عمشيت بين التراث والحداثة

15/12/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

جدلية العلاقة بين الماضي والحاضر

(الحلقة الأولى)

بقلم: الأستاذ يوسف حيدر أحمد

حياتنا عبارة عن تراكم تجارب وخبرات من سبقنا، وحسب الدكتور قسطنطين زريق فإن الإنسان «فرداً ومجموعاً هو إلى حد بعيد نتاج الماضي»، وعلى هذا، فإنّ النظرة إلى حاضره لا بُدّ أن ترافقها نظرة إلى ماضيه الذي يُفسِّر ما آل إليه حاضره، فتحليل الحاضر«لا يكون مجدياً إلاَّ إذا إستند إلى فهم صحيح للأصول والانساب الموروثة وحكم صادق عليها»(1).

وتأسيساً عليه. فإنّ ما بين القديم والجديد، وبين التراث والحداثة خيطاً رفيعاً لا تنقطع أواصره، لأنّه بمثابة حلقة إتصال جاذبة ما بين الماضي والحاضر، وإنقطاع هذا الخيط يعني عزل الحاضر عن الماضي، وبتر شريط الذكريات وأحلام الشعوب ومنجزاتها.

وعلى إفتراض حصول ذلك التقصير، فهذا يعني أحد أمرين:

إمّا فقدان الذاكرة الجمعية لدى الشعوب، وتعتبر هذه مآساة يُعاقب عليها الوجدان والضمير والحسُّ الوطنيّ السليم، وإما عدم الوفاء لتراث الآباء والأجداد، وهذا جحود ونكران جميل، وتخلٍ عن سُلّم القِيم والمكتسبات، وهذا أمرْ مُعيب.

وبلدة عمشيت، تتنكرُّ للأمرين السلبيين معاً، وتأبى إلا أن تتأبط الماضي بحنان ووفاء وفرح، وأن تحتضن الحاضر بمحبة وإيمان، وأمل، وإستشراف للمستقبل.

جغرافيّة وديموغرافيّة عمشيت

إذا وضعنا مُفردة «عمشيت» على طاولة التشريح المُعجمي لنعرف معناها لوجدنا أنّها تتضمّن ثلاثة وجوه من الإحتمالات: الإحتمال الأوّل: هو تحريف لكلمة (ayn shayit) وتعني عين الشوك والجربان.

الإحتمال الثاني: أن يكون الإسم مركباً من (immshϊta) وتعني عين الغسل والتنظيف، وهي من جذر سامي مشترك من معانيه الغسل والتنظيف. وإزالة القذارة.

والإحتمال الثالث: وهو الأهم. فهو إسم مركب من am shït ويعني قبيلة شيث وأهله وذويه، وهو الإبن الثالث لآدم(2). وما يُعزِّز هذا الإحتمال الأخير هو وجود مسجد ومقام النبيّ شيث في عمشيت القديمة. وقد هُدمت وأُزيلت أثاره وهو يقع في حي القاطع قرب إذاعة وراديو بيبلوراما سابقاً(3).

ويتقاطع مع هذا الاحتمال أيضاً ما ذهب إليه بعض أهل الإختصاص من العلماء الألمان من أن عمشيت لفظة عبرانيّة ومعناها قوم شيث أو قبيلة شيث(4).

ويحق لنا أن نتساءل!

إذا كان الإحتمال الثالث هو أقرب للحقيقة والواقع؟

وإذا كانت الحضارة اللبنانيّة، تغوص في أغوار التاريخ لأكثر من ستة آلاف عام؟ أفلا يعني هذا أنّه لا مانع منطقياً وتاريخياً. من أن تكون قبيلة شيث أو ذريته قد إستوطنت هذه البلدة الطيبة منذ آلاف السنين، والله العالم!

ومهما يكن من أمر، فإنّ كل معاني هذه المفردة العَلَمْ، تخلُصُ إلى أمرين جميلين، أحدهما يدلُّ على أن بلدة عمشيت هي بلدة عريقة، جذورها ضاربة في أعماق التاريخ.

والأمر الآخر، يدل على تمايز هذه البلدة ماضياً وحاضراً، وإتسامها الدائم بالترتيب والنظافة والنظام.

تتكئُ بلدة عمشيت سعيدةً زاهية ـ كعروس البحر ـ على شاطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً، حيث يغسل برذاذ أمواجه ـ التي لا تعرف النوم مداً وجزراً ـ وجهها الناعم، وعينيها الشاخصتين نحو الأفق، وشعرها المسترسل الذي يسابق الريح والزمن، وأطراف قدميها العاريتين التاريخيتين.

ويفصلها عن مدينة جبيل التاريخيّة الجميلة جنوباً جسر جاج (الدجاج) الحجري والحديدي، الذي فرضت وجوده ـ إضافة إلى عوامل الطبيعة ـ ظروف الحرب العالميّة الثانية وتداعياتها.

كذلك يفصلها عن بلدة إده وادي إدّه، الذي تتدفق مياهه شتاءً لتختفي في مياه البحر عبر جدول نهر «الفرطوش». وتلاصقها شرقاً مزرعة غرفين، وعقاريا وادي بلدة إدّه. أمّا شمالاً فيفصلها عن بلدة حصرايل الوادي الذي تجري مياهه نحو البحر عبر جدول نهر «بعشتا».

مساحتها حوالى 5 كلم2، عدد سكانها 27,000 نسمة، أحياؤها: حي ترول البحري، البشاش، البّرانية، التينة، الوردية، مار يوحنا، بعشتا، حي الضهر، بنقرا، مار مخايل، العقدة، وطى كفرسالا، المعبور، الريحاني، الساحة، العربة، حي البحر، البيادر، كفرسالا، كفركخله، السيّدة، مار جرجس، مفرق عمشيت، حي المطرانية(مار مارون)، الشروة...

وتميزت بلدة عمشيت بإعتدال مناخها حتى أشاد به الطبيب دي يران بقوله:«إنّ المريض في عمشيت لا يحتاج إلى تبديل الهواء»(5). وكما قال الأخ فينيران مهندس الأخوة المريميين الفرنسيين «لقد جبت بلدان العالم فلم أر بلدة هؤاوها ثابت لا يتغيَّر سوى بلدة عمشيت»(6).

عمشيت والتراث

إمتازت بلدة عمشيت منذ القدم ببيوتها المتواضعة والمهووسة بالترتيب والنظافة. حتى في طرقاتها الداخليّة والعامة، مما يدل على ذوق ونفسية أبنائها القائمة على تطبيق قاعدة «النظافة من الإيمان».

وشُيِّدت فيها هنا وهناك قصور كبيرة على طراز بيزنطي، وقد روعي في بنائها شروط حفظ الصحة(7)، وقد عمل الفنانون بحرفية ومهنية فائقة على تزيينها بالمنمنمات والنقوش الرائعة، وهذا يُعبّر عن الحالة الإجتماعيّة والماديّة لأصحابها، الّذين انفقوا في تشييدها مما اقتصدوه من تجارتهم فرفعوا مستوى بلدتهم بكدِّهم وإجتهادهم(8).كذلك ثمة بيوت تراثيّة إتسمت بالسعة والإتقان والبساطة المُحبّبة، والسقوف القرميديّة العاليّة بألوانها القرمزيّة الجميلة، وقد سُوِّرت معظم بيوت هذه البلدة بأشجار النخيل، وحدائق الأزهار وبعض الأشجار المثمرة أو أشجار الزينة.

إشتهرت هذه البلدة بنخيلها حتى لُقِّبت «ببصرى لبنان» لكثرة النخيل فيها(9)، وتميَّزت بصناعة قش النخيل حتى أصبحت حرفة عمشيتيّة يتوارثها العمشيتيون. فكانوا يصنعون من جريدها بعد تيبيسه أشغالاً يدوية متنوعة منها: القبعات، والبُسط، والحصائر، وكراسي القش، والسلال، والموازين، وجوارير المطبخ والطاولات(10).

وإقتصرت زراعة الأراضي فيها قديماً على أشجار التين والكرمة والزيتون واللوز والقمح والتوت لتربية دود القز، والصبَّار، والخرنوب، والتبغ وبعض البقول والخضار. ومن أشجارها الحرجيّة الأزدرخت والغار والصنوبر والكينا..

وكان بعض سكانها يمتهنون صيد الأسماك، واستخراج الملح من الملاَّحات المنتشرة على الشاطىء، وتبوأ البعض الآخر الوظائف المدنية والعسكريّة المرموقة في الدولة وكان آخرون يرتزقون من مهنة التجارة والمهن الحرَّة. وكان بعض الميسورين(*) من عائلات البلدة كآل وهبة ولحود وكرم وزخيا يمتلكون عقارات كثيرة في عمشيت والبترون وحارة جهجاه(جبيل)، وعقارات موزّعة على القرى الجبليّة ومنها رأس أسطا، كلش، إدّه، مراح صغير، زُمَّر، حبوب، فدار الفوقا والتحتا، زبدين وغيرها. كانوا يشترون هذه العقارات من فائض ما كانوا يجنونه من أرباح في تجارتهم المحليّة والخارجيّة، وكان يتقاسم عوائد هذه العقارات مستثمروها من المزارعين والفلاحين وأصحابها العماشتة. وفي 11 آب عام 1890م. تأسس القوميسيون البلدي(**) في عمشيت برئاسة شاهين بطرس كرم(11).

وكان لهذا القوميسيون دور كبير في تنمية البلدة على كافة الصعد التربويّة والإجتماعيّة والإنسانيّة والفكريّة، وتدعيماً للتعليم والعمل على محو الأميِّة من البلدة ونزولاً عند رغبة الأهالي، قام هذا القوميسيون البلدي في 6 أيلول عام 1900 بإستئجار بيت لحود يزبك لمدة عامين. وجهَّزوه بالمقاعد والأدوات اللازمة وسلَّموه للأخوة المريميين لتعليم أبناء البلدة(12).

كما ساهم في تأسيس مدرسة الأخوة المريميين في عمشيت وفي المدارس التي أقامتها الدولة العثمانيّة والتي كانت تُعرف بالمكاتب الرشدية(13).

وكان للأديب والمؤرخ والشاعر أديب بك لحود، اليد البيضاء في تربية الناشئة، وتعليمها في المدرسة الوطنيّة شبه المجانية التي أسسها عام 1908م ـ بعدما نقل الأخوة المريميون مدرستهم إلى جبيل ـ لإيمانه الثابت بأن التعليم هو رسالة مُقدَّسة لا مهنة تجارية(14).

إستمرت هذه المدرسة لغاية عام 1958م، وقد تخرَّج منها ثلة من المثقفين ونخبة من الأدباء والشعراء نذكر منهم المحامي عبدالله يوسف لحود، واللغوي والمفكر فارس غطاس سليمان، والشاعر نعيم يزبك، والأديب انطوان أديب لحود وآخرين..

وللإستفادة من الثقافة حثَّ القوميسيون البلدي على القراءة وعلى مطالعة الكتب الأدبيّة والسياسيّة والتاريخيّة، واشترى كتاب دليل لبنان عام 1906م. واشترك في جريدة الدولة الرسميّة عام 1910م، وصحيفة الأرز 1904م، والأخاء 1915م. والإقبال 1915 والشرق 1916(15).

وركَّز على أهمية وضرورة التربيّة والأخلاق، فأصدر قراراً في أيلول عام 1890م. قضى فيه بمعاقبة كل من يُجدِّف أو يحتقر الدين، وبدفع غرامة ريال مجيدي، وكان تكرار التجديف يضاعف التغريم(16).

ولم تغب النواحي الإجتماعيّة عن إهتماماته، فكان يقيم الإحتفالات بالمناسبات الرسميّة، مثل الإحتفال بعيد جلوس الهميوني الشريف عام 1891، حيث كانت تقام الزينة في البلدة وتضاءُ المصابيح وتُطلق الأسهم الناريّة، كذلك الإحتفال بمرور جمال باشا في عمشيت (تموز عام 1915م) والجنرال غورو(تموز عام 1920م) حيث كانت تنظَّف ساحة البلدة وطرقاتها وتقام الزينة بهجة وإكراماً وتقديراً(17). كذلك كان الإحتفال الكبير بإستقبال دولتلو أفندم متصرف باشا المُعظمَّ فأقيمت أقواس النصر، واستأجرت عربات عديدة للوجهاء والأهالي لملاقاة دولة المتصرف وتشييعه(18).ومن المبادرات على الصعيد الشخصي والتي كانت تدلُّ على ما حظيت به بعض الشخصيات العمشيتية من نفوذ وعظمة وأهمية في الدولة ماضياً، كما هي الحال في دعوة أسعد بك لحود عضو مجلس الإدارة ـ في السنة الثالثة من الحرب العالمية الأولى عام 1916م. لدولة علي منيف بك. متصرف جبل لبنان لمأدبة أعدَّها له في دارته في عمشيت(19).

وتشعّبت نشاطات القوميسيون البلدي، من أعمال البناء والترميم وتزفيت الطرقات، وتشجيرها وإنارة البلدة، وتأمين البريد يومياً، وإلى المطالبة بسكة حديد إلى عمشيت، بالإضافة إلى محافظتها على نفوذها وامتدادها الحيوي(20).

وتأميناً لوارداته الحيوية، كان القوميسيون البلدي يقوم بجباية الرسوم على المحلاّت ورسوم القبّان والدمغة على الأوزان والمكاييل والمقاييس ورسوم السمك الذي يجب ألا يُباع إلاّ في الساحة العامة، ورسوم تأجير أشجار إزدرخت الطرقات العامة وغيرها كثير وكانت هذه الرسوم بمثابة العصب الأساس لاستمرارية العمل في التنمية البلدية(21).

مقابل ذلك، كان القوميسيون البلدي يعمل على أن تكون عمشيت بلدة نموذجيّة بيئياً وصحياً وإجتماعياً، فاهتم بنظافة شوارع وطرقات البلدة، وتغريم كل من يعبث بالتوجيهات الصحيّة بعد التنبيه تكراراً(22).

وإتخاذ التدابير الآيلة إلى الوقاية من إنتشار الأمراض الساريّة، والمحافظة على سلامة مياه العيون من التلوُّث، ومراقبة بيع المواد الغذائيّة (لحم، سمك، خضار)، ومساعدة فقراء البلدة وتقديم الإعانات المختلفة لهم وتأمين مأوى العجزة وتكفين ودفن الموتى الغرباء وغيرها من التدابير الناجعة على الصعيدين المحلي والوطنيّ(23).

ويحق لبلدة عمشيت ـ ونحن نتحدث عن تراثها ـ أن تتباهى بأبنائها لما عُرف عن طيبتهم وحبهم الإنسانيّ وتكافلهم الإجتماعي، وعشقهم للعلم، وللخدمة العامة.

وسرد بعض النماذج يوحي بذلك، ومنها ما قام به فارس شاهين يوسف كرم، عندما أوقف ثلث أملاكه لبناء كنيسة ومدرسة مجانية في عمشيت عام 1770م. لتعليم وتثقيف أبناء بلدته. وتقريبهم من الخالق(24).

كذلك ثمة نموذج آخر، لا يقل أهمية عن الأوّل لأنه يعالج الروح والجسد معاً، وهو ما قام الإخوان ميخائيل وجبور طوبيا زخيا عندما قررا تأسيس مستشفى مار مخايل في عمشيت عام 1857م. وهو أوّل مستشفى مجاني في لبنان(25). ليكون هدية طبية إنسانيّة، مجانيّة لأبناء عمشيت والجوار، ولجميع الطوائف، ناهيك عن بعض المستوصفات التي انشئت في عمشيت لتكون رديفاً للمستشفى في تخفيف المعاناة النفسية والمادية عن المرضى والمحتاجين.

ولم تغب الروح عن سماء بلدة عمشيت وعن قلوب أبنائها لأن روح السيد المسيحQ، وتعاليمه كانت ظلها منذ مئات السنين فمن رحم هذه البلدة ولد البطريرك أرميا العمشيتي المتوفى سنة(1230م) (26) والمطران يوحنا عبيدات المتوفى (1602)، وتأسست مطرانيّة مارونيّة وسط البلدة (حي مار مارون) وعلى جهات البلدة الأربع، إنتشرت الكنائس الرعائيّة والخاصة وقد ناهزت العشرين.

عمشيت والحداثة

يقول سيد الحكماء والبلغاء الإمام علي بن أبي طالبQ، في حكمته البليغة، والتي إستشرف فيها الزمن والنّاس «لا تكرهوا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم»(27). وهذا يعني بأن الزمن يتغيّر بإستمرار وربما تتغير معه بعض الأعراف والعادات والتقاليد، ولكن تبقى المفاهيم والقيم والأخلاق والإيمان مخزونة في العقول والقلوب وفي موروثات الشعوب وضمائرها الحية.

وبلدة عمشيت ليست غريبة عن المعاصرة والحداثة، وليست جزيرة مستوحدة أو معزولة، بل تبقى دائماً في قلب الحدث، تُؤثِّر وتتأثَّر، تنفعل وتتطور، وتصعد درجات الحداثة بكل ثقة وطلاقة وعنفوان، وانفتاح واستشراف المستقبل.

وما بين الماضي والحاضر، تدرَّجت عمشيت، وقفزت قفزات نوعية في مختلف مرافق الحياة. وأصبحت أقرب إلى المدينة منها إلى القرية والدسكره، بعدما إكتظَّت بمساكنها وسكانها الأصليين، والوافدين إليها من القرى المجاورة والجبليّة. وتعصرنت الحياة والأعمال فيها، فدخلت في عالم المكننة والكمبيوتر والانترنت في أعمالها البلدية وإداراتها الرسمية والخاصة، والمدارس والمصانع وحتى البيوت..

ونشطت فيها حركة الإقتصاد والتجارة، وتشعّبت بشكل مدهش ولافت، فأنشئت فيها محطات الوقود (11محطة) والمطاعم(10)، والصيدليات(5)، والمؤسسات السياحيّة(10)، والشركات والمصانع(24)، كذلك أنشئت فيها الأندية الثقافيّة والرياضيّة (نادي عمشيت الغني عن التعريف) ونادي «Relax» للِّياقة البدنيّة، والمدارس الخاصة(4)، والرسميّة(3)، ومصارف(2)، ونادي الفروسيّة(28). وبعد مائة واربعة وعشرين عاماً من العمل البلدي المتواصل(1890 ـ 2014) تجدَّد شباب بلدية عمشيت، شكلاً ومضموناً. نظرية وتطبيقاً بفضل وجود وجهود رئيسها الحالي الدكتور انطوان بربر عيسى، هذا الرجل الطيّب والمحبوب، الذي مشى بثقة وثبات وإقدام على تعاليم السيد المسيحQ بتواضعه ومحبته وإيمانه واستطاع المواءمة والتناغم ما بين مهنة الطب ورسالتها الإنسانيّة، وبين الخدمة العامة ومتطلباتها بمهنية وجدارة. فكان في مهنة الطب بحق أبا الفقراء، لأنّه ـ إضافة لإبتسامته الهادئة والمحببة، وتواضعه الأخلاقي، ومهارته المهنية ـ إستطاع بلسمة أجسادهم العليلة. وأمّا في الخدمة العامة فقد بادل الذين محضوه حبهم بالوفاء والعطاء وعمل ما وسعهُ الجهد على إسعادهم، وتقديم الخدمات العامة بحسب الإمكانات الماليّة المتوافرة. وبرزت إنجازات البلدية التي حدثت في عهده حتى تاريخه (1998 ـ 2014) بالتعاون مع المجلس البلدي، المُنسجم مع رئيسه، فكانت هذه المُنجزات مُثقلة بالعطاء والنوعية، نذكر منها: إستحداث مدخل عمشيت الجنوبي الذي يربط أوتستراد بيروت ـ طرابلس الدولي بالبلدة، وقد زُيِّن هذا المدخل بحديقة أزهار وأشجار النخيل وكأنّه أراد أن يقول لزائر بلدة عمشيت ـ عبر مدخلها الجنوبي ـ وبلغة الزهور المفرحة «إبتسم أنت في عمشيت» وإستحداث طرقات داخليّة ضمن أحياء البلدة. وساهم في النشاطات الثقافيّة والإجتماعيّة(***)، وأقرَّ تسمية ساحة عمشيت العامة بساحة الجيش، وإقامة نصب تذكاري فيها لهذه المؤسسة الوطنيّة تقديراً ووفاءً لها، وأضاء ليل بلدة عمشيت بسبعمائة مصباح إنارة على مختلف طرقات أحيائها، وإقامة مسابح شعبيّة في محلتي البشَّاش والمعقيلة، وإعادة تشجير الطرقات بعد تصحرّها بسبب الحركة العمرانيّة الكثيفة، والإهتمام اليومي بشأن النظافة والصحة العامة وأهم المشاريع التي قام بها ـ إضافة إلى توسعة مرفأ عمشيت السياحي وتجميله ـ هو تنفيذه مشروع البولڤار البحري السياحي، الذي يمتد من كامبيغ عمشيت إلى مينائها، وقد زُرعت على جنباته الغربية أعمدة الإنارة، وبعض التماثيل الحجريّة الكبيرة والجميلة، وتزمع البلدية زرع المساحات الترابيّة الغربية والواسعة لهذا البولڤار بالحدائق العامة، وبالمعارض، والأجمل من ذلك هو العمل على ربط هذا البولڤار ببولڤار جبيل ليحدث شيء من التوأمة إنمائياً وسياحياً ما بين بلدة عمشيت ومدينة جبيل، ناهيك عن المبنى التراثي القديم الذي استملكته بلدية عمشيت في ساحة البلدة، لتحوّله إلى ما يشبه المتحف التاريخي بإسم ذاكرة عمشيت لتختزن في جنباته أمجاد وتراث الماضي وألق وثقافة الحاضر(29).

وكانت نظرة رئيس البلدية الحالي إلى أبناء بلدته، نظرة حب وإنسانيّة وتقدير، لا مجال للمحسوبيّة والإستنسابيّة ولا للطائفيّة البغيضة فيها، وكان الإنماء المتوازن سيّد الموقف عنده في جميع أحياء بلدته. ولم ينس حي كفرسالا من إهتمامه الشخصي، فقام بتزفيت طريقه وتشجيرها، وبناء الجدران المحيطة بمسجدها بشكل هندسي رائع مع تجميل مدخله بحجر تراثي. وبناء جدران المقبرة للمرة الثانية ودعم جدران الطريق العام، وحتى بناء جدران الطرق الداخليّة وتأمين المحافظة اليوميّة على نظافة الحي، وقام بتوظيف بعض أبنائه في شرطة البلدية..

ومع التقدم العلمي والثقافي الذي نالته شريحة عريضة من أبناء عمشيت فقد عرفت هذه البلدة ظهور نخبة من الرجالات الكبار الذين أثروها عزَّة وفخراً، وكانوا بمثابة بوصلة، تشير إلى ما وصلت إليه هذه البلدة من حضور مُشرِّف في المشهد الثقافيّ والإجتماعيّ والحضاريّ ومن تبوّؤ سدة المناصب الرفيعة في الدولة. فكان من أبنائها قائد الجيش السابق العماد فيكتور خوري، والعماد ميشال سليمان الذي أصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية، كذلك كانت ثُلّة من كبار الضباط في مختلف الأسلاك العسكريّة، ومن نواب ووزراء وأطباء ومهندسين وقضاة وأدباء ومثقفين وأساتذة وفنانين في حقول التمثيل والإخراج وتقديم البرامج والمسرح، ومختلف المهن والإختصاصات...

ولم تكن الثقافة العالميّة والتيارات الفكريّة المتنوَّعة غائبة عن المسرح الثقافي لهذه البلدة، التي تميَّزت مع بلاد جبيل بعدد من رواد الفكر الذين بشَّروا بالعلمانيّة وحملوا لواءها بجرأة وأنشأوا أول حركة علمانية أمثال عبدالله يوسف لحود وآخرين(30).

وكان من أعلام الفكر والأدب الذين أدخلوا الثقافة العمشيتيّة ضمن دائرة العالميّة والعربيّة. اللغوي والمفكِّر والشاعر فارس غطاس سليمان(1909 ـ 1976) الذي كان يرى في النضال «وسيلة مشروعة لتحرير الذات والوطن، وتحقيق العدالة الإجتماعيّة. ونبذ الطائفيّة البغيضة بعطائه وإبداعه»(31).

كان فارس قومياً عربياً ويقدس الحرية الشخصيّة ويفتديها بروحه كما يقول في شعره:

أَفدي اثنتين بِمهُجتي

حُرِّيتي وعُروبتي(32)

واحتضن هذا الشاعر تربوياً وتوجيهياً أبناء أخيه نهاد وهم: الرئيس ميشال سليمان، والمحافظ انطوان سليمان، ورئيس مختارية بلاد جبيل غطاس سليمان(33).

وإضافة إلى إشرافه على تلامذته في مدرسة عمشيت الوطنيّة، فقد كان يحمل إلى الجميع رسالة إجتماعيّة إنسانيّة، وطنيّة وعربيّة، وعالميّة لإهتمامه بالقضايا العمَّالية وحقوق الشعوب في وجه الطغيان والظلم والإستبداد والتنبُّه لما يحاكُ للوطن العربيّ من أطماع الصهيونيّة(34).

محطات محلية وعالمية مضيئة في خبايا ذاكرة عمشيت

يقول القديس أوغسطين (354م. ـ 430م.) عن العلاقة الجدلية فلسفياً ما بين الشعور والذاكرة والزمان:[«الشعور بالزمان مصدره الذاكرة من حيث أن الشعور بالزمان يولده الإنتباه أولاً، فهذا يولد شعور الحاضر، وثانياً الذاكرة، وهذه تولد شعور الماضي؛ وثالثاً التوقع، وهذا يولد الشعور بالمستقبل»](35).

وذاكرة عمشيت التي اختزلت الزمن والتاريخ في بيت أُقيم لها في وسط البلدة، لتنشيط الذاكرة العمشيتية وتذكيرها بأمجاد الماضي، بأفراحه ومآسيه، هذه الذاكرة هي من فكرة وإيحاء المؤرّخ العمشيتي الأستاذ ميخائيل ارسانيوس الذي أثار موضوعها عام 1981 في مجلة «النادي (****)» «نادي عمشيت» لتكون بمثابة المخزون الذي يحتفظ بعصارة الماضي ويسلِّط الأضواء على الحاضر مُستشرفاً المستقبل.

هذه الذاكرة أدخلتنا تاريخياً في قلب الماضي بأحداثه الإجتماعيّة والإقتصاديّة من بوابة عامية لحفد التي حدثت عام 1821، والتي كان لبلدة عمشيت صفحة من صفحاتها المشرقة، وإن شابتها المآسي والدموع.

حدثت هذه العامية لأسباب سياسيّة وإجتماعيّة وخصوصاً إقتصاديّة، وأضفى عليها رجال الدين الكثير من مظاهر التنظيم والريادة(36).

قامت هذه العامية، على خلفية فرض الأمير بشير الثاني الكبير الضرائب المرهقة على كاهل الشعب في المتن وبلاد جبيل بغية تثبيت حكمه، وارضاءً لطلب والي صيدا الجديد عبدالله باشا بزيادة الضرائب(37).

تململ الشعب، وتمرَّد، وقام بإنتفاضة فلاحية إجتماعيّة، وكان للبطريركية المارونيّة بقيادة البطريرك يوحنا الحلو والمطران يوسف اسطفان الدور الكبير في قيادتها وتوجيه مسارها لأكثر من سبب(38).

وأخذ المتمردون يزحفون من جبَّة بشري وإنطلياس وبلاد جبيل يشاركهم شيعة بلاد جبيل من رام مشمش في ذلك بإتجاه بلدة لحفد. وكان مرورهم عبر بوابة عمشيت التي شارك أهلها بهذه الإنتفاضة ووصلوا جميعاً بالآلاف إلى لحفد، وتمركزوا فيها واعتصموا فوق الشير الذي عُرف بالعامية(39).

وجاء الأمير بشير إلى لحفد بثلاثة آلاف مُقاتل عن طريق عمشيت، غرفين، وشامات ونزل قرب الماء تجاه لحفد للقضاء على هذه الإنتفاضة، وكاد يُقضى عليه لشراسة المعركة لو لم يستنجد بحليفه الشيخ بشير جنبلاط الذي قدم لنصرته بثلاثة آلاف من الدروز وبصحبة الشيخ علي العماد، والشيخ حمود النكدي، وبعض التلاحقة والملكيين ممّا مكّن هذا التحالف، من كسر شوكة الإنتفاضة، وإنتصار الأمير بشير، الذي عمد للإنتقام من القرى التي تمردت عليه وفي طليعتها بلدة عمشيت التي نالها نصيب من النهب والحرق، مع بلدة إدِّه ودير البنات وذوق مصبح(40).

أصيبت عمشيت بجروح نفسية ومادية بأملاكها وأرزاقها وبالضرائب المفروضة عليها، لكنها خرجت مُنتصرة بوسام معنوي، مكافأة على مشاركتها في هذه الإنتفاضة الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة.

أمّا المشهد الثاني، من محطات عمشيت التاريخيّة المُضيئة فقد اتسم ببعده الثقافي محلياً وعالمياً وقد اختزل ببعده الإنساني القوميات والجنسيات والأوطان.

حصل ذلك، عندما حلَّ الأديب وعالم الآثار الفرنسي أرنست رينان Ernest Renan (1823 ـ 1892) وشقيقته الأديبة هنرييت Henriette ضيفين على قصر ميخائيل طوبيا زخيا في عمشيت. كان ارنست في هذه الفترة الزمنية يقوم بالتنقيب عن الآثار في قلعة جبيل ومحيطها وفي أفقا وادِّه وغيرها نهاراً وينشغل مساءً بتأليف كتابه «حياة المسيح» بالإشتراك مع شقيقته هنرييت في عمشيت، هذه البلدة التي أبدى اعجابه بها وتقديره للفطرة الطيبة والبساطة المحبّبة اللتين يمتاز بهما أهلها(41). وشعر وشقيقته بأنهما حلاَّ ضيفين على شعب مفطور على حب الضيف وإكرامه(42). وعندما مرضت هنرييت بالحمى، عالجها طوبيا زخيا في منزله، لكنها ما لبثت أن فارقت الحياة صباح الثلاثاء 24 أيلول عام 1861م. وكان لموتها وقع الصاعقة على آل طوبيا زخيا وعلى أهل عمشيت. مشت عائلة زخيا، ومشى أهل عمشيت في جنازة مارونيّة حُرق فيها البخور، وسُمعت فيها اصوات الكهنة يرتلون ترتيلة الموت، بتلك اللغة السريانيّة، التي كان رينان يحسنها ويحبها(43).

وكتبت عائلة طوبيا زخيا وفاءً لهذه الراحلة على باب الحجرة التي إحتضنت جثمانها، العبارة الجنائزية التالية: هنا في عمشيت ترقد (الفرنسية) هنرييت رينان المتوفاة عام 1861م، في مدافن عائلة زخيا قرب كنيسة القرية التي أحبتها كثيراً(44).

وكان السفير الفرنسي في لبنان، يزور عمشيت للإحتفال بإقامة جناز عن روح المرحومة هنرييت مع أهل البلدة، بإحتفال بسيط ومهيب، فيه كثير من الحزن، وألوان من الحب والوفاء والذكريات..

تدلُّ هذه السجيّة العمشيتيّة الطيِّبة، على الوفاء والحب الذي يتجاوز المحلية والإقليميّة إلى العالمية وإلى ما لا حدود، لأن الشعور الإنساني، النبيل يتخطى كل الحواجز والحدود، ليصل إلى اللامتناهي، إلى المُطلق الخالد.

مسك الختام [هذه هي عمشيت! بلدة صغيرة بحجمها الجغرافي في عيون الوطن. لكنها كبيرة في مواصفاته النموذجيّة لأن كل مفردات الوطن الجميلة مُتخمرّة في ذاكرتها الجمعية ومسيرة حياتها العملية والتي تتحرك على سجيتها في دائرة الوطنيّة والمواطنة، الثقافة والحضارة، التطور والعمران، النظافة البيئية والنفسية، الحب والحياة، الإيمان والجمال..

وكم هو رائع ومؤثّر في الوقت عينه ما عبَّر عنه ارنست رينان عن عمشيت، التي عشقها فكتب عنها في احدى رسائله المؤرخة في 17 شباط 1861م. بما يشبه الحب والإعتراف بالجميل، لهذه البلدة التي أمضى فيها أمتع أيام حياته، فيصرِّح عنها قائلاً:« إنّي أصرِّح مع امرأتي وشقيقتي بأن عمشيت كانت لنا فردوساً(45) فهل يحق لنا أن نتباهى بهذه الشهادة العظيمة من هذا العالم العظيم ونبتهج ولم لا!].

فعمشيت عظيمة وتستحق التعظيم!

 

 


منظر جانبي لمدينة عمشيت



بلدية عمشيت




حي كفرسالا ـ عمشيت