قصة قصيرة - بيت جدي العتيق

22/1/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 

بقلم الأستاذ هيثم عفيف الغداف

 

 

 

كلمح البصر تأهبنا نركض الواحد تلو الآخر الى الباحة الخلفية للدار المطلة على الوادي المقابل لتلّة جدّي، فقد حان الآن موعد قدومه مع رفاق دربه بعد المسيرة الشاقة. طبعاً لست أعني ما خطر في ذهني الآن فما كنت أقصد في هذا المشهد جدّي الآتي من البعيد سيراً على الأقدام حاملاً في يديه سلالاً ومعه فتىً صغير يساعده. حيث كنا نسعى اليه كبصيص النور نخطف السكاكر من أشيائه وما طاب لنا بعد أن نبعثرها أرضاً وننهزم للوراء تاركين ضحكات جدّي وابتساماته وعباراته المازحة تعوا يا شياطين ساعدوني قبل أن يُكمل ومعاونه ليصلوا إلى باب الدار حيث جدّتي تنظر إلينا بفرح وسرور لنا جميعاً. لكن ما عنيت اليوم هذا بل ذاك الذي جاء من القرية المجاورة تعرّف عن قدومه أجراس رفاقه، ذاك الذي يتّقن رمي الحصى فيصيب من يشاء من حوله، ذاك الذي ترافقه فرقة مشاكسة ترهب رؤوس الأشجار حولها وتبعثر صفو التراب من تحتها وتبعث بالغبار كالضباب من خلفها، محمية بمواكبة شرسه راجلة ترعد بأصواتها، ذاك هو الراعي الذي أذهل عقولنا بجيشه الجرّار وصيحاته العجيبة على تلك وذاك، فقد أطلق أسماء النجوم والكواكب على كلّ القطيع، عجيب كيف يميّز بينهم بالأسماء فكلّهم بأعيننا واحد. غريبة على مسامعنا تلك الكلمات فحتى يومنا لم تفك شيفرتها السريّة وبقيت لغزاً بين الماعز وراعيها. هناك نقف، عيوننا تلمع انتباهاً لمشيه وبشوق نعاين الحجر كلّما انطلق من يده لنرى دقّة الهدف اذا ما أصاب رأس ماعزه المشاكس وبرأفة ننظر الى دابته المسكينة مثقلة بالحمولة وبحماسة نترقب صراع التيوس من ورائه تتشابك بالرؤوس، كلّ يتفاخر بتاجه وهو يسارع لفض الاشتباك يضرب كل تيس على رأسه ويمضي ونحن نعود لبيت الجدّ والسعادة تغمرنا بذاك المشهد الجبلي وتبقى في الذهن صورته كلما سمعنا في المدينة عن حكاية راعٍ أو قرأنا في قصص المدرسة عن الجبل. الآن أشتاق لذاك البيت وكل الحكايات من حوله وفوقه وتحته وما بينه وبيني حنين للجبل والوادي، للصنوبر والغار، للزيتون وأشواك الصبار، لطير الحجل، للقمح للحصاد، لأوراق التبغ، للعريشة، لمنفضة السجائر الحديدية، لعلب سجائر الجيتان الفرنسية العريضة، لعود الكبريت، للصالة، للمطبخ، للتتخيتة، للجدّة، لدمعتها الساكبة فوق البصل، للجّد وحكاياته الممازحة، للـ القبوعة البيضاء على صلعته السحرية التى لطالما أخفت الكثير من الوقار، لجبينه المتعفر بالتراب، لابتسامته. أشتاق لذاك البيت العتيق كما كان بتجاعيده وأدراجه وأغصان الأشجار حوله. حبذا لو أقدر على نسخ تلك المشاهد من ذاكرتي لأحفظها كمخطوطة أضمها الى صدري كلما دخلت لفراشي تروي لي ظمأ أحلامي وتسقي عيوني شوقاً لبيت جدي العتيق وأعذب المشاعر وأرقّها وكل ما في وجداني له من ذكريات. رحم الله صاحب هذا البيت العتيق وأطال الله بعمر وارثه الجديد وجزيل الشكر ليديه التي جددته مع المحافظة على بقاء معالم البيت العتيق...