مُكَوِّنَاتُ التَّلَقِّي الأَدَبي

24/5/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 (الحلقة الأولى)

بقلم البروفيسور عاطف حميد عوّاد

 

مقدمة:

تتخذ الدراسة من عنوانٍ مثل «مكونات التلقي الأدبيّ» موضوعاً لها، وهذا الإختيار يرجع في الحقيقة إلى أهمية هذه المكّونات، التي نقصدُ بها النّص، القارئ، القراءة، وهي المكوّنات التي لا بُدَّ منها لإقامة العمليّة التواصليّة وتأسيسها في الفضاء الثقافيّ. فالعناصر المشار إليها بإسم «المكوِّنات» تقيم مع بعضها علاقاتٍ جدليّة، إذ إنَّنا لو تمعنَّا في هذه المكوِّنات لوجدنا أنَّ الحوار الدائر بين القارئ والنّص هو الذي يولِّدُ فعل القراءة، ومعنى ذلك أنَّ هذا الفعل لا يتحقق إلاّ بحوار الحدين أو مكوني القارئ  والنَّص، وبناءً على ذلك لا وجود لفعل القراءة إلا بوجود قارئ يحفِّز النَّصَّ على التكلُّم، كما أن وجود القارئ ـ بوصفه مفككاً ومفسِّراً ومؤولاً ـ مرهون بنّصٍّ يقبل الحوار.

 

تتولَّد من علاقة القارئ بالنّص فعل القراءة كما أشرنا؛ وبولادة القراءة، فإنّ النّصَّ ينتقل من عالم المجهول إلى عالم التعيين كما يقول رومان إنغاردن، لأنَّ القراءة تحوِّلُ دوال (جمع دال) النَّص إلى مدلولات، فالقراءة تمنح النَّص المعنى، وفي الوقت ذاته، فإنَّ القراءة لا تتحقق كفعلِ إلاّ بالأثر الذي يبثه النَّص في القارئ، فالنَّص يستفزُّ القارئ ليُقرأ، هكذا يكتسب النَّص شعريته وجماليته بالقراءة، كما أنَّ القارئ يتعرَّف ذاته بقراءة النَّصِّ، لتغدو القراءة بُعداً معرفياً خطيراً في التواصل الأدبيّ.

وإذا إنتقلنا إلى التركيب الموصوف في العنوان أي «التلقي الأدبي» سنجد أنَّ المقصود بـ «التلقي» يتفرَّع إلى دلالتين، ونقصد بالأولى أنَّ مقاربةً من شأنها أن تعاين الدَّال، وَتُسند إليه مدلولاً أو مدلولات كثيرة تُشكِّل تلقياً للنّص، وعلى هذا الأساس فالتلقي فعل  قائم منذ نشوء الأدب وقراءته، أمّا في المعنى الخاص، فنقصد بذلك «جمالية التلقي» المدرسة النقديّة المعروفة  التي برزت  في ستينيات القرن الماضي تحت زعامة هانس روبيرت ياوس وفولفجانج إيرز حيث قَدَّم الرجلان مقاربةً فريدةً في قراءة النَّص الأدبيّ، فقد أعادا الإعتبار للمعنى ـ معنى النّص الأدبي ـ على نحو عام، والقارئ على نحو خاص، إذ غدت «جمالية التلقي» وهو الإسم الأثير لهذه المدرسة، ذلك الفضاء النقدي الذي تأسّس على الحوار بين النَّص والقارئ واللافت للإنتباه أنَّ نظرية التلقي اتجهت إلى القول: بأنَّ وجود المعنى مرهون بالقراءة التفاعليّة بين القارئ والنَّص، وعليه فإنَّ المعنى  ليس جوهراً قابعاً في جوف النَّص بقدر ما ينبثق من صيرورة القراءة في عالم النَّص.

وأمَّا فيما يتعلق بمفردة «الأدبيّ» بوصفها صفةً لـ «التلقي»؛ فالهدف من هذا التحديد أنَّ تلقي اللغة الأدبيّة أمرٌ مُختلف عن تلقي اللغة النفعيّة (البراغماتيّة)، فاللغة الأدبيّة كائن ثريٌّ وغنيٌّ ويتجاوز اللغة البراغماتيّة في أهدافها وطرائقها في التواصل والبناء، ومن هنا سنجد التعامل الدقيق من جانب نظرية التلقي للغة الأدبيّة، ولا سيما لدى فولفجانج إيرز الذي إقترح أدوات نقديّة دقيقة للتعامل مع اللغة الأدبيّة، وعلى صعيد آخر سنرى أنَّ البحث يتشكَّل من محور مركزي ِّمتمثلاً بـ «مكوّنات التلقي الأدبي» الذي يتفرع بدوره إلى مجموعة مستويات فرعيّة، ففي مبحث النَّص حاولنا التطرق لمفهوم «النَّص» لُغةً واصطلاحاً، وبعد ذلك تحدَّثنا عن مستويات النَّص عبر تفريعه إلى نصٍّ وآخر مقروء، أمَّا في مبحث القارئ فقد حاولنا التمييز بين مستويات ثلاثة: القارئ الضمني، الحقيقي، وأخيراً القارئ المثالي، وفي المبحث الأخير الموسوم بـ «القراءة» حاولنا الكشف عن منطق القراءة النقديّة في جماليّة التلقي لدى كُلٍّ من هانس روبيرت ياوس الذي عالجنا لديه مفهومي: أفق التوقع والمسافة الجماليّة، ولدى فولفجانج إيرز فقد درسنا مفهومات ثلاثة: رصيد النَّص، والفراغات، ووجهة النظر الجوالة، لتنتهي الدراسة بخاتمة تحتضن نتائج القراءة.

 

تمهيد:

تنطوي هذه الدراسة على مجموعةِ نقاطٍ درسيّة، الهدف منها الكشف عن ظروف مكوِّنات التلقي الأدبيّ وحيثياتها من حيث ماهياتها واشتغالاتها ووظائفها في فعل التلقي على نحوٍ عامٍ، وسوف تنحصرُ هذه النقاط في المحاور الآتيّة: أولاً مكونات التلقي، وفيه سنحاول رصد سؤالِ هامٍ، يتجلى من خلال البنية: ما المقصود بالتلقي؟ ليكون ذلك تمهيداً لقراءة مكّونات التلقي، وفي هذا المحور سوف نرصد المكوِّنات الآتيّة: النّص من حيث الماهية والمستويات؛ لننتقل من ثمَّ إلى المكوِّن الثاني: القارئ، وهنا نتساءل عن ماهية القارئ ومستوياته في فعل القراءة، أمَّا المكوِّن الثالث: فيتمثل بـ «القراءة» وهنا سوف نقرأ مفهوم القراءة استناداً إلى تفريعات آتيةٍ: ما القراءة؟، القراءة في جماليّة التلقي، وهكذا ننهي البحث بخاتمةٍ تتضمن نتائج القراءة.

 

أولاً ـ مكوِّنات التلقي:

لا شكَّ أنَّ عملية التلقي ـ تلقي النصوص ـ لا يمكن لها أن تكون كذلك إلاّ بتوافر مجموعة مكوِّنات ترتبط فيما بينها بعلاقاتٍ جدليّة تكشفُ عن فضاء (مجال) هذه العملية وأيّ غيابٍ لأحد العناصر من شأنِهِ إفشال العمليّة ومِنْ ثُمَّ إفساد عملية التأويل وإهدارها، ومن هذا يتعاظمُ دور هذه الدراسة في إماطة اللثام عن هذه المكوّنات ورصد مجمل العلائق الحاصل بينها في فضاء التلقي، ولكن قبل ذلك لا بُدَّ من التوجه نحو التساؤل التالي: ـ ما المقصود بالتلقي؟

إنَّ مفردة «التلقي» في سياق السؤال هنا، تنطوي على دلالتين، أولاهما «عامة» ونقصد بذلك أنَّ أيّة مقاربة للنَّصِّ تندرج في إطار التلقي سواء أكانت هذه القراءة المقاربة تاريخيّة أو سوسيولوجيّة أو ثقافيّة أو دلاليّة أو تفكيكيّة،.. الخ ما دام كلٌّ من هذه التيارات يتجه نحو النَّصَ لتتلقاه من مصدره (المؤلف) بقصد التحليل والتفسير ثم التأويل، وإستناداً إلى ذلك، فإنّ تاريخ النقد الأدبي وغير الأدبي لن يكون سوى تاريخٍ لتلقي النصوص على مختلف أنواعها وأجناسها وتصنيفاتها، أمّا الدلالة الثانيّة لمفردة «التلقي» فهي دلالة «خاصة» ونقصد بذلك أنّ مُفردة «التلقي» جاءت ترجمةُ لـ «نظرية التلقي» Reception Theory التي شاعت في ألمانيا، ولهذا سوف تحوزُ الدلالة الخاصة لمفردة التلقي على إهتمامٍ كبيرٍ من هذا البحث، لكننا سنحاول المزواجة بين نظرية التلقي الخاصة ونظريات أُخر، وذلك لإغناء مكوِّنات عملية التلقي المعنية بالبحث والفحص والقراءة، وقبل الإنتقال إلى هذه المكوِّنات لا بُدَّ للدراسة من الإشتغال على الدلالة الخاصة للتلقي وأقصد نظرية التلقي الألمانيّة.

 

فماذا نعني بنظرية «التلقي» على الوجه الخاص؟

إنَّ نظريّة التلقي Reception Theory أو جمالية التلقي Aesthetics of Reception انبثقت في ستينيات القرن الماضي إستناداً إلى أبحاث هانز روبرت ياوس، وفولفجانج إيزر ردّاً على الإتجاهات الأخرى في تلقي النَّص مثل الشكلانيّة الروسيّة والبنيويّة الفرنسيّة ومقاربات أخرى أهملت القارئ في عمليّة التلقي، فجاءت نظريّة التلقي لتعيد للقارئ حقوقه في فعل القراءة، وإنتاج المعنى فقد «شهدت أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي جُهداً ملحوظاً في توجيه البحث الأدبيّ صوب المتلقي، وذلك بطرح رؤى مغايرة حول تصوّر أدبيّة النّص وتاريخ الأدب وإنتاج المعنى، وهذا خلافاً لما طرحته بعض الإتجاهات كالشكلانيّة والبنيويّة، وعلى رأس هذه الجهود تأتي نظرية التلقي ـ الألمانيّة المنشأ ـ والتي عبرت عنها بقوة كتابات كل من « هانز روبرت ياوس» و «فولفجانج إيزر» بجامعة «كونستانس» بألمانيا»(2)، والأمر اللافت في نظرية التلقي ـ كما أشرنا ـ هو هذا الإهتمام بالقارئ أو «المتلقي»، في خطوةٍ مُغايرةٍ للشكلانيّة الروسيّة التي حاولت قراءة النّص بمعزلٍ عن مختلف سياقاته الإجتماعيّة والتاريخيّة أو البنيويّة التي إكتفت بالأطر الهيكليّة للنَّص ليضيع «المعنى»، معنى النَّص، ومن هنا الإنعطافة التي أحدثتها نظريّة التلقي «لتُدخل مُكوِّن (الملتقي) بقوةٍ في عمليّة التواصل الأدبيّ، ليصبح المعنى وجماليات النَّص وقيمته أموراً مرهونة (بتلقي) العمل الأدبي»(3)، وبحضور المتلقي في عمليّة تلقي  النَّصِّ، أضحت القراءة النقديّة ذات صبغة تاريخيّة، وأضحى إنتاج المعنى ذا طابعٍ تاريخي مرتبط بخبرة القارئ، وعليه فالمعنى ليس قابعاً في أغوار النَّصِّ وإنّما ينبثق كسيرورةٍ تفاعليّة ـ تاريخيّة من خلال الإصطدام بعلامات النَّص، ومن هنا يشير رامان سلدن: إلى أنَّ «معنى النَّص لا يتشكَّلُ بذاته قطٌّ، فلا بُدَّ من عمل القارئ في المادة النّصيّة لينتجَ معنى»(4)، إستناداً إلى ذلك نجد المفهوم الذي أدّى إلى تسمية هذه النظريّة بـ «التلقي» من حيث دفع «القارئ» إلى فضاء قراءة النّصِّ بعد أنْ كان مغيّباً في التيارات السَّابقة.

ولا بُدَّ لنا من الإشارة إلى المرجعيّة التي استندت إليها «نظريّة التلقي» التي تتمثل  في استثمار ياوس للهرمنوطيقا التي قعّدها الفيلسوف الألماني هانس جورج ـ غادامير، في حين إتجه إيزر إلى الإستفادة من فينومينولوجيا الفيلسوف البولندي رومان انغاردن، الأمر الذي يعني اختلافاً في الأُسِّ المرجعي، وفي هذه النقطة يشيرُ أحد الدارسين:» وقد اشترك كلٌّ من هانز روبرت ياوس وفولفجانج إيزر في تأسيس مدرسة كونستانس للدراسة الأدبيّة (نظرية التلقي)، وإذا كان إسهام ياوس في نظرية التلقي يرجع إلى إهتمامه بالعلاقة بين الأدب والتاريخ إلاّ أنَّهُ قد إهتم مع إيزر بإعادة تشكيل النظريّة الأدبيّة عن طريق صرف الأنظار عن المؤلف والنَّصِّ، وتركيزها مرةً أخرى على علاقة النّصّ القارئ، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ مناهجهما الخاصة في معالجة هذه النقطة قد اختلفت إختلافاً، فعلى حين تحرك ياوس بصفة مبدئيّة نحو نظريّة التلقي من خلال إهتمامه بتاريخ الأدب، برز إيزر من مجال التوجهات التفسيريّة في النقد الجديد ونظرية النّص، وفي الوقت الذي إعتمد فيه ياوس في بادئ الأمر على الهرمنوطيقا وكان خاضعاً بصفةٍ خاصة لتأثير هانز جورج جادامر Hans geory gadamer كانت الفينولوجيا هي المؤثر الأكبر في فكر إيزر وبشكلٍ أكثر بدقةٍ كانت لفينومينولوجيا رومان انغاردن أكبر الأثر في ذلك»(5)، وإذا كانت هذه إشارة وجيزة إلى المسار الذي إنبثقت فيه نظرية التلقي، فإنَّ الأمر يدعونا إلى البحث في مكوِّنات التلقي وتبيان تحولات هذه المكوِّنات في نظرية التلقي ذاتها.

الدكتور عاطف حميد عوّاد، مواليد عام 1955م، علمات ـ قضاء جبيل، أستاذ ـ بروفيسور في ملاك الجامعة اللبنانيّة ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة ـ الفرع الرابع.

ـعضو رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانيّة.

عضو إتحاد الكتاب اللبنانيين.

عضو إتحاد الكتاب العرب.

عضو مؤسس في هيئة تحرير مجلة «إطلالة جُبيليّة».

محمود العشيري: الإتجاهات الأدبيّة والنقديّة الحديثة (دليل القارئ العام) ص:91.

م. ن. ص: 92.

رامان سلدن، النظريّة الأدبيّة المعاصرة، ص:167ـ 168.

سامي إسماعيل، جماليات التلقي، ص: 11.