قرية من بلادي : عين الدلبة والحاج جميل عليّ علاّم

24/5/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم فوّاز محمد مُسلم علاّم

أ ـ عين الدلبة

قرية جبليّة في قضاء جبيل ترتفع عن سطح البحر ألف متر تقريباً ـ يحدها أربع قرى مجاورة من أمثالها، هي رمز العيش المشترك بين الأخوة المسيحيين والمسلمين.

لكن هذه القرية ذكرها التاريخ القديم بكنيسة مسيحيّة قديمة تعود إلى العهد القديم في القرن الثاني للميلاد، كما يقول عالم الآثار الدكتور وفيق جميل علاّم، كونها مزاراً للمسلمين وللمسيحيين.

جاء التاريخ الحديث في عام 1952 ليتوّج هذه البلدة من جديد برجل من أبنائها بمسجد وحسينيّة على هضبة من هضابها القديمة المقابلة لهضبة الكنيسة وجهاً لوجه، وكأن القدر أكدَّ العيش المشترك في هذه القرية من خلال المسجد والكنيسة تعبيراً عن وحدة أهلها منذ عشرات السنين.

كرَّم الله تعالى هذه القرية بولادة الحاج جميل علي خليل علاّم ـ الحاج وابن الحاج والخيّر ابن  الخيّر وسليله، حيث بصم في الأرض بكدِّه وسعيه وعرق جبينه بصمات واضحة كان منها: مشروع حسينيّة ومسجد ومصلّى في زمن كان الحرمان الرهيب يُخيّم على أهل القرية وجوارها، إذ كشف بعمله الصالح هذا الضباب الحرمانيّ. وهبَّ لجمع التبرعات الماليّة من الأصدقاء والأقرباء والعلماء المسلمين والمسيحيين تحضيراً ليخلق من الضعف قوة ومن المستحيل ممكناً، فتمكن من بناء هذا المشروع بعرق الجبين في سبيل إيمانه بالخير قُربةً إلى الله تعالى...

ب ـ الحاج جميل عليّ علاّم

من هو هذا الرجل المحسن الكريم؟.

ولد المرحوم الحاج جميل علي خليل علاّم سنة 1923م. ونشأ في عين الدلبة من أبوين كريمين ثم إنتقل إلى بيروت للدراسة في المدرسة العامليّة محلة رأس النبع لمؤسسها المرحوم الحاج الأستاذ رشيد بيضون، فنال الشهادة الإبتدائيّة، ثُمّ عاد إلى بلدته لمساعدة والديه وعندما أصبح شاباً عمل في شركة كهرباء لبنان، ثُمّ إنتقل للعمل في مصلحة النقل المشترك..

ومن خلال إقامته في ضاحية بيروت الجنوبيّة وتحديداً في منطقة الشياح، تواصل دينياً مع العلماء لحبِّه للدين الإسلاميّ مع فضيلة الشيخ خليل هاشم ورئيس المحكمة الجعفريّة القاضي الشيخ عبد الحميد الحر، والإمام المغيب السيد موسى الصدر، والإمام المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين والمفتي الجعفريّ الممتاز الشيخ عبد الأمير قبلان والمرحوم القاضي الشيخ خليل ياسين وغيرهم من العلماء. حيث مارس نشاطات دينيّة وإنسانيّة وافتتح مدرسة في منزله في عين الدلبة ومن ثُمّ في الحسينيّة من خلال جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت مطلع الستينيات من القرن الماضي...

تعلَّم صُنع الجميل من أبويه الكريمين(رحمهما الله تعالى) وهو عمل الخير والجميل مع أهله وغير أهله وعمله ذلك لم يقف عند حدود المذهب أوالعائلة بل تعداه إلى جميع أصدقائه من مسلمين ومسيحيين ـ حيث أنجز البناء في 28/5/1957 ـ المؤلف من مسجد وحسينيّة للرجال وأخرى للنساء ومغسل للأموات ومصلى.

ج ـ وقف عين الدلبة وعين جرين

من أهمَّ نشاطاته وأولها: توجيه كتاب إلى سماحة المرحوم القاضي الشيخ عبد الله نعمة رئيس محكمة بيروت الشرعيّة الجعفريّة في عام 1953م. وكان يومذاك المقرر والده الحاج المرحوم علي خليل علاّم ـ يطلب فيه بناء مسجد وحسينيّة على أرض الوقف ومصلى، ويقول فيه:

أنَّ ليس لهاتين القريتين أي عين جرين وعين الدلبة والوقفين من يشرف على العمل الخيري بهما وقد أجمع رأي الأهالي على إقامة الحاج جميل علي خليل علاّم ولياً على أوقاف القريتين المذكورتين لثقتهم بأمانته وإخلاصه.

وأبرز المقرر عريضة موقعة من أهالي القريتين  تطلب إقامته ولياً ويشهد على ذلك كل من فضيلة الشيخ خليل هاشم والحاج محمد شمص والحاج محمود ياسين شمص.

جاء الرد:

بناءً على جميع ما تقدم فقد تبيّن لدينا أهليّة جميل علي علاّم لأنَّ يكون ولياً على الوقف لذلك أقمته وليَّاً على وقف قريتي عين الدلبة وعين جرين، وأذنت له بإدارة شؤون الوقف فيهما وإقامة المسجد للمصلين ومكان للمشيعين وله حق الدفاع عن هذه الأوقاف في كل دعوى لها وعليها في جميع  المحاكم وله أن يوكل من يشاء للدفاع عن هذه الأوقاف ويعزل، وعليه كتبت في 29 شوّال 1376هـ. الموافق 29/5/1957م. قاضي بيروت الجعفريّ الشيخ عبد الله نعمة.

 

ومن كتاب السيد علي نور الدين إلى القاضي نعمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

مولانا حجة الإسلام والمسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعد السلام عليكم والسؤال عن صحتكم وأحوالكم والإبتهال إليه سبحانه وتعالى بأن يديم لنا عزيز وجودكم ـ أُبدي لسماحتكم أنّه في بعض القرى الشيعيّة أبناءها الخُلَّص البعيدين عن التعاليم الدينيّة، حيث ليس لديهم من يرشدهم أو يعلمهم وليس عندهم مسجد يجتمعون فيه الآن ـ ارتأى بعض شبابهم منهم جميل علي علاّم لبناء مسجد في قريتهم هذه وتسمى عين الدلبة. فأخذ يجمع الدراهم بدافع ديني كما يراه خدمة للمصلحة العامة وخاصة في القرية وبما أن الوقف قريب لجميع القرى الشيعيّة هناك الخاليّة من المساجد ـ عزم جميل علي علاّم على بناء المسجد والحسينيّة في هذا الوقف المجهول فهل تسمحون سيدي ببناء المسجد في هذا  الوقف وتفضلوا سيدي لهذا الشاب بإعطاء الإذن منكم في تصرفاته لجمع المال وإنفاق بعضه للمصاريف من ذهاب وإياب وغيره ليكون تصرفه مشروعاً.

وتفضلوا  بالجواب سيدي فوراً، فالمسألة محل إبتلاء.. ولدكم: علي نور الدين.

وكان الجواب من رئيس المحكمة الجعفريّة في بيروت.

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا كان الوقف المذكور يمكن الإنتفاع به، إني أشكر جميل علي علاّم وسعيه وشكر الله أعظم وقد أذنت له في قبض الأموال وصرفها في مصاريفها ـ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بموافقة  المرجع السيّد محسن الطباطبائي الحكيم.

ومن نشاطاته الإسلاميّة الأخرى إنتسابه عام 1986م. إلى المؤسسة الخيريّة الإسلاميّة لأبناء جبيل وكسروان. حيث كان مرشدها آنذاك سماحة المرشد العام الدكتور الشيخ القاضي يوسف عمرو(حفظه الله)، وقد كلفه القاضي عمرو آنذاك وسماحة المفتي الجعفريّ الممتاز العلاّمة الشيخ عبد الأمير قبلان مع لجنة مؤلفة منه ومن الحاج علي محمود عوّاد والحاج كامل حسن كنعان والحاج راغب أمين حيدر أحمد والحاج محمد نسيب شمص بالقيام بجميع أعمال البِّر والإحسان ورعاية المستوصفات في بلاد جبيل والأوقاف الشيعيّة ونحو ذلك من أعمال خيريّة أخرى.

كما ينبغي الإشارة إلى أهم  أعماله الأخرى وهي: إفتتاحه فرعاً لمدرسة إبتدائيّة لجمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في منزله الكائن في بلدة عين جرين لمدة قصيرة، ومن ثُمّ إنتقالها لبناء الوقف في عين الدلبة لمدة خمس سنوات تقريباً في الستينيات من القرن الماضي وكان مديرها وأستاذها الوحيد آنذاك الأستاذ محمد الرفاعي من طرابلس.

تخلّف المرحوم الحاج جميل علي خليل علاّم.1) بالدكتور المهندس وفيق. 2) والدكتور الطبيب مزهر. 3) والمهندس المرحوم أحمد. 4) والسيّد غسّان.

وأخيراً، نقول: كرّم الله تعالى هذه القرية مرتين ـ في العصر الحديث ـ الأولى في ولادة هذا الإنسان  من أبوين صالحين، والثانيّة في إقامة المشروع الخيريّ الإسلاميّ في القرية وإدارته حتى جاءه القضاء والقدر للمؤسس الذي وافته المنية بتاريخ 8/11/2009م. في حادث سير في منطقة نهر إبراهيم قضاء جبيل ـ ووري الثرى في الوقف ذاته الذي أحياه بأعماله الخيريّة الإسلاميّة والإنسانيّة في عين الدلبة مسقط رأسه ومثواه الأخير.

وأملنا كبير بالله تعالى أن يحفظّ أنجال الراحل الكريم وبناته الكريمات وعلى رأسهم الدكتور المهندس وفيق علاّم وأن يكونوا خير خلف لخير سلف. آمين.