المرجع العلاّمة السيد فضل الله، بعيون مسيحيّة

14
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

المطران سليم غزال نموذجاً

رئيس اللجنة الأسقفيّة للحوار المسيحي ـ الإسلاميّ

(علاّمة غارق في النعمة)

ميزة الرجال الأماجد أنّهم رحلوا بالجسد غياباً في موكب الموت، استرجعتهم ذاكرة الحياة حضوراً في الفكر والوجدان، وألقاً لا يمحوه النسيان فالعمر لا يُقاس بعدد السنين، بل إنّ العمر أفعال وأعمال تضيق بها مساحة الزمان ومدى المكان ليصبح جزءاً من مسيرة التاريخ وديمومة العالم.

بهذا المعيار التقويمي الذي لا يندرج في بورصة التحولات الظرفيّة، ننظر إلى شخصيّة «آية الله» السيّد محمّد حسين فضل الله، طيب الله ثراه، في سيرته ومساره، من خلال حكمته الوازنة وعقله الراجح ومحبته السمحاء، التي تجلّت في خدمته للنّاس والمجتمع، هو الذي أمضى عمره مجتهداً وباحثاً علاّمة عن سبل جديدة ومفيدة لتيسير حياة النّاس في شؤون الدين والدنيا.

لقد تعرفتُ إلى سماحته شخصياً منذ أوائل التسعينيات، عندما كنت أزوره برفقة موفدين من الفاتيكان أو وفود أجنبيّة من دول أوروبيّة، أو خلال كتاباته ومحاضراته، التي تناولت جوانب الحياة في بعديها الروحي والدنيويّ. وكذلك من خلال عملنا المشترك في مجالات الحوار والتلاقي بالتأكيد على نظرتنا الواحد إلى الآخر، وقبوله، رغم الإختلافات الفكريّة والسياسيّة والعقائديّة.

محمد حسين فضل الله وقضايا الحوار

عندما تناول سماحته بين الأديان والجماعات، رأى أنّه من الواجب إزالة العوائق التي تحوّل دون تحقيق هذا الحوار فعلياً، وبالتحديد تلك العوامل الذاتيّة التي تشكل المُقدسات التي نرسمها في خاطرنا ونمنع الحوار فيها أو التحدث بشؤونها: لأننا في خوف من أن تهتز صورة هذه المقدسات، رغم أنّ الإنسان ورث في عقيدته الكثير من التفاصيل التي لا تمتُ إلى واقع الإيمان بصلة، ومن أجل هذا أطلق سماحته فكرة «لا مقدسات في الحوار» وقال: إننا نستطيع التحاور في كل شيء وإذا استقام للمتحاورين أنهما لا يحملان معنى عدوانياً الواحد تجاه الآخر، فبإمكانهما أن ينطلقا من أجل أن يتحاورا في كل شيء.

إنّ الرؤية الحوارية والتلاقويّة النيّرة التي تحدث عنها سماحته تتلاقى في كثير من وجوهها مع نظرة الكنيسة في ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني حيث جاء في مقرراته: إنّ الكنيسة تنظر وفق مهمتها في دعم الوحدة والمحبة بين البشر إلى ما هو مشترك بين النّاس ومن شأنه أن يقودهم إلى الشركة مع بعضهم البعض. وبالتالي فإنّ الكنيسة لا ترفض ما هو مقدس لدى الديانات الأخرى ولو اختلف الأسلوب أو طريقة التعبير، فوجود الخير والحقيقة في تلك الديانات يرجع إلى فعل عناية الله ولذلك يتوجب على المسيحيين أن يعترفوا بهذه العناصر وأن يساعدوا على صيانة هذه القيم الروحيّة والأخلاقيّة».

يمكننا التبصر في مدى حكمة هذا العالم الجليل والمرجعيّة الدينيّة والفقهيّة الرصينة وإصغائه وبُعد نظره في مستويات عدّة، إنّ على المستوى الإسلاميّ حيث برزت مواقفه الإنفتاحيّة والمتقدمة على الواقع في الكثير من الظروف، وإنّ في الفتاوى التي تتمّ عن روح استشرافيّة تتجاوز حدود المصالح المذهبيّة والفئويّة الضيقة لتتلاقى مع الإنسان في مداه الأوسع بما يوفر له أنماطاً جديدة للعيش لا تتناقض مع جوهر الإيمان ولا تقع في شرك الجهل والتقاليد الآسرة.

محمّد حسين فضل الله والحكمة:

في مقاربته لموضوع الحكمة رأى سماحته أنّ الحكمة عنوان رسالة الأنبياء وهم عاشوها في خط الدعوة وعلموها للنّاس ويسّروا لهم فهمها ودعوهم إلى السير بمداها، وهذا أمر صعب ومعقد يحتاج إلى جهود فكريّة واطلاع واسع وتفكير عميق.  وإذا كان الدين الإسلاميّ قد أراد للإنسان أن يُغني ثقافته العلميّة في أسرار الكون، واعتبر أن التفكير فريضة، فإنّه قد فضّل تفكير ساعة على عبادة سنة..

لقد عاش سماحة السيّد حياة غنيّة بالتقى والتجربة والعلم والإجتهاد الفكريّ والجهاد الإيمانيّ، فكانت مساحة حياته دائرة ملأى  بالتحديات لمواجهة الواقع والخروج من الجمود الذي يحاصر الفكر والروح، وينأى بالإنسان عن التحليق في أجواء الحريّة والإيمان الحق الذي التزم به ودعا إليه والذي يفتح فكر الإنسان على المطلق ويقعّده على ثوابت لا تهتز أمام إنفعالات غريزيّة وانفلاتات بعيدة عن السلوك الإيماني الصحّ. في هذه الرحابة الغنيّة بالعلم والإيمان، أمضى سماحة السيّد سحابة عمره، ليبقى في غيابه كما كان في حضوره، حجّة دينيّة ومرجعيّة علميّة وفقهيّة، بكل ما يختزنه هذا الموقع من قيم الروح ووسائط التلاقي الفكريّ والتواصل الدائم بين البشر، كلّ البشر، على دروب الحياة.

خلاصة القول إنّ هذا الرجل الكبير نفتقده كل وقت والذي نتحلق حول ذكراه هو أكثر من رجل دين... هو رجل إيمان، هو علاّمة غارقٌ في النعمة، نقيٌّ الداخلة، طيّب  الكلام وسميح القلب.

نعم هو رجل إيمان حيّ، وهو المربيّ على فهم  الإيمان بذهنيّة هادئة تسعى إلى الحقيقة من دون إدعائيّة مصادرتها أو احتكارها.

محمد حسين فضل الله بفقهه وفكره وأدبه، هو عاشق الله في الإنسان همه الأساس أن يعرف أن الله يحبّه وأنّ بمقدور هذا الإنسان المحبوب من الله أن يحبّ الآخر، أيّ آخر، ويعتبره أخاً له.

دعاؤنا إلى الرب أن يحتضن سماحة المغفور له، بواسع رحمته وأن يهدينا جميعاً إلى التبصّر ومعرفة درب الحق والخلاص، والعمل بوحي الإيمان والمحبة.

وكم نحن اليوم بحاجة إلى نار الإيمان ونور المحبة (1)...!