وقف جامع اسلام جبيل بدر مضيء في سماء جبيل

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

المحامي الأستاذ نديم بهيج اللقيس

لا يسعني بداية إلاّ إبداء تقديري وامتناني لمجلتكم الغراء التي تتيح لنا الإطلالة على الرأي العام اللبنانيّ بأبهى الحلل والصور وأبلغ الكلام والعبر، نطرح على صفحاتها الرصينة قضايانا والمشكلات، وندافع بواسطتها عن رؤانا وأفكارنا ومطالباتنا، نسخرها للذود عن مدينة الأجداد ومهد الحضارات ومنشأ الثقافات بيبلوس ـ جبيل، بما يحفظ تراثها ويعلي شأنها ومكانتها ويسطر بأحرف من نور تاريخ أعلامها ورجالاتها الأشاوس ممن أغنوا تراث الإنسانيّة عامّة والتراث الجبيليّ التليد بمناهل الخير وشلالات العطاء والثواب والتضحيّة والنماء وأشعلوا على سفوح هذه المدينة التاريخيّة الأصيلة مشاعل نور لن ينطفئ لها أوار أو يفت من وهجها مدار.

وللمناسبة. ولما كانت قد وردت في متون مجلكتم الكريمة مراراً وتكراراً عبارات تتعلق بمنشآت ومؤسسات قائمة على أملاك تخصُّ وقف إسلام جبيل.

ولما كان قد أشير إلى هذا الوقف التراثيّ الجبيليّ العملاق المعروف بـالأوقاف الإسلاميّة تبعاً لما جاء في الصفحات 10و75 من مجلتكم الرصينة.

وبما أني أتقلد شرف الدفاع عن مكتسبات هذا الوقف الجبيليّ العملاق المعروف بـ  وقف جامع إسلام جبيل ومقوماته وعناصره القانونيّة وحقوق ومصالح أهالي مدينة جبيل المسلمين المتعلقة به والمستمدة منه منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن.

ووضعاً للأمور في نصابها الصحيح.

أرى من واجبي إيضاح ما يلي:

أولاً: في نشأة وقف جامع إسلام جبيل(نبذة تاريخيّة):

يعود تاريخ إنشاء هذا الوقف الإسلاميّ الجبيليّ الزاهر إلى ايام الحقبة العثمانيّة تبعاً لمدونات ومحفوظات سجل لبنان القديم التابع لدفتر كسروان، وقد أرسى دعائمه المسلمون الجبيليون أنفسهم وسموه بإسمهم ودعوه بكنيتهم للدلالة على نبل محتدمهم وأصالة تاريخهم وأثالة وجودهم المتجذر في أرض مدينة التاريخ بيبلوس ـ جبيل وتمرسهم في المناقب والمكارم وفضائل الأعمال ـ وكان يعرف في ذلك الوقت بإسم:وقف جامع المحل نسبة إلى الأهالي الجبيليين المسلمين القاطنين بجوار الجامع الأثري الكبير المعروف اليومبجامع السلطان عبد المجيد وهم تجمع عائلات الحسامي ـ اللقيس ـ زين الدين ـ رضوان وغيرهم.

ومن ثُمّ تداول أبناء هذه العائلات الجبيليّة الكريمة رئاسة وعضويّة اللجان المحليّة وأشرفوا بذاتهم على إدارة هذا الوقف وتطويره وتحسين مرافقه ومنشآته والزيادة عليها وتنميتها وحمايتها من عبث العابثين وغضب الطامعين والمعتدين جيلاً بعد جيل وعهداً بعد عهد وحولاً بعد حول، بجدارة وأمانة وشجاعة وروح من المسؤوليّة العاليّة قل نظيرها، نذكر من هؤلاء الأعلام الميامين المغفور له الشيخ حسين الحساميّ  الذي كانت له اليد الطولى في درء المخاطر والتجاوزات والتعديات عن حرمة أملاك هذا الوقف ومنشآته ومرافقه كافة في الثلاثينيات من القرن الماضي.

ومن ثُمّ، وبعد إختتام أعمال التحديد والتحرير في مدينة جبيل ونقلاً عن سجلات دفتر لبنان القديم ومدوناته، تولى المغفور لهما سليم عبد الحميد اللقيس وحسين عبد الله اللقيس تسجيل هذه العقارات الوقفيّة الكائنة في قلب مدينة جبيل على إسم: وقف جامع إسلام جبيل بموجب محاضر تحديد وتحرير رسميّة منظمة وفقاً للأصول ومصادق عليها من قبل القاضي العقاري في بيروت بتاريخ 25 تشرين الثاني 1949م، كما أناطا إدارة شؤون هذا الوقف الجبيليّ التاريخيّ بتولية لجنة محلية متكونة حصراً وتحديداً وتخصيصاً من عموم إسلام جبيل ـ وحدهم دون سواهم.

وأوصيا بأن يعود ريعه إلى إسلام جبيل لوحدهم ايضاً، كما هو ظاهر بشكل جلي واضح في صلب مندرجات هذه المحاضر التي نبرز في معرض مقالتنا هذه، صوراً طبق الأصل عنها.

ثانياً: في الوضعيّة القانونيّة والإداريّة والإجتماعيّة الراهنة لوقف جامع إسلام جبيل ودوره الدينيّ الطبيعيّ الرفيع:

إنّ وقف جامع إسلام جبيل تبعاً لما سبق بيانه وإيضاحه، هو وقف جبيلي تراثي فريد ومميز يتمتع قانوناً بإستقلاليّة ذاتيّة ومطلقة وشاملة من وثائق الوقفيّة ومحاضر التحديد والتحرير المسجلة أصولاً في قيود السجل العقاري والدوائر العقاريّة  في جونيه ومن شرط الواقف المسطر بوضوح وصراحة وعلانيّة في متن القيود العقاريّة العائدة لأملاك هذا الوقف وعقاراته المسجلة بأرقام:615 ـ 698 ـ 702 ـ 708 ـ 709.

علماً أنّ شرط الواقف هو من الناحيّة القانونيّة والشرعيّة كنص الشارع.

كما يضطلع هذا الوقف النهضويّ المعطاء برسالة دينيّة وإجتماعيّة وتثقيفيّة وتنويريّة جليلة وساميّة، إذ يضم بين حناياه مساجد وجوامع ومراكز دينيّة شريفة يرجع تاريخ البعض منها إلى أيام الفتوحات العربيّة والإسلاميّة لبلادنا، ويقوم فضيلة إمام المركز الإسلاميّ في جبيل الشيخ غسّان اللقيس(جزاه الله خيراً) برعاية شؤونها والعناية بأوضاعها والحفاظ على طابعها الدينيّ التاريخيّ الجميل وتراثها المعماريّ المهيب وتشكل نموذجاً فريداً ورائعاً للعمارة الإسلاميّة ورونقها واتساق بنائها ومعالمها، ومنها جامع الخضر الرابض على تخوم شاطئ الرمل وجامع الصيادين المطل على المرفأ الفينيقيّ الساحر لمدينة جبيل وجامع السلطان عبد المجيد الأثري الشهير المجاور لقلعة جبيل.

ومن بدائع هذا الوقف وأنواره الحضاريّة الساطعة، المركز الإسلاميّ لمدينة جبيل الذي وضع لبناته الأولى ورفع مداميكه وأرسى دعائمه في الثمانينيات من القرن الماضي رئيس اللجنة المحليّة الأسبق لوقف جامع إسلام جبيل السيّد بهيج سليم اللقيس(جزاه الله خيرا وأمدَّ بعمره)، ليكمل بناءه وتشييده فيما بعد فضيلة الشيخ غسّان اللقيس ويجعلا منه واحة تلاق وتآخ وحوار وتواصل وتفاعل ثقافيّ وحضاريّ وإجتماعيّ بناء بين مكونات المجتمع اللبناني عامّة ومؤسسات المجتمع الروحي والمدني في مدينة جبيل وقضائها بشكل خاص.

كما نخصُّ بالذكر في هذا المضمار الزاخر بالمكرمات والمآثر وفضائل الأعمال، السيّد إبراهيم زيدان اللقيس والدكتور سامي حسين اللقيس والمغفور لهم: عبد الله قاسم الحساميّ وعلي حسن زين الدين وأنيس مرشد زين الدين ومحمد خليل الزهر الّذين ساهموا أيضاً في مسيرة تطوير هذا الوقف وتوسيع منشآته وتعزيز مداخيله والحفاظ على مكتسباته ومقدراته، وكانوا مثالاً يحتذى في ميادين الخير والبّر والترفع والتجرد والصلاح والتقوى ونكران الذات.

وعليه، وبناءً لما تقدم ذكره وتبيانه:

فإنّ هذا الوقف التراثي الجبيليّ الأثيل أنشأه السلف الصالح من ابناء مدينة جبيل المسلمين على مرّ الأزمنة والعصور بعرقهم وجهدهم ومالهم الخاص، ولا يندرج ابداً في سياق الأوقاف الإسلاميّة.

وبالتالي: فإنّ وقف جامع إسلام جبيل لا يشكل أبداً جزءاً من الأوقاف الإسلاميّة العامّة أو تابعاً لها، بل هو وقف جبيليّ محلي بإمتياز أنشئ خصيصاً ووقفت عقاراته ومنشآته ومؤسساته وذمته الماليّة حصراً وتحديداً لخدمة مصالح وحقوق ومتطلبات واحتياجات  أهالي مدينة جبيل المسلمين وإنجاز المشاريع الضروريّة والملحة التي تحقق لهم التقدم والتطور والحياة الحرّة والعيش اللائق الكريم على مختلف الصعد والميادين، الدينيّة منها والثقافيّة والإجتماعيّة والمعيشيّة والإقتصاديّة والعمرانيّة والتنمويّة كافة.

كما هو وقف مستقل بإدارته وتوليته والإنتفاع بريعه وعائداته وملكيته لعقارات شاسعة تمتد على أكثر من ثلث مساحة مدينة جبيل القديمة، لا بل هو ينصهر في صلب تاريخ هذه المدينة العزيزة وجوهر وجودها ومعالم نهضتها ونسيج عاداتها وتقاليدها، ويشكل بمحلاته ومؤسساته وقطاعاته الوافرة والمتناهيّة مجتمعاً جبيلياً نموذجياً بتنوعه وتعدديته، رائداً بتسامحه ونبله وعطاءاته وتعايشه ونبذه للأحقاد والعصبيات والمذهبيات، مضيفاً إلى أبجديّة جبيل السالفة الحرف الأسطع والأبرز والأنور، حتى  ليصدق في هذا الوقف التاريخيّ الماجد وبناته الجبيليين الميامين مقولة أبي العلاء:

          وإني وإن كنت الأخير زمانه

                                                 لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

                                                                        مع فائق الشكر والإحترام