النَّهْضَةِ الحُسَيْنِيَّة؟

20/1/2017
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الشاعر الدكتور الشيخ عبَّاس فتوني

غَيرُ خافٍ، أَنَّهُ حِينَ رَحَلَ مُعاويةُ بْنُ أَبي سُفيانَ عَنِ الدُّنيا، في النِّصفِ مِنْ شَهرِ رجبَ، مِن سَنَةِ سِتِّينَ هِجْريَّة، تَسَلَّمَ ابنُهُ يَزيدُ مقالِيدَ الحُكم، وكانَ كُلُّ هَمِّ هذا الأَخيرِ يَزيدَ، أَنْ يَأخُذَ البَيعةَ منَ الإِمامِ الحُسَينِ (ع)، لماذا؟ لِيَدعَمَ حُكمَهُ المُضطَرِبَ، فماذا فَعَل؟ أَرسَلَ إِلى والِيهِ في المدينة، أَلاَ وهوَ الولِيدُ بْنُ عُتْبَة، وأَوْعَزَ إِليهِ أَنْ يَأخُذَ البَيعةَ منَ النَّاسِ عامَّة، ومنَ الإِمامِ الحُسَينِ(ع) خاصَّة، فماذا كانَ مَوقِفُ الإِمامِ الحُسَينِ (ع)؟ هنا أَعلَنَ الإِمامُ موقفَهُ المَبدئيَّ الصَّريح، حِينَ قال لِلوالي: «إِنَّا أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّة، ومَعدِنُ الرِّسالة، ومُختَلَفُ الملائِكة، بِنا فَتَحَ اللهُ، وبِنا يَخْتِم، ويَزيدُ رجُلٌ شاربُ الخُمورِ، وقاتلُ النَّفْسِ المُحَرَّمة، مُعْلِنٌ بالفِسْقِ، ومِثْلي لاَ يُبايِعُ مِثْلَه، ولكِنْ نُصْبِحُ وتُصْبِحونَ، ونَنْظُرُ وتَنْظُرونَ، أَيُّنا أَحَقُّ بالخِلافَة».

وأَصَرَّ يَزيدُ على ضَرورةِ أَخذِ البَيْعةِ منَ الإِمامِ الحُسَينِ (ع)، وإِلاَّ تَعَرَّضَتْ حياتُهُ لِلخَطَر، فاضطُرَّ الإِمامُ الحُسَينُ (ع) إِلى مُغادرةِ المدينةِ، والتَّوجُّهِ إِلى بَيتِ اللهِ الحرامِ في مَكَّة، حيثُ تَبدو الظُّروفُ الأَمنيَّةُ أَكثَرَ مُلاءمةً، ويَتَّسِعُ المَجالُ بِحُرِّيَّةٍ أَكبرَ لإِعلانِ المُعارضةِ.

في مَكَّةَ المُكَرَّمةِ، أَخَذَ الإمامُ الحُسَينُ (ع) يُجْرِي اتِّصالاتِهِ برجالِ المُسلِمينَ، ويُتابِعُ أَصداءَ تَوَلِّي يَزيدَ في الأَقطارِ الإسلاميَّةِ، وبالأَخصِّ أَنباءَ التَّحَرُّكِ الثَّورِيِّ في الكُوفةِ .

في هذِه الأَثناءِ، وَرَدَتْ إليهِ رَسائلُ تأيِيدٍ منَ الكُوفةِ، تَعْرِضُ عليهِ قِيادةَ الثَّوْرَة، مِنْ هذِه الرَّسائلِ:

« الحَمْدُ للهِ الَّذي قَصَمَ عَدُوَّكَ، الَّذي اعْتَدَى علَى هذهِ الأُمَّةِ، فابْتَزَّها أَمْرَها، وانْتَزَعَها حُقوقَها، وغَصَبها فَيْئَها، وقَتَلَ خِيارَها، واسْتَبقَى شِرارَها، وجَعَلَ مالَ اللهِ دُولَةً بينَ جبابِرَتِها، فأَقبِلْ لعلَّ اللهَ أَنْ يَجمَعَنا بِكَ على الحَقِّ ».

أَمَّا لِماذا أَرْسَلَ أَهْلُ الكُوفةِ الرَّسائلَ إِلَى الإِمامِ الحُسَينِ (ع)؟

لأَنَّ أَهلَ الكُوفةِ قد عانَوْا ولاقَوُا الكَثيرَ منْ ظُلمِ مُعاويةَ ووُلاتِهِ، حيثُ قَتَلَ معاويةُ عددًا منْ شَبابِهمْ وشُيوخِهمْ، فكانَ قد كَتَبَ إلى وُلاتِهِ في الأَمصارِ قائلاً:

«انظرُوا مَنْ قامتْ عليهِ البَيِّنةُ، أَنَّهُ يُحِبُّ عليًّا وأَهلَ بَيتِه، فامحُوهُ منَ الدِّيوانِ، وأَسْقِطوا عطاءَهُ ورِزْقَهُ ». و « مَنِ اتَّهَمْتُمُوهُ بِمُوالاةِ هؤُلاءِ القومِ فنَكِّلُوا بهِ، واهْدِموا دارَهُ ».

وبالفِعلِ فقد نَفَّذَ هؤلاءِ الوُلاةُ المُهمَّةَ القَمْعِيَّةَ الإِرهابيَّةَ، وقامُوا بِمَجازِرَ رهيبةٍ، قَضَتْ علَى النُّخبةِ المُؤْمِنةِ؛ لِذا نَقَمَ أَهلُ الكُوفةِ على مُعاويةَ وعلى وُلاتِه، وكانوا يَنْتَظِرُونَ الفُرصَةَ المُناسِبَةَ لإِعلانِ الثَّورةِ، وجاءتِ الفُرصَةُ المُناسِبةُ بِتَولِّي يَزيدَ الحُكْمَ، فكَتَبُوا إلَى الإمامِ الحُسينِ (ع) يَطلُبونَ منهُ قِيادةَ الثَّورَة.

والآنَ ما كانَ مَوقِفُ الإمامِ الحُسَينِ (ع) منْ هذهِ الرَّسائلِ؟

إنَّ الإمامَ الحُسَينَ (ع) لمْ يَكُنْ لِيَطمَئِنَّ إِلَى أَقوالِهمْ، لأَنَّهمْ قد خَذلُوا أَباهُ عليًّا (ع) مِنْ قبلُ، كما خَذَلُوا أَخاهُ الحَسَنَ (ع) أَيْضًا، ولَعَلَّ تارِيخَ أَهلِ الكُوفةِ معَ أَبيهِ وأَخيهِ، جَعَلَهُ يَتَرَيَّثُ في القَبولِ، فماذا فعلَ (ع)؟ أَرسَلَ إِلَيهِمْ ثِقَتَهُ وابْنَ عَمِّهِ، مُسلِمَ بْنَ عقيلَ، لماذا؟ لِيَستَطلِعَ الأَمرَ، ويَعْرِفَ الحَقيقةَ، ويَتأَكَّدَ منْ صِدْقِ أَهلِ الكُوفةِ، وسلامةِ قَصْدِهمْ، وصِحَّةِ أَقوالِهِمْ .

وخَرَجَ مَبعُوثُ الحُسَينِ (ع) مِنْ مَكَّةَ في النِّصفِ منْ شَهرِ رمضانَ، ووصَلَ إلى الكُوفةِ في الخامسِ منْ شَهرِ شَوَّال، وهُناكَ اسْتُقبِلَ بكُلِّ حَفاوةٍ وتَكريمٍ، ونَزَلَ في دارِ المُختارِ بْنِ أَبي عُبَيدةَ الثَّقَفي، والتَفَّ الزُّعَماءُ وعامَّةُ النَّاسُ حَولَه، حتَّى بايَعَهُ مُعظَمُ سُكَّانِ الكُوفةِ؛ فلمَّا رأَى مُسلِمُ هذا التَّأيِيدَ الشَّعبِيَّ العارِمَ، كَتَبَ رسالةً وأَرسَلَها إلى الإمامِ الحُسينِ (ع)، يَدعُوهُ فيها إلى الحُضورِ، لِتَسَلُّمِ زِمامِ الأُمورِ، قائلاً:

«أَمَّا بَعدُ، فإِنَّ الرَّائدَ (رسولَ القومِ) لا يَكْذِبُ أَهلَهُ، وإِنَّ جَميعَ أَهلِ الكوفةِ مَعَكَ، وقدْ بايَعَني منهمْ ثَمانِيَةَ عَشَرَ أَلفًا، فعَجِّلِ الإِقبالَ حِينَ تَقْرأُ كِتابِيَ هذا، والسَّلامُ ».

وصَلَ كتابُ مُسْلِمَ إلى الإمامِ الحُسَينِ (ع)، وفيهِ إِلقاءُ الحُجَّةِ على الإمامِ الحُسَينِ (ع) أَنْ لا بُدَّ من التَّوجُّهِ إِلى الكُوفةِ؛ وفي هذِه الأَثناءِ، أَحَسَّ الإِمامُ الحُسَينُ(ع) بِمؤامرةٍ تُحاكُ ضِدَّهُ، إِذْ أَمَّرَ يَزيدُ بْنُ مُعاوِيَةَ عَلَى المَوْسِمِ، عَمْرَو بْنَ سَعيدِ الأَشْدَق، وَأَرْسَلَ مَعَهُ ثَلاثينَ شَيْطانًا مِنْ شَياطينِ بَني أُمَيَّةَ، وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِ الحُسَيْنِ (ع) وَلَوْ كانَ مُتَعَلِّقًا بِالكَعْبَةِ. لِذا عزَمَ على تَركِ مَكَّةَ معَ نِسائهِ وأَطفالِهِ وأَهلِ بَيْتِهِ، قاصِدًا الكُوفةَ، في اليَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ شَهْرِ ذي الحِجَّةِ، (يوم التَّروية)، حِفاظًا عَلَى حُرْمَةِ البَيْتِ أَنْ تُنْتَهَكَ؛ وأَعلَنَ ذلكَ على النَّاسِ، مُحدِّدًا أَهْدافَ ثَوْرَتِهِ بالقَولِ:

«إِنِّي لمْ أَخْرُجْ أَشِرًا ولاَ بَطِرًا، ولاَ مُفسِدًا ولا ظالِمًا، وإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصلاحِ في أُمَّةِ جَدِّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بالمَعرُوفِ وأَنهَى عَنِ المُنكَرِ، وأَسِيرَ بِسيرَةِ جَدِّي وأَبي، فمنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الحَقِّ، فاللهُ أَوْلَى بالحَقِّ، ومَنْ رَدَّ علَيَّ ذلكَ أَصبرُ، حتَّى يَحْكُمَ اللهُ، واللهُ خَيرُ الحاكمينَ ».

وفيما كانَ الإِمامُ الحُسَينُ(ع) في طَريقِهِ إِلى الكُوفةِ، ذُعِرَ أَركانُ الحُكْمِ الأُمَوِيِّ؛ مِمَّ ؟ مِنِ انْقِلابِ الوَضعِ في الكُوفةِ لِمصلحةِ الإِمامِ الحُسَينِ(ع)، فماذا فَعَلُوا؟ اجتَمَعُوا وتَداولُوا أَمرَ خُطُورةِ المَوقِفِ، فماذا كانتِ النَّتيجةُ ؟ أَنِ اخْتارُوا عُبَيْدَ اللهِ بْنَ زيادٍ والِياً على الكُوفةِ، وقَرَّروا إرسالَهُ إلى هناكَ على وَجهِ السُّرعةِ، قبلَ أَنْ يَستَفحِلَ الخَطَرُ ويَتفاقمَ؛ وكانَ ابْنُ زِيادٍ، معرُوفاً بالظُّلمِ والبَطشِ والاستِبدادِ، مَشْهوراً بِشِدَّتِهِ، وقَسوَتِهِ وغِلظَتِهِ .

دَخَلَ ابْنُ زِيادٍ الكوفةَ مُلَثَّماً مُتَخَفِّياً، إلى أَنْ وصَلَ قصرَ الوِلايةِ، واجْتَمَعَ حولَهُ أَنصارُهُ، وتَدارَسَ معَهُمْ السُّبُلَ الآيلةَ إلى إجهاضِ الحَرَكةِ الثَّوريَّةِ المُعارِضَةِ؛ ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وخَطَبَ فيهمْ، مُصدِراً بيانَهُ الإِرهابِيَّ الأَوَّلَ، قائلاً:

« أَمَّا بَعدُ، فإنَّ أَميرَ المُؤمنينَ يَزيدَ، قدْ وَلاَّني مِصرَكمْ، وأَمَرَني بالاحسانِ إلى سامِعِكُمْ ومُطيعِكمْ، وسَوطِي وسَيفي على مَنْ تَرَكَ أَمرِي، وخالَفَ عَهدِي، فلْيَتَّقِ امْرُؤٌ على نَفسِهِ».

ثُمَّ اسْتَعمَلَ ابْنُ زِيادٍ كُلَّ ما لَدَيْهِ مِنْ وسائلِ الإغراءِ والإرهابِ والقَتلِ، فماذا فعَلَ ؟

أَغرَى زُعَماءَ بَعضِ القَبائلِ بالمالِ والسُّلطانِ، واعتَقَلَ قادةَ المُعارضَةِ الفاعِلِينَ، وأَعمَلَ السَّيفَ في رِقابِ الثَّائرينَ، وأَشاعَ أَنَّ جَيشاً أُمَوِيًّا كبيراً قد أَقبَلَ مِنْ ناحيةِ الشَّامِ، وهوَ في طَريقِهِ إلى الكُوفةِ .

فماذا كانتِ النَّتيجةُ ؟ أَنِ انتَصَرَ الرُّعبُ، واسْتَبَدَّ اليأسُ في نُفوسِ الكَثيرِينَ، حَتَّى صارتِ الأُمُّ تَمنَعُ ابْنَها منَ التَّصدِّي، والرَّجُلُ يَمنعُ أَخاهُ مِنَ المُواجَهةِ، وسارَعَ رِجالُ المَطامِعِ والنُّفوسِ الذَّليلةِ إلى قَصرِ الإمارةِ، يَلتَمِسُونَ المالَ والجاهَ ، مُعلِنِينَ الوَلاءَ والطَّاعةَ.

وتفرَّقَ النَّاسُ عَنْ مُسْلِم، سِوَى فَرِيقٍ مِنَ المُخْلِصِينَ، الَّذِينَ خاضُوا حَرْبَ شَوارِعَ ضِدَّ جُنُودِ ابْنِ زِيادٍ، حَتَّى انْتَهَى الأَمْرُ إِلَى اغْتِيالِ مُسْلِمَ وصَلْبِهِ، وسَحْبِ جَسَدِهِ الطَّاهِرِ في شَوارِعِ الكُوفَةِ.

حَدَثَتْ كُلُّ هَذِهِ التَّطَوُّراتِ، والإِمامُ الحُسَيْنُ (ع) في طَرِيقِهِ إِلَى الكُوفَةِ، حَيْثُ التَقَى بِجَماعَةٍ قادِمِينَ مِنْها، فسأَلَهُمْ عَنِ المَوْقِفِ هُناك، فأَجابُوه: «إِنَّ قُلُوبَ أَهْلِ العِراقِ مَعَك، وسُيُوفَهُمْ عَلَيْك »، ثُمَّ حَدَّثُوهُ عَنْ خِذْلانِ أَهْلِ الكُوفَةِ لِسَفِيرِهِ مُسْلِم بْنِ عَقِيل، وقَتْلِهِ عَلَى يَدِ الوالِي الأُمَوِيِّ « عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِياد » .

عِنْدَها قالَ الإِمامُ الحُسَينُ (ع): «إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلِيْهِ راجِعُونَ » ...؛ ثُمَّ التَفَتَ إِلَى مَنْ كانَ مَعَهُ، وأَخْبَرَهُمْ بِواقِعِ الحالِ، وقالَ: « فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمُ الانْصِرافَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنَّا ذِمامٌ ». فَتَفَرَّقَ عَنْهُ المُنْهَزِمُونَ الطَّامِعُونَ، وبَقِيَتْ مَعَهُ النُّخْبَةُ المُؤْمِنَةُ، الَّتِي نَذَرَتْ نَفْسَها للهِ تَعالَى.

حتَّى إِذا وَصَلَ إِلى مَوضعٍ يُقالُ لهُ: «الشُّقوق»، التَقَى فيه برَجُلٍ مُقبِلٍ من الكوفةِ؛ فسأَلهُ الإمامُ الحسينُ (ع)عن أَهلِ الكوفةِ؟ فأَخبرَه الرَّجلُ: أَنَّهمْ مجتمعونَ عليه؛ فقالَ (ع): إِنَّ الأَمرَ للهِ يَفعَلُ ما يَشاء، ثُمَّ أَنشَدَ:

فَإِنْ تَكُنِ الدُّنْيا تُعَدُّ نَفيسَة

فَدارُ ثَوابِ اللهِ أَعْلَى وَأَنْبَلُ

وَإِنْ تَكُنِ الأَمْوالُ لِلتَّرْكِ جَمْعُها

فَما بالُ مَتْرُوكٍ بِهِ المَرْءُ يَبْخَلُ؟

وَإِنْ تَكُنِ الأَرْزاقُ قِسْمًا مُقَدَّراً

فَقِلَّةُ حِرْصِ المَرْءِ في الكَسْبِ أَجْمَلُ

وَإِنْ تَكُنِ الأَبْدانُ لِلْمَوْتِ أُنْشِئَتْ

فَقَتْلُ امْرِئِ بِالسَّيْفِ في اللهِ أَفْضَلُ

تابَعَ الإِمامُ الحُسَينُ (ع) السَّيْرَ، حَتَّى التَقَى بِفِرْقَةٍ مِنْ جَيْشِ يَزِيد، بِقِيادَةِ الحُرِّ بْنِ يَزِيدَ الرِّياحِيّ، جاءَتْ لِتَعْتَرِضَ طَرِيقَهُ، وتَقُودَهُ إِلَى ابْنِ زِيادٍ في الكُوفَة. وجَرَتْ مُفاوَضاتٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، ولَكِنَّها لَمْ تُؤَدِّ إِلَى نَتِيجَةٍ، إِذْ أَصَرَّ الطَّرَفُ الآخَرُ عَلَى اسْتِسْلامِ الإِمامِ الحُسَينِ (ع)، فَرَفَضَ، وفَضَّلَ المَوْتَ عَلَى حَياةِ الذُّلِّ والخُنُوعِ، وقالَ كَلِمَتَهُ الخالِدَةَ:

« لا أُعْطِيكُمْ بِيَدِي إِعْطاءَ الذَّلِيلِ، ولا أُقِّرُّ لَكُمْ إِقْرارَ العَبِيدِ ... أَلا وإِنِّي لا أَرَى المَوْتَ إِلاَّ سَعادَةً، والحَياةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلاَّ بَرَما » .

سَأَمْضي وَما بِالمَوْتِ عارٌ عَلَى الفَتَى

إِذا ما نَوَى حَقًّا وَجاهَدَ مُسْلِما

وَواسَى الرِّجالَ الصَّالِحينَ بِنَفْسِهِ

وَفارَقَ مَثْبُورًا وَخالَفَ مُجْرِما

أُقَدِّمُ نَفْسي لا أُريدُ بَقاءَها

لِتَلْقَى خَميسًا في الوَغَى وَعَرَمْرَما

فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ، وَإِنْ مِتُّ لَمْ أُلَمْ

كَفَى بِكَ ذُلاًّ أَنْ تَعيشَ وَتُرْغَما

ووَصَلَ الإِمامُ الحُسَينُ (ع) بِسَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وأَصْحابِهِ إِلَى أَرْضِ كَرْبَلاءَ، حَيْثُ حاصَرَهُ الجَيْشُ الأُمَوِيُّ بِقِيادَةِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي كانَ يَتَجاوَزُ الآلافَ مِنَ المُقاتِلِينَ.

وأَصْدَرَ عُبَيْدُ اللهِ بِنُ زِيادٍ، أَوامِرَهُ لِقائِدِهِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِالزَّحْفِ عَلَى مُخَيَّمِ الإِمامِ الحُسَينِ (ع)، وكانَ ذَلِكَ اليَوْمِ التَّاسِعِ مِنَ المُحَرَّمِ، فأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ الإِمامُ الحُسَينُ (ع) أَنْ يُمْهِلُوهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قائِلاً:

«إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ لِرَبِّنا اللَّيْلَةَ ونَسْتَغْفِرَهُ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ الصَّلاةَ لَهُ، وتِلاوَةَ كِتابِهِ، وكَثْرَةَ الدُّعاءِ والاسْتِغْفارِ ».

وفي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، جَمَعَ الإِمامُ الحُسَينُ (ع) أَصْحابَهُ، وخَطَبَ فِيهِمْ قائِلاً:

« أَمَّا بَعْدُ ... فإِنِّي لا أَعلَمُ أَصحابًا، ولا أَهْلَ بَيتٍ أَبَرَّ وأَوْفَى مِنْ أَصحابِي وأَهْلِ بَيتِي، فجزاكُمُ اللهُ جميعًا خَيْرًا » .

ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ بالتَّفَرُّقِ والانْصِرافِ، قائِلاً:

« أَلا وإِنَّ القَوْمَ لا يُرِيدُونَ أَحَدًا غَيْرِي؛ وإِنِّي قد أَذِنْتُ لَكُمْ بالانْصِرافِ... هَذا اللَّيلُ قَدْ غَشِيَكُمْ، فاتَّخِذُوهُ جَمَلاً، وتَفَرَّقُوا في سَوادِه، وانْجُوا بأنفُسِكُمْ ».

فماذا كان جوابُهُمْ؟

قالَ لَهُ أَهْلُ بَيْتِه: «أنَفْعَلُ ذَلِكَ لِنَبْقَى بَعْدَك؟ لا أَرانا اللهُ ذلكَ أَبَدًا».

ثُمَّ تَكَلَّمَ أَصحابُه، وقالُوا: «واللهِ لا نُفارِقُكَ يا أَبا عَبْدِ الله، حتَّى نُكَسِّرَ في صُدُورِهِمْ رِماحَنا، ونَضْرِبَهُمْ بِسُيُوفِنا ... ولَوْ لمْ يَكُنْ مَعَنا سِلاحٌ، نَقذِفُهُمْ بالحِجارةِ، حَتَّى نَمُوتَ معك».

فَارْتاحَ الإِمامُ الحُسَيْنُ (ع) لإِخلاصِ أَصحابِه، وأَثْنَى عليهِمْ، وبَشَّرَهُمْ بِالشَّهادَةِ والجَنَّة. ثُمَّ انْطَلَقَ مع أَصحابِهِ ليلَةَ عاشُوراء، يُناجُونَ اللهَ بِالصَّلاةِ والدُّعاء، والاسْتِغفارِ والتِّلاوَة. فكانَ لَهُمْ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، ما بَيْنَ قائِمٍ وقاعِد، وراكِعٍ وساجِد.

عاشُوراء:

وفي صَبِيحةِ اليومِ العاشِرِ من المُحَرَّم، تَقدَّمَ الجَيْشُ الأُمويُّ، وبَدأَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ المَعركةَ. كيفَ؟ بأَنْ رَمَى أَوَّلَ سَهْمٍ نَحْوَ خِيامِ الإِمامِ الحُسَيْنِ (ع)، وقالَ لِجُنُودِه:

«اشْهَدُوا لي عِنْدَ الأَمِيرِ، أَنِّي أَوَّلُ مَنْ رَمَى » !.

وتَوالَتِ السِّهامُ على خِيامِ الحُسَيْنِ (ع) وأَصحابِه. فنادَى الحُسَيْنُ (ع) أَصحابَهُ، وقال:

«قُومُوا يا كِرامُ، هَذِهِ رُسُلُ القَوْمِ إِلَيْكُمْ».

فخَرَجُوا مِنْ خِيامِهمْ، كاللُّيُوثِ الضَّارية، بِشَجاعةٍ نادِرة، لا يُبالُونَ بِالمَوْت، ولا يَرْهَبُونَ تِلْكَ الحُشُودَ الهائِلَة، مُسْتَبْشِرِينَ بِلِقاءِ اللهِ سُبْحانَه.

واحْتَدَمَتِ المَعْرَكة، فأَظْهَرَ رِجالاتُ الإِسْلامِ بُطُولاتٍ نادِرة، وَتَضْحِياتٍ رائِعَة، فكانَ الرَّجُلُ منهمْ لا يُقْتَلُ، حَتَّى يَقْتُلَ العَشَرات. ولَكِنْ بِفِعْلِ قِلَّةِ عَدَدِ الأَنْصار، قُتِلَ أَصْحابُ الحُسَيْنِ (ع) خِلالَ ساعات.

جادُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِ سَيِّدِهِمْ

وَالجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غايَةِ الجُودِ.

وبَقِيَ الإِمامُ الحُسَينُ (ع) وحِيدًا في المَيْدان، يُدافِعُ عَنِ الإِسْلامِ والشَّرَفِ والكَرامَةِ والحُرِّيَّة، وقَدْ أَثْبَتَ مِنَ الشَّجاعَةِ والإِقْدامِ، ما حَيَّرَ أَعْداءَهُ، الَّذِينَ خافُوا أَنْ يُبِيدَهُمْ، فتَكاثَرُوا عَلَيْهِ فِرَقًا، وأَحاطُوا بِهِ، فِرْقَةٌ بِالسُّيُوف، وأُخْرَى بِالرِّماح، وأُخْرَى بِالحِجارَة، حَتَّى أُثْخِنَ في الجِراحات، فضَعُفَ، وسَقَطَ عَنْ ظَهْرِ جَوادِهِ.

وبَعْدَ اسْتِشْهادِ الإِمامِ الحُسَينِ (ع)، انْدَفَعَ الجَيْشُ اليَزِيدِيُّ إِلَى خِيامِ النِّساءِ والأَطْفالِ، فَنَهَبُوها وأَحْرَقُوها، وساقُوا الجَمِيعَ سَبايا، في مَوْكِبٍ إِلَى الكُوفَةِ فَالشَّام، يَتَقَدَّمُهُمْ رَأْسُ الإِمامِ الحُسَينِ (ع) مَرْفُوعًا عَلَى الرُّمْحِ.

نتائِجُ النَّهضةِ الحسينيَّة:

وبِمَصْرَعِ سَيِّدِ الشُّهَداءِ (ع)، لَمْ يَسْتَقِرَّ الأَمْرُ لِلْحُكْمِ الأُمَوِيِّ، إِذْ تَعَرَّضَ المُجْتَمَعُ الإِسْلامِيُّ إِلَى زِلْزالٍ عَنِيفٍ، كانَ مِنْ نَتائِجِهِ:

1ـ فَضْحُ واقِعِ السُّلْطَةِ الحاكِمَةِ، وانْحِرافِها عَنِ الإِسْلام.

2ـ إِيقاظُ الوَعْيِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ المُسْلِمِينَ، لِمُواجَهَةِ كُلِّ حاكِمٍ ظالِمٍ مُنْحَرِفٍ عَنْ خَطِّ اللهِ، والَّذِي تَجَسَّدَ بِسِلْسِلَةٍ مِنَ الانْتِفاضاتِ الغاضِبَةِ (ثَوْرَة التَّوَّابِين ـ حَرَكَة المُخْتارِ الثَّقَفِيّ...).

3ـ تَوْجِيهُ أَنْظارِ المُسْلِمِينَ إِلَى الخَطِّ الإِسْلامِيِّ الأَصِيلِ، الَّذِي يَتَمَثَّلُ في مَسِيرَةِ أَهْلِ البَيْتِ (ع).

ولَئِنْ كانَتْ ثَوْرَةُ الإِمامِ الحُسَينِ (ع)، لَمْ تُنْهِ الوُجُودَ الأُمَوِيَّ جَذْرِيًّا، ولَكِنَّها أَرْبَكَتْهُ، وأَفْشَلَتْ كُلَّ مُخَطَّطاتِهِ الهادِفَةِ إِلَى القَضاءِ عَلَى مَسِيرَةِ الإِسْلامِ الصَّحِيحَةِ.

إِنَّ ثَوْرَةَ الإِمامِ الحُسَينِ (ع) تُعَلِّمُنا أَنَّ الاسْتِشْهادَ في سَبِيلِ اللهِ عِزٌّ وسُمُوٌّ وكَرامَة، وأَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الظُّلْمِ والانْحِرافِ ذُلٌّ وخُنُوعٌ واسْتِكانَة.

كَذَبَ المَوْتُ، فَالحُسَيْنُ مُخَلَّدْ

كُلَّما مَرَّتِ الدُّهُورُ، تَجَدَّدْ.