بلدة كفرسالا- أُمَّةٌ في رَجُل

24/5/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

(أُمَّةٌ في رَجُل)

 

الأستاذ يوسف حيدر أحمد(1)

 

في الحياة، بعض الأمور، تبقى رهينة النسيان، أو يلفُّها ضباب الغموض، حتى تأتي لحظة من لحظات القدر، تستيقظ فيها«هذه الأمور» من سباتها العميق، كطائر الفينيق، فتدبُّ فيها روح الحياة من جديد.

هذا الإنطباع الفكريّ، يتماهى مع بلدة كفرسالا (2) العمشيتيّة، أو قرية السلال والأطباق كما وصفها معجم أنيس فريحة(3) أو قرية القبعات والكراسي والجزادين حسب وصف أحد أبناء عمشيت(4).

فبلدة كفرسالا هي ضاحية من ضواحي عمشيت الجنوبيّة.

يحدها شمالاً حي العقدة وحي العربة، وجنوباً يفصلها عقارياً عن بلدة إده ومدينة جبيل نهر موسمي يعلوه جسر فرعي صغير للسيارات يصل مدينة جبيل بعمشيت من الناحية الشرقيّة. أمّا شرقاً فتتلاصق البلدة بحي كفر كخله. وغرباً وطى كفرسالا المحاذي للأوتوتستراد الدولي الذي يصل بيروت بالشمال.

مساحة البلدة 120.000 م2 تقريباً، وترتفع عن سطح البحر قرابة 60م. كانت بلدة كفرسالا منذ خمسينيات القرن الماضي وما قبله، عبارة عن أرض سليخ، كستها الصخور والأشواك، وقد بُنيَ عليها بضعة بيوت متواضعة تُعدُّ على أصابع  اليد الواحدة، وآثار بعض البيوت المهدمة القديمة، وبعض شجرات من النخيل متناثرة على جنباتها.

أمّا اليوم، فقد إستُغِلَّت عقارات هذه البلدة، وتمَّ إستصلاحها، وزرعها باشجار الموز والقشطة والليمون والأفوكا، أمّا خضار البندورة والخيار والبقوليات، فقد زرعت تحت خيم البلاستيك، وإنْ على نطاق محدود وتُروى من قنوات الري المُستجرّة من مياه نهر إبراهيم.

أمّا كيف تعملقت هذه البلدة، وكيف أصبحت كثيفة السكان والبيوت، بعد أن كانت قاحلة جدباء، فالأمر كله يعود فضله بعد الله تعالى لرجل أرسله القدر إلى هذه البلدة ليحيي مواتها، ويعيد عمرانها، هذا الرجل هو المرحوم محمد نكد حيدر حسن(أبو حميد)(5).

كانت أخلاق هذا الرجل النبيلة ونظافة كًفِّه وطيبته وكرمه، بصمة مُميزةً خُتمت كوسام على صدر هذه البلدة. ورسمت علاقة جدليّة حميمة بين هذا الرجل والبلدة، فما أن يُذكر إسم أحدهما يُتبادر عفو الخاطر إلى ذكر اسم الآخر معه.

وكما أنّ لكلّ شيء بداية، فقد بدأ القدر ينسج خيوط علاقة هذا الرجل بالبلدة، عندما إختاره بعض وجهاء عمشيت من آل زخيا ووهبه ولحود، ليكون وكيلاً رسمياً على أملاكهم الشاسعة في بلدات رأس أسطا وفدار الفوقا وفدار التحتا وزبدين وبشلّي وحبوب ومراح صغير وزُمَّر وكلش وإده وغيرها من المناطق.

وكان أبو حميد يتلقى بدل أتعابه من مواسم الحصاد والزروع التي كان يتقاسم عائداتها مستثمرو الأراضي وأصحابها العماشتة.

ولما كان أبو حميد، أميناً وصادقاً مع نفسه ومع الآخرين، محضهُ وجهاء عمشيت ثقتهم الغالية. وكان آل زخيا ووهبه ولحود يمنحونه بعض عقارات بلدة كفرسالا كتعويض عمّا يستحقه من مال إذ لم يدفعوا له حصّته منه، كما قام هو بشراء بعض عقارات البلدة من أمواله الخاصة التي إدَّخرها إبَّان سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة أيام شبابه.

وفي فترة قياسيّة من الزمن أصبحت معظم عقارات بلدة كفرسالا خاضعة لملكيته الخاصة.

وهنا تظهر عظمة الحسّ الإنسانيّ والإجتماعيّ والوطنيّ والدينيّ عند هذا الرجل الطيب، عندما أخذ يُشجّع الأقرباء والأصدقاء والأصحاب على شراء عقارات البلدة بأسعار زهيدة. ومن لم يستطع الدفع نقداً كان يُقسِّط له، أو يعفيه من الدفع عند العجز عن تسديد المبلغ(6).

وهكذا بدأت الروح تدبُّ في شرايين البلدة بعد أن كانت قفراً.

وتجاوز عدد سكانها مع الأيام الستمائة نسمة وتجاوز عدد بيوتها المائة والأربعين. وتخرَّج بعض شبابها من الجامعات الرسميّة والخاصة. فبرع في مجال الطب الدكتور ياسر حيدر أحمد والدكتور وليد يوسف والدكتور قبلان يوسف قبلان وفي مجال الهندسة المهندس زين محمود نصر الدين والمهندس حسن حميد حيدر حسن والمهندس ناظم مجيد حيدر أحمد والهمندس جميل نعيم نصر الدين والمهندسة رشا محمد قبلان. وفي الطوبوغرافيا سامي محمود نصر الدين، في الفيزياء البروفسور كريم قبلان وفي المحاماة المحامي مشهور حسن حيدر أحمد والمحامية هبة وليد حيدر أحمد، كما نال العديد من أهل البلدة إجازات جامعيّة في مواد التاريخ والأدب والبيولوجيا وإدارة الأعمال والمحاسبة ودبلوم في الإتصالات ودراسات عليا في الآداب، كما إنخرط البعض منهم في السلك العسكريّ من جيش وأمن داخلي وأمن عام، وأمن دولة وموظفين وأساتذة في التعليم الرسميّ والخاص. وعُمال في المصانع والشركات ومزارعين وغيرها من المهن المختلفة.

كما تلوَّنت البلدة وتنوَّعت بالعائلات الشيعيّة التي جاءت من القرى الجبيليّة منها عائلات: حيدر أحمد وشمص وحيدر حسن وهمدر ونصر الدين وحلاّني وشقير والغدّاف وزعرور وإبراهيم وعلاّم ومرعي وغيرهم من العائلات الكريمة. ومن العائلات المسيحيّة: رزق وصقر وقزحيا وحوّاط وحرب وغالب وخطّار.

كان أبو حميد، أُميَّاً أو شبه أُميِّ، لكن ذلك لم يكن ليحدَّ من طموحه وذكائه، أو يمنعه من إستشراف المستقبل، ومن وضع هدفٍ نصب عينيه الا وهو إقامة أكبر تجمّع إسلاميّ شيعيّ في بلاد جبيل الساحليّة. ونجح في مشروعه منتهى النجاح بدليل ما قطفه من ثمار عمله على صعيد البشر والحجر. ولم يمنعه حُبّه لأبناء طائفته من حُبِّه وإحترامه للآخرين بدليل وفائه وحبِّه لأهل عمشيت المسيحيين وتسجيله لهم عقاراً من أملاكه الخاصة على إسم الوقف المسيحيّ. وهذا  العقار هو عقار ملاصق لمنزله الذي جعل أقساماً منه مدرسة رسميّة خدمة لأبناء البلدة والجوار.

أراد أبو حميد، بمسلكيته ووطنيته أن تكون بلدة كفرسالا نموذجاً للتعايش والإحترام والمحبة مع الجوار المسيحيّ.

في أوائل الستينيات من القرن الماضي. أضاء القدر مرة ثانيّة بأنواره الباهرة على البلدة عندما أطلَّ عليها بقامته العملاقة وبوجهه الملائكي الإمام السيد موسى الصدر حيث أقيم له إحتفال حاشد بوجود العميد ريمون إده والوزير عبد الله المشنوق وفاعليات المنطقة من نواب وسياسيين وعسكريين ورجال دين.  وضع بعده سماحته حجر الأساس لمسجد وحسينيّة كمركز ثقافي إسلاميّ. وكانت توصيّة الإمام الأبويّة لأهل البلدة بالحفاظ على اللُحمة الوطنيّة والإجتماعيّة والإنسانيّة والإلتزام بالأخلاق والقيم الإسلاميّة والإعتدال والوسطيّة.

وبعد خمسة عشر عاماً من الزمن على هذا اللقاء المبارك وبالتحديد عام 1977م.أطلَّ الشيخ الدكتور يوسف محمد عمرو على البلدة بعد رجوعه مباشرة من العراق وأبدى إهتماماً خاصاً بالبلدة، واقترح تأليف لجنة وقفّ إسلاميّ ترعى شؤون المسجد والحسينيّة والمقبرة في البلدة ليكون ذلك تتويجاً وإستكمالاً لما قام به الإمام السيّد موسى الصدر. وتألفت لجنة الوقف من المرحوم الحاج محمد علي حيدر أحمد وأحمد ديبو شمص ويوسف علي حيدر أحمد وذلك بمباركة الشيخ يوسف محمد عمرو عند قاضي بيروت الجعفريّ السيد عبد الكريم نور الدين.

وكان من أهم إنجازات الشيخ الدكتور يوسف محمد عمرو وإخوانه الكرام في المؤسسة الخيريّة الإسلاميّة لأبناء جبيل وكسروان، على صعيد البلدة هو إنشاء مستوصف وقاعات للتبليغ الدينيّ ومكتبة عامّة ونحو ذلك في بناء المؤسسة الخيريّة الإسلاميّة لأبناء جبيل وكسروان القائم في المدخل الغربي للبلدة، وهذه المؤسسة أُعطيت علم وخبر بتاريخ 30/10/1986م. تحت رقم 282/أد. والتي جاء في قانونها الأساسيّ كما نصَّت المادة الثانيّة: الإهتمام بالشؤون الإجتماعيّة في منطقتي جبيل وكسروان، والعمل على قيام مؤسسات تتولى الرعاية الإجتماعيّة، وفتح مدارس غير مجانيّة والإهتمام بالشؤون الثقافيّة والصحيّة وبالتنمية الزراعية والصناعات القرويّة التقليديّة والمحافظة على المساجد وترميمها، وصيانة الأوقاف وتحسينها وتنميتها، وتقديم المساعدات للطلاب الفقراء وتوفير المنح الدراسيّة لهم(7).

وقد نجح الدكتور عمرو في عمله الإنسانيّ والإجتماعيّ والدينيّ إلى حدٍ بعيد.

وها هي اليوم كفرسالا تضجُّ بالحيويّة والحياة، وقد أصبحت دسكرة بعد أن كانت قرية صغيرة غارقة في غياهب الزمن والنسيان (8).

 

يوسف علي محمد حيدر أحمد. دبلوم دراسات عليا في الآداب. مواليد 20 /11/1952م. جبيل، سكان بلدة عمشيت سجل قيد 10 عمشيت. تلقى علومه الإبتدائيّة والتكميليّة والثانويّة في مدارس جبيل الرسميّة، والجامعية في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة ـ الجامعة اللبنانيّة الفرع الأول ـ بيروت، حيث حصل على إجازة في الأدب العربي عام 1982 وماجستير أدب عربي عام 1992م. درّس مادة الدين عن طريق جمعيّة التعليم الدينيّ الإسلاميّ لمدة سنتين في عاميّ(1978 ـ 1979) و (1979 ـ 1980) وذلك في مدارس عمشيت وعلمات الرسميّة. أواخر عام 1980 دخل سلك الأمن العام برتبة مفتّش ثاني (رقيب) وبعد قبول إستقالته أحيل على التقاعد في ايار 2000 برتبة مفتش مؤهل. متأهل وله ولدان. وهو رئيس لجنة الوقف الإسلاميّ الجعفريّ كفرسالا ـ عمشيت.

كفرسالا: كلمة مركبة من كلمتين كفر وسالا Kfar Sala وكل الأسماء التي تبدأ بلفظة كفر مثل كفر جرَّه، كفررمان... هي أسماء فينيقيّة وكلمة كفر معناها القرية. راجع لبيب عبد الساتر، الحضارات، دار المشرق. بيروت 1986، ص 89. والجذر السامي المشترك كفر يفيد أصلاً التغطيّة والإخفاء وسُميّت القرية الكفر لأنها حصن وملاذ ومخبأ. أنيس فريحه، معجم أسماء المدن والقرى اللبنانيّة، مكتبة لبنان ط.2، 1972م، ص 146. وكلمة Salla  بالحرف السرياني... وجمعه...Salle وتعني قرية السلال والأطباق، المصدر نفسه، ص151.

صناعة القش صناعة عمشيتيّة يتوارثها العمشيتيون وهي من جريد النخيل الذي إشتهرت عمشيت بزراعته، وما يزال حتى تاريخه موجوداً فيها لا سيما أمام البيوت التراثيّة. ومن جريد النخيل بعد تيبيسه، كانوا يصنعون السلال والقبعات والجزادين والكراسي وجوارير المطبخ والبسط لفرك الكشك.... مجلة صفحاتي الصادرة عن مدرسة ليسيه عمشيت عام 2004 و 2005م. ص 47.

AmshЇt تحريف Ayimshayit وتعني عين الشوك والجربان. وتحتمل أن يكون مركباً من im mshЇta وتعني عين الغسل والتنظيف. وقد يكون مركَّباً من am shЇt قبيلة شيث وأهله وذويه وهو إسم عبري وإسم إبن آدم الثالث. فريحه، معجم أسماء المدن والقرى اللبنانيّة ص 118ـ119.

محمد نكد حيدر حسن من مواليد علمات عام 1883م، أمضى سحابة من شبابه في علمات وقرية كلش، سافر بعدها إلى أمريكا لفترة قصيرة وعاد للسكن في بلدة عمشيت، له ولدان، هما: حميد ووديع وثلاث بنات هنّ: خديجة وعلوية ومريم. كان له الفضل في إعمار ونهضة بلدة كفرسالا التي أمضى فيها أخريات أيامه ودُفن في مقبرتها في 1 حزيران 1977م.

مقابلة مع حميد محمد نكد الإبن البكر للمرحوم الحاج محمد نكد حيدر حسن تحدَّث فيها عن أخلاق وسيرة والده وعمله وعلاقته بعائلات عمشيت وعمله معهم وعن حسن معاشرته وحبِّه لكل النّاس وإصلاحه ذات البين.

د. يوسف محمد عمرو، «التذكرة أو مذكرات قاضٍ» الجزء الثاني، المؤسسة اللبنانيّة للإعلان ـ بيروت ط.1، 2004، ص 407 ـ 408، وص 427 ـ 428.

توضيح وتصحيح من مدير التحرير المسؤول:» الصواب هو أنَّ القاضي عمرو عندما كان في العراق كان يأتي للبنان للإصطياف مع عائلته. والمرّة الأخيرة التي جاء بها للإصطياف كانت في صيف عام 1977م، الموافق لسنة 1397هـ. وقد تكلّم عن تأليف لجنة للوقف الشيعيّ في كفرسالا وضرورة ذلك وحول النزاع مع الخلايا الإجتماعيّة في لبنان والأستاذ عبد الله المشنوق في الجزء الثاني من كتابه:» التذكرة أو مذكرات قاضٍ» ص 407 ـ 408م. تحت عنوان: ثالث عشر ـ أوقاف مدينتي جبيل وعمشيت، فراجع.  وأمّا مجيئه الأخير إلى لبنان هرباً من المخابرات العراقيّة فكان في خريف عام 1978م. ومن هنا إقتضى التوضيح مع توجيه الشكر والثناء للأستاذ يوسف حيدر أحمد على كتابته لتاريخ المرحوم الحاج أبي حميد ولبلدة كفرسالا ـ عمشيت.