ملحمة الهجرة ومعاناتها...ما أشبه اليوم بالأمس

29/9/2015
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: داود أفندي بركات

 الأديب والصحافي اللبنانيّ الكبير داود بركات، كتب في عام 1925م. أي قبل تسعين عاماً عن قضيّة الهجرة اللبنانيّة السوريّة إلى البلاد الأمريكيّة وغيرها، باحثاً ومؤرخاً ومعالجاً وكأنّه يعيش في أيامنا هذه آمال وأمانِ اللبنانيين في الهجرة والمهاجرين وعودتهم إلى بلادهم ولو بعد حين. وذلك تحت عنوان: المهاجرون السوريون واللبنانيون.(1)

نورده بدورنا، كوثيقة مهمة حول الهجرة اللبنانية لما تضمنه من حقائق احاطت بالانتشار، ولما فيه من وصف دقيق معبّر عن الحالات النفسية والمعاناة الكبيرة التي رافقت ولا تزال ملحمة الاغتراب.

لو درى يَعربُ ان نابتة(2) سوريا(3) ستحمل لسانه الى شاسع الاقطار ومترامي الامصار، والى ما عُمر من الارض وما لم يُعّمر، والى من تمّدن من الأمم والى من لم يتحضّر، والى كل ناضرة(4) غاضرة(5) ويابسة ويّم، حتى انه لم يبق من هذه الكرة موطىء قدم لم تطأه اقدامهم، ولم يٌرتّل فيه لسانهم، ولم يبق صدىً من أصداء الكون لم يردد نبرات ذلك اللسان، لخصّهم من لسانه بالحمد، ولأشركهم من اسمه بالشطر الأكبر والسهم الأوفر والحروف الأشهر.

حملوا الى كل بقعة ومصر ذلك المنطق العربي الجزل(6) مقروناً بالفضيلة والنبل، وبالهمة القعساء(7) تطاول النجوم لو طليت، بالبسالة والشجاعة لا تعرفان صعباً. كأنما الصعب لم يُخلق في الاكوان، ولا تريان جزعاً ولا وجلاً، كأنما الجزع(8) والوجل(9) لم تئب(10) بهما خلق الانسان. فكل صعب سهل عليهم وكل ارضٍ وطنٌ لهم، وكل امة بعض أمتهم، فسلام عليهم في مطارحهم ومسارحهم، وتحية لهم في مرامي غربتهم، وكرة الارض كلها، مسرحهم وموطنهم، فما كانوا في مشرق فيها او مغرب غرباء.

ما ضاقت سوريا بأبنائها فأعسروا، فهجروها، ولكن همتهم أكبر من متسعها مهما اتسعت. وهذا بسيط الارض كادوا يعدّونه ضيّقاً بهم. ولكن، أبى كبيرهم الاّ المزيد وصغيرهم الاّ الكبر، فضربوا بين مناكب(11) الارض، لا يعرفون لها حدّاّ، ودفعت بهم همّتهم الى كل مهد حتى لا يكادوا يجدون مهداً. ولكنهم لم ينسوا لبنان منبت أسلتهم(12) ومغرب عسلتهم(13)، فكل جمال في عيونهم هو دون جماله، وكل أريج دون عبق أريجه، ولم ينسوا دمشق، فكل جنة دون جنانها، وكل روضٍ دون رياضها. وكل ما في لبنان وسوريا يحنّ اليهم، من صخر جامد الى غصن نابت الى زهر أريج الى طيرٍ مغّرد. فهل هم في مطارح النوى(14) ناسون؟

نسائل لبنان وأرزه وجلق وغيضتها (15) وحلب وحمص وطرابلس وحماه وبيروت وفلسطين عن نابتتها النافرة (16) الى كل صقع ومِصرٍ فيكاد يخلص الينا من جوانبها صوت الأب السيار بولده يئن لفراقه ويطرب بمجده وعليائه.

ونستنطق من تلك الربوع شُمّ (17) الجبال وقاع الوهد وصفحة السهل وقنّة (18) النجد، فيسترعي سمعنا دبيب الحنين في جنباتها ونُحسّ من صمتها بحسّ الشوق في عرصاتها(19)، بل ينطق فيها كل صامت فتقول لك الدّار اين ربيّ منّي، والحقل أين زارعي عنّي، والجبل أين من يتسلقني، والسّهل أين من يطأني، والوادي أين من يردد صوته في العشي والاوصال(20). ويدّب فيّ مدّ روح الحياة، روح الفخر والآمال، فلم يبقَ لي أو فيّ الا خرير الماء وحفيف الشجر، وذكرى ايامي الغّر. ومجد تلك الايام لا تمحوه عاديات الدهر.

أجل لقد خلت ديارنا من أهلها أو كادت، وهجرها أبناؤها إلاّ من اقعده عن الهجرة العجز او عقّلته فيها الشيخوخة الى جانب الرَمس(21).

فإذا فرحنا بمال يجمع وبمدنية تٌكتسب وبإنتشار في الارض عظيم مُمجّد، فكيف ننسى ما نهدّد به غداً من قطع الصلة بمن هم أفلاذٌ من أكبادنا وبمن هم حياتنا اذا أردنا الحياة، وعتادنا اذا أعوزتنا العدة، وخلفاء أجدادنا وآبائنا الأماجد اذا تقنا الى أن تحفظ السلالة إرث الغابرين ووطن المتقدمين.

خلت من أهلها او كادت، فكيف تفرح سوريا أو لبنان وقد ذهبت من كل بيت زهرته ومن كل قرية شبابُها، وكيف يعيّد اعياده أو تزهو أعراسه، أو تطرب مجالسه ومن بقوا فيه اذا ذكروا الفرح تذكروا شبانهم الغائبين وابناءهم البعيدين. فتغّنوا بالشوق والفراق والتمنّي والدعاء، فكان غناؤهم حنيناً ترافقه الصعداء تنفسها جوارحهم، وذكر الاحبة تختلج بها نفوسهم وتدمع لها عيونهم، وتستعصي على الثغور ابتساماتهم.

أهل إني أسطّر هذه الكلمة وصفاّ لحالتهم فيمتزج دمي بالمداد(22)، بعد ما رأيت الدموع تنتثر عندهم في الافراح والاعياد انتثارها في المآتم ومواقف الحداد، وبعد ما تذكرت وأنا واحد منهم، أهلاً لي غياباً كأهلهم واخوة كأخوتهم، وأحبّة كأحبتهم، ورفاقاً تداعبنا صغاراً وتلاعبنا مراهقين خفافاً في الحقل والروضة والنهر والوادي وحول النبع والمعبد متماسكي القلوب قبل الايدي، متحدي النفوس قبل المنافع مبتسمين للأمل لا نخشى التفرّق مترابطين بالإخاء بأحكم من رباط المكاتبة.

فيا ذكرى أيام الصبا والشباب. ويا ذكرى الأهل والأحبة والأقارب والوطن والآخاء هزّي قلبَ كلّ هاجر بعيد. هزّيه الى أهل يرقبون عودته، ورفاق يحبونه ووطن يعّز به ويحن اليه. وذكّريه بدمعة أمٍ فارقها وانقباض اب غادره ووهن اخت تركها وبيت خلا منه وبأقارب نأوا عنه. هزّي قلبه ولا تنغصيه، ليذكر ولا ينسى.. فما وجد المغترب عن أهله، بدلاً ولا عن وطنه، عوضاً.

أقول هذا وقد إستفاض من جوارحي ولم أكٌن أقصده من كتابتي الى «الهدى». ولكن من زار بلادنا ورأى حالها بعد تفشي داء المهاجرة، لا يتمالك عند كتابته الى صحيفة في المهجر من أن يوجه الى المهاجرين كلمة التذكير بأهلهم البائسين، ووطنهم المتداعي الى الخراب، وجامعتهم المهددة بالانفراط. ولو أن المهاجرين منا كانوا كالمهاجرين من الامم الاخرى يتفيأون ظلّ علمهم اينما حلّوا وكنف أمتِهم ودولتهم أينما نزلوا ويظل أبناؤهم في مدارسهم ولغتهم اينما حلوا، لأمنَّا عليهم من أن نخسرهم ونخسر سلالتهم بعدهم، ولطابت نفوسنا على مرارة البعد بهذا الامل. ولكن أين نحن من هذا، والامل ضائع والجد عاثر؟ فعلمنا الخفاق فوق رؤوس المهاجرين في مطارح الغربة هو العلم العربي، كـ «الهدى» يظل مجاهداً في سبيل الوطنية داعياً الى إحكام روابط الجامعة السورية، ناشداً الدعوة اللبنانية... منشداً ذكرى الأهل والأحبة مجدداً ذكر التاريخ الغابر، فليس أفضل من التاريخ مذكّراً بالخلف وللنائي بما نسي او تناسى او اغفل. ولم ارَ كصاحب «الهدى» مكرراً على اخواننا ذكرى اهلهم وجمال بلادهم، جزاه الله عن جهاده خيراً وسلامُ عليه وهنيئاً له في معمعان الجهاد.

ضلّ قوم في هذا العصر، يظنون أن الحضارة والمدنية والكرامة والشرف والفضائل والنعمة، مالٌ وفيرٌ وملبسُ انيقٌ وفراشٌ وثيرٌ

 

 

ومأكلٌ طيب ومشرب عذب، فاستهوتهم هذه الزخارف وقالوا في انفسهم أين آباؤنا منا. والله لفقر اولئك الآباء مع المال الحلال يُجمع درهماً درهماً من قطرات عرقهم قطرة قطرة لأوفر من مال تشوبه شائبة الحرام فيجمع بدرة بدرة أو يبذل له ماء الوجه فتكون الكرامة به ثمناً. ولعباءة تُلبس على الصحة والعافية خير من الدمقس والحرير على السآمة(23)، ولحصير يٌفترش مع راحة البال والضمير لأدعى الى الراحة من ريش النعام والقطن المهلهل، والمأكل الجشب(24)، أفضل من الطيّبات مع القوة والنشاط. وهل من مجدٍ افضل من مجد قوم شُنّت عليهم الغارات من المشارق من يوم وجدت المشارق، ومن المغارب من يوم وجدت المغارب، فثبتوا بين زعازع الحروب والأهواء ثبوت جبالهم وحفظوا كما يحفظ الضنين، كنوز فضائلهم وآدابهم. اذا ذكر العالم الشجاعة كان الواحد منهم بألف، واذا ذُكرت الامانة كانوا هياكل تُمثلها، واذا ذكر الصدق كانوا الصدق مجسداّ، واذا ذكر الكرم كانوا اكرم من بسط يداً.

بل لا ندري أية فضيلة لم تكن من أخلاقهم، وأيّة رذيلة استطاعت ان تحوم حول ديارهم. أصون العرض، وما كان عرضهم الا موفوراّ! أبذل الجهد وقد كوّنوا من الصخور مزارع وحقولاً! أإكرام الضيوف وقد كانت منازلهم فنادق ونزلاً! اكرامة النفس وما ذلّوا لغير خالقهم يوماً.

ام الأمانة، والعجوز تحمل التبر على رأسها وتطوف ديارهم آمنة؟ أم التساوي في المقام، وما كبُر منهم كبير على صغير، وما حقّر منهم حقير لكبير. وها نحن أبناءهم، لا يذكر أحدنا إسرته او عترته(25) الا وهو فخور بها مدل بشرفها وكرامتها.

فإذا ذكر المهاجرون هذه الصفات في آبائهم ووطنهم ضنّوا(26) بها من أن تضيع وحرصوا عليها من أن تزول، وحَقُرت في عيونهم عظمة ما يرون من الزخارف أمام ما فيهم وفي آبائهم من عظمة الفضائل الصحيحة وإن لم تُطّل بالزخرف الزائل المموه الخادع. وإذا رأوا المرأة وشأنها في الهيئة الاجتماعية فليذكروا أمهاتهم ربّات البيوت توارثن فنّ الاقتصاد، فكانت كلّ واحدة تزرع القطن وتربي الحرير وتجّز الصوف وتغزله وتنسجه وتخيطه لذويها وبيتها وتشارك زوجها في عمله وتعبه. فلم تكن في بيتها انثى فقط بل كانت إمرأة وأماً وربة البيت الطابخة النافخة والحائكة والمربية والمهذبة.

واذا رأوا الاعمال الكبيرة في غير بلادهم فليتعلموا الحياة الاجتماعية، وإن ذلك نتيجة اشتراك الجماعة بما لا يستطيع الفرد أن يقوم به. فالسكك الحديدية تمدّها الجماعة بمساهة الافراد، والانهر تشق خلجانها وأقنيتها الشركات والجبال تخرقها وتدكها مؤسسات المقاولة. فإذا تعلمنا ذلك في بلداننا وعملناه، استطعنا أن نحوّلها الى جنة واستطاعت أن تدر علينا خيراً جزيلاً، يغنينا عن الهجرة والغربة وتحمّل المشاق والامراض والاسفار لنيل الرزق ببيع لذة الحياة وأطايب العمر.

وهؤلاء إخواننا المهاجرون الذين جمعوا بعض الاوائل تراهم اذا عادوا الى وطنهم يبنون الدورَ فقط، ولو انهم اجتمعوا عشرات وألّفوا من أنفسهم شركات ببعض ما عندهم من الاموال لعمروا الاراضي البائرة واستدروا الخيرات ولحولوا بلادهم واخصها لبنان الى جنة غناء.

فسلام عليهم في غربتهم وسلام على «الهدى» وعلى الصحافة في المهجر التي تقيم نفسها مرشداً وهادياً ومذّكراً لهم في وطنهم.

 

الهوامش:

ـ شرح أهم المفردات الواردة في هذا النص:

(1) رئيس تحرير جريدة الأهرام ـ القاهرة، مصر، 1925م. المصدر كتاب الزعيترة في «تاريخ لبنان المناطقي» الأستاذ انطون يوسف سعادة. ط. 2015م. ص 557 ـ 558 ـ 559 ـ 560. جاء في المُنجد في اللغة والآعلام:( بركات (داود) (1867 ـ 1932): أديب لبناني من كبار رجال الصحافة. تولى الأهرام بعد وفاة بشارة تقلا 1901، ص 121، ط. 22 سنة 1997م. دار المشرق ـ بيروت.

(2) نابتة ـ أبناء، ناشئة.

(3) سوريا ـ سوريا الكبرى ومن ضمنها لبنان.

(4) الناضرة ـ ناحية خضراء.

(5) الغاضرة ـ كثيرة المياه.

(6) الجزل ـ الفرحز.

(7) القعساء ـ القوية، الثابتة.

(8) الجزع ـ القلق، قلة الصبر.

(9) الوجل ـ الخوف، الفزع.

(10) تئب ـ تجيء.

(11) مناكب ـ جهات.

(12) أسلة ـ رأس اللسان وحده.

(13) عسلتهم ـ طعم عسلي، مذاقهم الطّيب.

(14) النوى ـ البعد، الغربة.

(15) الغيضة ـ موقع كثير الشجر.

(16) النافرة ـ المتفرقة.

(17) شم الجبال ـ قممها.

(18) قُنّة ـ ذروة.

(19) عرصات ـ مساحات ليس فيها بناء.

(20) الاوصال ـ الفجر.

(21) الرمس ـ طمس الاثر، دفنه، رمس ميتا.

(22) المداد ـ الحبر.

(23) السآمة ـ الفجر.

(24) الجشب ـ غير الدسم.

(25) العترة ـ الاسرة، الاهل.

(26) ضنّ ـ تجنب الاكثار، شديد التمسك.