للحبِّ مرآة

9/10/2017
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 بقلم المربية الحاجة نمرة حيدر أحمد (أم مصطفى)

توطّدّت علاقتي بها منذ سنة تقريباً، خلال زيارتي لأحد الأماكن المقدّسة، حيث كانت معي نِعمَ الرفيق والأنيس، جذبتني طيبة قلبها الممزوجة برصانة قولها وتصرفها، لم تبخل على أحدنا خلال سفرها معنا بالنّصيحة والمساعدة، وبما أكسبتها الحياة من حكمة وخبرة. كيف لا تكون كذلك وقد مارست التّعليم من مطلع شبابها بعد أن فقدت زوجها وحملت مسؤولية إعالة طفلها الوحيد.

لقد مضى على وفاة زوج السّيدة وفاء عشرون عاماً، وها هو تعبها ينتج مهندساً معمارياً يعمل في أرقى الشركات وأقواها محلياً وعالمياً كما أخبرتني. كلامها الجميل عن حبّه لها وعن ذكائه وإصراره على تحقيق ما يصبو إليه جعلني في غاية الشّوق للتّعرّف إليه.

دعتني لزيارتها مراراً وتكراراً لتعبّر عن مدى محبتها واحترامها لي، ودائما كنت أعتذر بسبب انشغالي بشؤون عملي ومتطلبات أُسرتي.

ذات يوم وجدت مُتسعاً من الوقت، فأردت التنصّل لساعات من هموم الحياة وأعبائها، قصدت منزلها الكائن في حيٍّ من أحياء صيدا القديمة تلبية لدعوتها وطلباً للترويح عن النفس، اتصلت بها وأعلمتها بحضوري.

عند وصولي استقبلتني استقبالاً ودوداً أشعرني بعمق محبتها ونبل مشاعرها تجاهي، أجلستني في صدر دارها واحتارت كيف تكرمني وتحسن ضيافتي، أخذنا الحديث عن ذكريات السفر وعن المواقف الطريفة التي حصلت معنا، فنسينا لساعة على الأقل مآسي الواقع وهمومه.

فجأة فُتح باب البيت ودخل شاب فارع الطول، بهيّ الطلّة إلى الغرفة المجاورة بعد أن ألقى التّحية بإحترام، قالت لي والابتسامة تعلو وجهها: هذا ولدي عاد باكراً لأنني طلبت منه إحضار نتيجة الفحص الطّبي الّذي أجريته صباحاً لمعرفة منسوب السّكري في دمي، أعتذر منك سأتركك لدقائق معدودة فقط وسأعود إليكِ.

بعد انصرافها، أمسكتُ مجلة تربوية قديمة كانت على طاولة في زاوية الدّار، ورحت أقرأ عناوين موضوعاتها، وما هي إلا لحظات حتى سمعت صوت الشّاب قد علا وبنبرة حادّة قال لوالدته: «لِمَ لمْ تُحضري نتيجة الفحص بنفسك؟ ألا تعلمين أن لدّي عملاً؟ لست مضطراً لترك عملي، كان بإستطاعتك الذهاب إلى المختبر وإحضاره عوض الجلوس مع صديقتك. ما زال لديك قدرة على المشي ولست مقعدة، على ما يبدو الكلام لا يجدي معك نفعاً، أحضرت لك الدّواء الّذي طلبته مني لكن لا تنسيه كالعادة، سئمت نسيانك للدواء واهمالك لصحتك، وللتمارين الرياضيّة التي نصحتك بها نتيجة ضعف إرادتك. إنني جائع الآن، حضّري ليَ الطعام، ألا يكفي أنّي عدّت باكراً من عملي» . انقطع الصّوت فجأة، ثم عاد ولكن بشكل شبه مسموع: «هكذا هو صوتي، ما همّني إن سمعت كلامي، أتعطينني درساً في اللياقة» .

كلّ هذا الكلام ولم أسمع لـ «وفاء» صوتاً، إحترت في أمري، ماذا أفعل؟ أأنتظر عودتها أم أنصرف قبل أن تأتي كيلا أُحرجها؟ وأخيراً حسمت أمري خلال لحظات وخرجت من المنزل، وعلى وجه السّرعة ركبت سيارتي وأقلعت، ولكن الذّهول كان يتملّكني، وصورتها استحوذت على مخيلتي، وكلام ولدها الجارح ما زال صداه ينخر في أذنيّ، فيعتصر قلبي عليها ألماً. تذكّرت يوم كانت تحدّثني عن ولدها بكل حبِّ وفخر وكيف كانت تدعو له في كل مكان مقدّس بالتّوفيق والرّفعة والسّعادة.

ما الجرم الّذي اقترفته «وفاء» حتّى تسمع من ولدها هذا الأسلوب الجارح في الخطاب؟ هل لأنّها عطّلته عن وظيفته لساعات وكلّفته بعمل صغير، وهي التي أفنت عمرها وأضاعت كلّ وقتها لتربيته وإسعاده؟ أم لأنّها أساءت لنفسها وأهملت صحتها وهذا الأمر مُتعلّق بوضعها النّفسي أكثر من تعلّقه بالعقل والمنطق.

كيف تجرّأ على نعتها بضعف الإرادة وهي الّتي واجهت كُلَّ مصاعب الحياة لتصل به إلى برّ الأمان. أيقظني صوت هاتفي المحمول من دوّامتي، إنّها «وفاء» اسمها بارز على الشّاشة الصّغيرة، تردّدتُ في الإجابة على اتّصالها ولكن رغبة انتابتني لإيجاد تفسيرات لِما سمعته من ولدها، وضعت هاتفي على أذني وبصوتٍ خافتٍ مخنوق قالت لي: «والله ولدي يحبّني ولكن هذا أسلوبه في الكلام وفي التواصل معي، حاولتُ ردعه مراراً فلم يستجب، خاصمته لأيام عسى ان يغيّر أسلوبه، ولكن من دون جدوى، كان خجولاً في صغره ولكنّه أصبح فظَّ الكلام عندما كَبُر وأصبح يافعاً، لا أدري، ماذا أفعل؟ إنه ولدي وسأتحمّل كلّ شيء من أجله وإن أخطأ معي وجرحني عن غير قصد. أعتذر منكِ لأنني لم أرافقك أثناء خروجك من بيتي، سامحيني».

ومن غير أن تسمع جوابي أقفلت الخطّ... ومن يومها لم أعد ألمحها في أي ّمكان كانت ترتاده، ولم تعد تردّ على مكالماتي.

سمعت بعد شهرين بأنّها سافرت إلى كندا لتعيش مع أخ لها مقيم هناك منذ زمن طويل وولدها ما زال يعمل هنا.

قلت في نفسي: لقد أحسنت القرار لأن العيش في كنف ابن عطاؤه ممزوج بالمّن، هو الذلّ بعينه. والسيّدة وفاء لا تستحق ذلك، وليس هذا هو ردّ الجميل الذي تتوقعه من وحيدها الذي ملأت قلبها بحبّه.

إن الأمّ الّتي تتحمّل من الأعباء ما تعجز عنه الجبال، تكفيها همسة حنان من ولدها ليزول عنها تعبها، ولتستعيد نشاطها وصحتها ورغبتها في الحياة.

إنّ الحبّ الّذي لا يترجمه الابن إلى كلمة طيبة وتصرف لبقٍ ومسؤول هو حبّ لا قيمة له. والحبُّ الذي لا يقترن بالتضحيّة والإيثار، هو حبّ لا نفع منه. بئس الحب الذي لا ينطلق منه شعاع محبّة يغمر قلوب من نُحِبَّ بالدفء والحنان.

من المؤسف أنّ الكثيرين من الأهل علّموا أبناءهم كيف يقرؤون الكلمات والأرقام ويحللونها، وقيّموا أداءهم في المدارس، واحتفوا بنجاحاتهم. ولكنهم لم يقيّموا ممارستهم للقيم الّتي درّسوها لهم مع من حولهم.

لقد فات الأهل أن يعلّموا أبناءهم أن التّصرّف معهم له حدود تتسم بالحبِّ والاحترام والتضحية. وبأن تصرف الانسان مرآة تعكس مدى حُبّْهْ وعاطفته تجاه الآخرين.

السيّدة وفاء أغدقت بعاطفتها وكرمها على ولدها ولكنها لم تُحسن رسم حدود تصرفه معها، وبذلك خسرت صورة الابن الذي كانت تطمح أن تراه، وخسر هو باباً من أبواب رحمة الله الواسعة بقهرها ودفعها للسفر.