الثقافة الحسينيّة عبر الأجيال

24/5/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: الأستاذ الحاج حامد الخفّاف(1)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين،

السلام عليك يا صاحب الصدر الظامي والنحر الدامي، السلام عليك يا أبا عبد الله الحسين ورحمة الله وبركاته

أيها الحفل الكريم، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.

في ظهيرة يوم العاشر من المحرم سنة إحدى وستين للهجرة، وقف الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو سبط رسول الله P، وأحد سيدَيْ شباب أهل الجنة، حسب الحديث النبوي المجمع عليه عند المسلمين، وقف وحيداً غريباً، يتوسط مصارع أبنائه وأهل بيته وخيرة أصحابه، وقف الحسين Qيتأمل الجموع الضالة المحيطة به، ماذا جال في خاطره في تلك اللحظات؟! بماذا كان يفكر؟ بأبي هو وأمي. كأني به وقد تراءى له هتاف مئات الملايين ودموعها عبر العصور، وتراءت له حركات الأحرار وثوراتهم، ووثبات المجاهدين وثباتهم، تراءت له رايات الحق باسمه تهزُّ عروش الطغاة والظالمين في أصقاع المعمورة. في تلك اللحظات أسس الحسين الإنسان، الرسالي، والامام المعصوم لمفاهيم جديدة، دونها في لوحة التاريخ بالأحمر القاني، مفاهيم الحرية، والعدالة، والحقّ، ومقارعة الظلم، والثبات على المبادئ حتى الشهادة، وانتصار الدم على السيف، والإيثار، والمحبة، والفداء في سبيل المثل العليا.

هذه المفاهيم شكلت - منذ ذلك اليوم وعبر القرون - مداميك أساسية لثقافة خاصة، هي الثقافة الحسينية.

ما هي الثقافة عموماً، وما هو تعريفها؟ قبل أن ننسبها إلى الحسين عليه السلام.

في الحقيقة لا يوجد تعريف محدد للثقافة، لأن مفهومها يتعدد بتعدد العقائد والانتماءات المعرفية المختلفة، حتى بلغت نحو مائة وستين تعريفاً حسب رأي أحد كبار علماء الاجتماع.

وأقتصر على تعريف المنظمة العالمية (اليونسكو) للثقافة بمعناها الواسع على أنها: جميع السمات الروحية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات.

وأضيف تعريفاً للثقافة حدّده مفكر جزائري راحل وهو أنها: مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافةُ على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، وبالتالي فإن الثقافة بمفهومها الشامل: هي المحيط الذي يعكس حضارة معينة.

وتأسيساً على ما تقدّم، نتساءل بشكل علمي: هل توجد حقيقةً (ثقافة حسينية)؟

والجواب على ذلك وبكل موضوعية: نعم. ولقد تشكلت هذه الثقافة عبر قرون من الزمن، وميزت مجتمعات بعينها بسماتها الروحية والفكرية والعاطفية، وشملت الفنون والآداب ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات، كما ورد في تعريف اليونسكو. والثقافة الحسينية ليست كلمات تلقى وقصائد تتلى، ونظريات تناقش فحسب، بل إنها أسلوب حياة ونمط عيش، لأن الحسين مقيم في قلوب المؤمنين والأحرار، مقيم فينا، في وعينا، في لاوعينا، الحسين في دموعنا الجارية، في آهات صدورنا، في أناشيد أطفالنا، الحسين المجاهد الشهيد المذبوح من القفا هذا الحسين في عروقنا يجري، نستقي حبه من حليب أمهاتنا، ونتوحمه من تراتيل دعوات آبائنا. هذا الحسين الذي ديس صدره وهشمت أضلاعه بحوافر الخيول هو شموخ العزّة فينا وعنفوان التمرد في نفوسنا.

سيدي يا أبا عبد الله، نقول لك كما قال شاعر لأبيك:

نحن عشاقك الملحون في العشقِ

وإن هام في هواك الكثيرُ

إن أقسى ما يحملُ القلبُ

أن يطلب منه لنبضه تفسير

ولا تفسير لخفقان القلوب، وأرق العيون ودموعها إلا في قاموس العاشقين.

والحسين عليه السلام في صميم منظومة قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، نتذكره في كل حين، نتذكره حين نشرب، لأنه مات ظمآناً، وحين نمرض، لأن الشفاء في تربته، وحين نبتهل، لأن الدعاء مستجاب تحت قبته، نتذكره عندما يولد لنا وليد، وعندما يرتفع لنا شهيد، لأنه سيد الشهداء، نتذكره عندما نجاهد ونقاوم، وإذا جار جائر وثار ثائر، لأنه ابو المقاومين والأحرار والثوار، نتذكره اذا خُيّرنا بين السلّة والذلة، لأنه عليه السلام رُكز بين اثنتين، فآثر مصارع الكرام على طاعة اللئام، نتذكره إذا فقدنا الأحباب، أو أُصبنا بمصاب: (أنست رزيتكم رزايانا التي سلفت وهونت الرزايا الآتية)

عذراً سيدي أبا عبد الله، لقد خانني بياني وخطل لساني: متى ننساك حتى نتذكرك؟!

إذن هل توجد ثقافة حسينية؟ نعم، وأضيف: إن كل حرٍّ أبي للضيم ثائر على الظلم إلى أي فكرٍ أو دين انتمى أو طائفة أو عرق، فيه قبس من الثقافة الحسينية.

أيها الحفل الكريم،

إن ماهية الثقافة الحسينية متعددة، فهي فكرية وروحية واجتماعية وعاطفية، ومن هنا فإن الجدل الثقافي الذي يدور بين الفينة والأخرى حول أساليب التعبير عن الولاء للحسين Q، يكون خارج السياق الموضوعي للحدث، وتأثيراته السلبية أكثر من ايجابياته، ولن يغير من الواقع شيئاً، لأن النهضة الحسينية لم تكن نخبوية بمعنى أنها ليست شعبوية. ولم تكن شعبوية بمعنى أنها ليست نخبوية. وعبر القرون كان الحسين Qللجميع، للعلماء والأدباء والشعراء والفنانين، وهو للعمال والفلاحين والكادحين، هو للمتعلم والأمي وللغني والفقير، هو قدسية مداد العلماء، ورهافة أحاسيس الشعراء، وهو العرق المتصبب من جباه الفقراء، وخلوص سخاء الأغنياء، ولذلك كتب في الحسين Qمن كتب، من فقهاء وعلماء وأدباء، وفاضت قرائح الشعراء - عبر التاريخ - بما لو جمع من عمود الشعر وقريضه وقديمه وحديثه لكان الأكثر والأجمل كماً وكيفاً، الذي نظم في موضوعة واحدة، ولذلك أبدعت ريشة فنان، وتألقت حنجرة منشد، والحسين أيضاً عبرة المؤمنين، فترى سيل المواكب الحسينية المليونية الهادرة، ودوي صراخها المقدس الذي يؤرق الظالمين، وترى المشاة الحفاة، يذرفون الدموع، ويلطمون على الصدور... وترى إطعام الطعام، ومواسم الزيارات، وتمثيل واقعة الطف وغير ذلك.

وكل هذه الأساليب المتنوعة تؤكد أن الحسين Qهو ثقافة أُمّة، وثقافة مجتمع بكافة طبقاته وتلاوينه، الشعبية والنخبوية، الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وعلى هذا، ولأنه كذلك، فإن الولاء للحسين Qلا يمكن ان يختزل في أساليب محددة للتعبير، وهو ليس حكراً على جماعة أو فئة، اجتماعية أو سياسية أو فكرية، وهنا تكمن عظمة الحسين، وسر الحسين الأبدي، شاء الله عز وجل أن يكون الحسين كالهواء النقي يتنشقه الجميع، ويحتاجه الجميع...

كذب الموتُ فالحسين مخلّد

كلما أخلق الزمان تجدد

أيها الاخوة والأخوات، وفي الحديث عن الثقافة الحسينية، يبرز (المنبر الحسيني الواعي) أو (المجلس الحسيني الواعي) ظاهرة حية معطاءة، تشكلت عبر قرون من الزمن، بعد أن أسس لها الأئمة الطاهرون واعتبروها من أهم مصاديق إحياء أمرهم عليهم السلام وتعاهدتها الأجيال المتعاقبة حتى أصبحت رافداً أساسياً من روافد ثقافتنا العامة في الدين والعقائد والأخلاق والتاريخ والأدب. المجلس الحسيني منتدى معرفي يقصده الناس بشغف ورغبة طوعية طلباً للثواب، فيخرجون منه مزودين بمعارف إنسانية متنوعة، ولا أغالي إن قلت أنه واحد من أهم بركات النهضة الحسينية، لأنه - إضافة إلى البيت والمدرسة - كان المربى والحاضن لأجيال وأجيال ساهمت في صناعة الوعي الديني الأصيل، وخرج من مدرسته أبطال الجهاد، ودعاة الفكر.

ومن هنا فإنني أتوجه للفاعليات الدينية والثقافية في لبنان أن تولي المنبر الحسيني الواعي، اهتماماً يتناسب ودوره التاريخي في حفظ النهضة الحسينية، وتأثيره الحالي والمستقبلي في تربية الأجيال. وذلك من خلال التركيز عليه، وتعميم ثقافته جماهيرياً وشعبياً، ورفد استمراريته بفتح معاهد علمية للخطابة، وحفظ خصوصيته في المناسبات الدينية عموماً والمناسبات الحسينية خصوصاً.

أيها الحفل الكريم، ان الأسبوع الثقافي الحسيني الأول في لبنان، الذي تقيمه مشكورة الأمانة العامة للعتبة الحسينية المُقدّسة في كربلاء، التي بذلت جهوداً مضنية ومباركة هدفت إلى تقريب أجواء كربلاء الحسين، إلى المواطن اللبناني، هي تجربة أولى نأمل ان تكون باكورة طيبة ومثمرة لتواصل وتعاون ديني وروحي وثقافي واجتماعي بين مؤسسات العتبة الحسينية المُقدّسة من جهة والخبرات المخلصة في هذا البلد الطيب من جهة أخرى.

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين...

وآخر دعواي

أن الحمد لله رب العالمين.

 

كلمة مدير مكتب سماحة السيد السيستاني(دام ظله)، في بيروت ومدير مؤسسة آل البيتQ، لإحياء التراث الأستاذ حامد الخفّاف، عصر يوم الإثنين في 27/2/2012م، بمناسبة إفتتاح الأسبوع الثقافي الحسينيّ الأوّل.