قصة العدد: الاختيار الصّعب

29/9/2015
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: الحاجة نمرة حيدر أحمد (أم مصطفى)(1)

مع خيوط الفجر وفي لحظة قرار حاسمة، وضّبت حقيبة ثيابها على عجل، حملتها وتوجّهت نحو الباب والدموع المنهالة من عينيها تختصر مأساتها، والزرقة حول عينيها، والاحمرار الدّكن على عنقها وخدّيها يرويان قساوة مَن يفترض أن يكون رفيق دربها وحاميها.

قرّرت بعد صراع مرير مع ذاتها ألاّ تنظر إلى الوراء، وأن تغلق وراءها باب مرحلة من العمر أدمت قلبها وأفقدتها الثقة بالنّاس وبالحياة.

ولكنّ صوتاً لامس شغاف قلبها كان قد أُسقِطَ من حساباتها سهواً في لحظة غضبها واتخاذ قرارها استوقفها منادياً:

ما ما.. ماما إلى أين؟ لمَ تحملين الحقيبة؟

سأسافر يا حبيبي، عدْ إلى سريرك.

ببراءة ابن الثماني سنوات وبدهشة ممزوجة بالخوف والهلع سألها: تسافرين؟ وأنا؟

ستبقى مع والدك وجدتك.

لا يا أميّ! أرجوك لا تسافري!

أنا مضطرة للسفر ولن أتغيّب طويلاً وسأراك وتراني دائماً.

غصّت الكلمات في حلقه وهو يقول: سمعت صراخه عليك ليلاً، وكلّ الكلمات التي قالها، لا تغضبي... فهو يضربني أيضاً ويصرخ في وجهي وينتهرني عندما أدخل غرفته، وأنام على سريره. أرجوك لا ترحلي! أو خذيني معكِ.

لا يا عمري والدك يحبك، ولن يقسو عليك بعد اليوم، وسيهتم بك حتمَاً.

أمسك بمقبض الحقيبة متوسلاً إياها: لا...لا تتركيني، خذيني معك لن أعذّبك، أعدك بذلك، وسأدرس دروسي وأكتب فروضي كما تريدين.

صراع حادّ نشب بين أمومتها وكرامتها التي تنتهك كل يوم، أيهما تختار؟ فالقانون بجانبها وعائلتها أيضاً وبإمكانها أن تفعل الكثير...

ولكن هل الانتصار لكرامتها يضمن لها حبّ ولدها ونمو شخصيته المتوازنة، ويحقق الأحلام التي راودتها حول مستقبله الواعد؟

أم سيكون قرارها سبباً لانحرافه، وكفره بالأمومة، والعائلة، والنّاس؟

بوق السيارة في الخارج يستعجلها ويعلمها بضرورة خروجها والتحرّر من قيود أرهقتها وأودعتها سجناً لم تكن لترضاه لولا ولدها. خروجها من الباب يعني انطلاقتها نحو حياة جديدة ترسمها بالشكل الذي تريده، وتلونها بتجارب جديدة تمحو السواد القاتم الذّي لفّ حياتها منذ زمن.

لحظة من التّفكّر اختصرت حياة بأكملها أيقظتها منها غمرة حانية، ودموع استغاثة ترقرقت من عينيّ طفل يستجدي عاطفة أمّ هشّمتها همجيّة الجهل، وكسرتها العصبية العمياء، ولحظات الغضب القاتلة.

بحركة لا شعورية ألقت بحقيبتها على الأرض، مسحت بيديها دموع ولدها، جثت على ركبتيها أمامه، غمرته بحب لتستمدّ منه قوّة فجّرت في داخلها طاقة روحيّة، تمكنها من مواجهة أعتى قوة بالحكمة والصبر والإيمان.

سكينة لم تعهدها من قبل ألقاها الله في قلبها ترافقت مع نور انبثق من عيني ولدها ليضيء في أعماقها شمعة تحدٍّ لا تطفأ، طالما تشعر بحرارة حبّ ولدها تسري في عروقها وهي تكمل معه جنباً إلى جنب مسير الحياة.

الأبناء شموع لا تعطي نوراً إلاّ إذا أضيئت بطاقة الحبّ الكامنة في قلوب الآباء والأمهات.

 

الهوامش:

 

(1) هي إبنة بلدة كفرسالاـ عمشيت، أكملت دراستها الثانوية في ثانوية جبيل الرسميّة. ونالت إجازة الآداب من الجامعة اللبنانيّة، دخلت عالم التربيّة والتعليم منذ أكثر من عشرين سنة. في مدارس المبرّات الخيريّة. تُعرف بالحاجة «أم مصطفى» نمرة حيدر أحمد، شاركت في تأليف كتب التربيّة التكامليّة، لها عدّة مشاركات في التأليف الحر. وهي قرينة المُربيِّ الكبير الأستاذ الحاج زهير الحيدري.