المهديّ المنتظر وطموح البشريّة

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

للإمام الشهيد السيّد  محمد باقر الصدر

ليس المهديّ تجسيداً لعقيدة إسلاميّة ذات طابع دينيّ فحسب، بل هو عنوان  لطموح اتجهت إليه البشريّة بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري، أدرك النّاس من خلاله ـ على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب ـ أنّ للإنسانيّة يوماً موعوداً على الأرض. تحقق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير، وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التاريخ استقرارها وطمأنينتها، بعد عناءٍ طويل. بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتدَّ إلى غيرهم أيضاً وانعكس حتى على أشدَّ الإيديولوجيات والإتجاهات العقائديّة رفضاً للغيب والغيبيات، كالماديّة الجدليّة التي فسَّرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود، تُصَّفى فيه تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام.

وهكذا نجد أن التجربة النفسيّة لهذا الشعور التي مارستها الإنسانيّة على مرّ الزمن، من أوسع التجارب النفسيّة وأكثرها عموماً بين أفراد الإنسان.

وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسيّ العام، ويؤكد أن الأرض في نهاية المطاف ستمتلئ قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً، يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعيّة ويحوله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانيّة، وهذا الإيمان ليس مجرد مصدر للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاء وقوة، فهو مصدر عطاء، لأنّ الإيمان بالمهديّ إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدُنيا كلها، وهو مصدر قوة ودفع لا تنضب، لأنّه بصيص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان، ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره مهما ادلهمَّت الخطوب وتعملق الظلم، لأنّ اليوم الموعود، يثبت أن بإمكان العدل أن يواجه عالماً مليئاً بالظلم والجور فيزعزع ما فيه من أركان الظلم، ويقيم بناءه من جديد، وأن الظلم مهما تجبَّر وامتدَّ في أرجاء العالم وسيطر على مقدراته، فهو حالة غير طبيعيّة، ولا بد أن ينهزم. وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قمة مجده، تضع الأمل كبيراً أمام كل فرد مظلوم، وكل أمّة مظلومة في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء.

وإذا كانت فكرة المهديّ أقدم من الإسلام وأوسع منه، فإن معالمها التفصيليّة التي حددها الإسلام جاءت أكثر إشباعاً لكل الطموحات التي انشدَّت إلى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الدينيّ، وأغنى عطاءً وأقوى إثارةً لأحاسيس المظلومين والمعذبين على مرِّ التاريخ وذلك لأنّ الإسلام حوَّل الفكرة من غيب إلى واقع، ومن مستقبل إلى حاضر، ومن التطلع إلى منقذ تتمخض عنه الدنيا في المستقبل البعيد، المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلاً، وتطلعه مع المتطلعين إلى اليوم الموعود، وإكتمال كل الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظيم، فلم يعد المهديّQ، فكرةً ننتظر ولادتها، ونبوءةً نتطلع إلى مصداقها، بل واقعاً قائماً ننتظر فاعليته وإنساناً مُعيِّناً يعيش بيننا بلحمه ودمه نراه ويرانا، ويعيش مع آمالنا وآلامنا ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا، ويشهد كل ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين، ويكتوي بكل ذلك من قريب أو بعيد، وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيها أن يمدَّ يده إلى كل مظلوم وكل محروم، وكل بائس ويقطع دابر الظالمين.

وقد قُدَّر لهذا القائد المُنتظر أن لا يعلن عن نفسه، ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من أنّه يعيش معهم إنتظاراً للحظة الموعودة.

ومن الواضح أنّ الفكرة بهذه المعالم الإسلاميّة، تقرّب الهوة الغيبيّة بين المظلومين كل المظلومين، والمنقذ المُنتظر وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسيّ قصيراً مهما طال الإنتظار.

ونحن حينما يُرَادُ منَِّا أن نؤمن بفكرة المهديّ بوصفها تعبيراً، عن إنسان حي محدد يعيش فعلاً كما نعيش ويترقب كما نترقب، يراد الإيحاء إلينا بأن فكرة الرفض المطلق لكل ظلم وجور التي يمثلها المهديّ، تجسَّدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر، الذي سيظهر وليس في عُنقهِ بيعة لظالم كما في الحديث، وأنّ الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له.

وقد ورد في الأحاديث الحثَّ المتواصل على إنتظار الفرج، ومطالبة المؤمنين بالمهديّ أن يكونوا بإنتظاره.

وفي ذلك تحقيق لتلك الرابطة الروحيّة، والصلة الوجدانيّة بينهم وبين القائد الرافض، وكل ما يرمز إليه من قيم، وهي رابطة وصلة ليس بالإمكان إيجادها ما لم يكن المهديُّ قد تجسَّد فعلاً في إنسان حي معاصر.

وهكذا نلاحظ أن هذا التجسيد أعطى الفكرة زخماً جديداً، وجعل منها مصدر عطاءٍ وقوة بدرجة أكبر، إضافة إلى ما يجده أي إنسان رافض من سلوة وعزاء وتخفيف لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان، حين يحسُّ أن إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام ويتحسَّس بها فعلاً بحكم كونه إنساناً معاصراً، يعيش معه وليس مجرد فكرة مُستقبليّة.

 موسوعة الإمام المهدي (عج) الكتاب الأول، تاريخ الغيبة الصغرى للشهيد السيد محمد الصدر، مقدمة الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قده)، ص 15-16-17، دار ومكتبة البصائر - بيروت  2011.