آراء في التربيّة والتعليم

15/11/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الأستاذ محمد علي عوّاد(1)

يبدو أن العلم تخلى عن دوره اليوم كعلم للكهانة والتنجيم وأصبح تخطيطاً ليتماشى ومتطلبات البيئة وروح العصر الحديث.

وقد جاء في «محيط المحيط» للمعلم بطرس البستاني:

عَلِمَ بمعنى عرف، وعلم الأمر اتقنه، وعَلِمَه ويَعلَمُهُ يتقنه وعَرِفَهُ. وقال الشاعر الجاهليّ زهير بن أبي سلمى:

وأعلم ما في اليوم والأمس قبلُهُ

ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ

وما أحوجنا اليوم لتنشيط الهمم وشحذ النفوس لنتسلَّح بالعلم الصحيح والتربيّة الفاضلة. والفرق جلي بين التعليم والتربيّة.

فالتربيّة تتجه لكل إنسان ولكل أفراد المجتمع، وهي تبدأ مع الطفولة في البيت وفي المدرسة، ومع البيئة وفي الشارع، وتعني تربيّة الروح والجسد. إنّها تتجه لتربيّة كل النّاس من حيث تنميّة الغرائز والميول والمواهب، وتعمل على تنمية الفن والذوق واللياقة والإبداع. من هنا الدعوة للعودة إلى الأصالة، وإلى الطريق الطبيعيّة التي تراعي عمليتي التعلم والنمو عند المتعلم. إنّها تسعى لتكوين شخصيّة متوازنة عاطفياً. تسعى إلى التطوير في سبيل حياة أفضل. تراعي الفروقات الفرديّة من أجل تنميّة شخصيات متوازنة ومتوافقة مع المجتمع.

أمّا التعليم فهو يطال بعض الإنسان بمعنى أنّه يتوجه إلى أصحاب الكفاءات الذهنيّة لتنميّة مواهبهم عن طريق التعلم وكسب المهارات العلميّة للوصول إلى مرحلة الخلق والإبداع الفكريّ. وتختلف مفاهيم التربيّة والتعليم عند الشعوب.

فالتربيّة اليونانيّة ولا سيما التربيّة الإسبارطيّة كانت تهتم بتربيّة البنيّة الجسديّة أكثر منها بالتربيّة الذهنيّة، حيث أنّ المجتمع الأسبارطي كان مجتمعاً محارباً، فالولد الضعيف البنيّة كان يُلقى من على جبل «تاجيتوس» ليموت فيتخلص المجتمع من الأفراد المشوهين والضعفاء.

أمّا التربية في آثينا فكانت تتجه لتغليب التعقل والفطنة والحكمة؛ «تؤمن» هنا كانت فلسفة المدينة الفاضلة عند أفلاطون. حيث يقود الحكماء المجتمع فيها. ومن هنا بدأ التأمل عند اليونانيين بمصير الشعب وخَلُدَ الحكماء إلى العزلة للتأمل في إصلاح مجتمعهم.

وقامت في ما بعد بيوت التعليم لأهداف دينيّة لترسيخ فضائل الفطنة والعفة والرحمة والصدق والإجتهاد والإعتدال. وقامت المدارس في ما بعد لتدرّس بعضاً من علوم الفلك والرياضيات واللغات الأجنبيّة والتاريخ والجغرافيا والأدب.

أمّا طرائق التربية فكانت تقوم على الحفظ لتعذر وجود الكتبة والوسائل السهلة للكتابة التي تنقش على الآجر أو صفائح الشمع وسعف النخيل أو أوراق شجر البردى عند المصريين.

وتدرجت مواضيع التربية لتشمل الأخلاقيات والطبيعيات إلى جانب تعلم آداب السلوك، وكانت هناك التعاليم الذهنيّة المتضمنة تحليل قواعد اللغة وعلم الحساب وحفظ التواريخ وسيرة الخالدين.

وقامت التربية المسيحيّة على تحقيق الذات البشريّة، واعتبار الفرد عضواً إجتماعياً خلاَّقاً. وحين قام السيّد المسيح بغسل أرجل تلاميذه على نهر الأردن، كان يطبّق عملياً روح التواضع والمحبة وخدمة الإنسان لأخيه الإنسان، إنطلاقاً من المساواة بين الجميع، وبهذه الطريقة حرر العبيد في وقتٍ كانت الدولة تقوم على الظلم والقهر والإستبداد.

فكانت أهداف التربية سامية غايتها تطهير الجسد والروح والسمو بالمجتمع لغايات إنسانيّة نبيلة.

وجاء الإسلام وحضّ على العلم وأوّل سورة أُنزلت على النبيّ مُحمّد w، سورة العلق في الآية 3 و4 و5: }اقْرَأْ وَرَبُّكَ اْلاَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ اْلاِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ ومع ظهور الإسلام بدأ النبيّ يلقن أصحابه واتباعه آيات القرآن ليحفظوها ويتناقلوها في ما بعد. ومن الأحاديث الشريفة المأثورة:

«تعلموا من المهد إلى اللحد، واطلبوا العلم ولو في الصين». أمّا في العصر الحديث وبعد قيام الثورة الصناعيّة في أوروبا فقد اتجه العالم إلى سياسة التعلم وكسب المهارات ونقل المعارف. وهذا ما نعبر عنه بسياسة الـ Planification c'est la réalization du programme وذلك لتحقيق مستوى معين من التقدم والرفاهيّة Une période de prospérité

لذلك، تميز القرن التاسع عشر بتطورات عظيمة في العلوم كعلم الفلك وعلم البيولوجيا والفيزياء والكيمياء، وتطبيق العلم في الزراعة والصناعة والنقل وكل جانب من جوانب الحياة العمليّة.

وقد بدأت في مطلع القرن العشرين روح البحث العلمي والتجريدي والتقني، واصبحت الطريقة العلميّة موضوعيّة ودقيقة مثل الرياضيات، مختزلة موضبة يمكن تحقيقها من قبل أَيّ ملاحظ كفوء ومتعلم أو متخصص.

فالتربية الحديثة قد تغاضت عن الأخلاقيات وأصبحت علميّة بحتة وهنا تكمن الخطورة. ونتساءل نحن بدورنا أين نحن من هذا العالم المتطور؟ واين مساهمونا في رقي هذا العالم؟ وهكذا لا بُدَّ من إيجاد سياسة تربويّة صحيحة للوصول إلى مجتمع صحيح. وقبل ذلك علينا أن نفكر بمنهج تربويّ صحيح، فالذي لا يُربّي صغيراً لا يَجْدُّ كبيراً. وقد قيل قديماًلولا المُربّي ما عرفت رَبّي».

 

 

الهوامش:

(1) ناظر سابق في ثانوية المعيصرة الرسميّة ـ كسروان، عن نشرة صادرة عن «جمعية أصدقاء المدرسة الرسميّة في كسروان ـ الفتوح » حزيران 2005م. العدد الثاني، ص 26 ـ 27.