت كل أُفق من الآفاق وشتمهم والبراءة منهم، سُنّة للولاة من بعده. بل أجبر بقايا الصحابة والتابعين على بيعة ولده يزيد ولم يستطع أحد النجاة من هذه البيعة غير الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر. قال السيوطي في تاريخ الخلفاء:«وفي سنة خمسين فتحت قوهستان عنوة. وفيها دعا معاوية أهل الشام إلى البيعة بولاية العهد من بعده لإبنه يزيد، فبايعوه، وهو أوّل من عهد الخلافة لإبنه، وأوّل من عهد بها في صُحته، ثمّ إنّه كتب إلى مروان بالمدينة أن يأخذ البيعة، فخطب مروان فقال: «إنّ أمير المؤمنين رأى أن يستخلف عليكم ولده يزيد سُنّة أبي بكر وعُمر، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: بل سُنَّة كسرى وقيصر، إنَّ أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما، ولا في أحد من أهل بيتهما»(8).

كما أنَّ فقيه الدولة الأمويّة الحسن البصريّ أشار إلى ما قام به معاوية بن ابي سفيان من مخالفة لكتاب الله تعالى وسُنّة رسول الله(ص)، وتأزيم للعقل العربيّ بقوله عند قيام معاوية بن ابي سفيان بقتل الصحابيّ حجر بن عُدي وأصحابه من شيعة عليٍّ(ع)، في مرج عذراء:«.. أربع خصال كنَّ في معاوية، لو لم تكن فيه واحدة لكانت موبقة، إنتزاؤه على هذه الأُمّة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه بعده إبنه سكيراً خميراً، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقال رسول الله(ص): الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجر، فيا ويلاً له من حجر، ويا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر» (9).

وقد عبرَّ الصحابة والتابعون بأزمة العقل العربيّ الآنفة الذكر عن الذل الذي لحق العرب حيث قال عبد الله بن عباس:[«أوّل ذُلٍ دخل على العرب موت الحسن(ع). وقيل لأبي إسحاق السبيعي: متى ذُلَّ الناس؟. فقال: حين مات الحسن، وادُّعي زياد، وَقُتِلَ حُجر بن عُديّ» (10)]

ومن خلال ما تقدم نرى: أنّ خلفاء بني أُميّة في بلاد الشام والأندلس والعباسيين في العراق ومصر والعثمانيين الأتراك وخلفاء الدولة الفاطميّة في تونس ومصر والكثير من ملوك الدولة الصفويّة والدولة القاجاريّة في إيران وبلاد المشرق قد أذلّوا رعاياهم، بالإبتعاد عن الكفاءة والعدالة والشورى والإلتجاء إلى قوة المال والسيف وإستغلال نقاط الضعف عند الفقهاء ورجال الدولة للإستبداد بالأمر. والإستعلاء في الأرض والفساد بها. وما قيام مصطفى كمال أتاتورك وغيره من العلمانيين في القرن العشرين بخلع الرداء الديني عن الدولة بإسم الديمقراطيّة أو الإشتراكيّة إلاّ نُسخة أخرى عن ديكتاتورية الجيش أو الحزب الواحد وإذلال النّاس، تحت راية تعطيل العقل العربيّ عن الإبداع. وتأزيمه من جديد حول حقوق الإنسان وإحترام الآخر من خلال عناوين كثيرة.