علمات نبع الكرم ومنبت الخير

24/5/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

تمر الأيام السعيدة وتحل مكانها الذكريات الدافئة والحميمة، تعيش في قلب الإنسان ووجدانه، تتراءى أمام ناظريه بصورها النضرة وملامحها المضيئة، فتلازمه مدى الزمن حتى تستحيل جزءاً لا يتجزأ من مكونات شخصيته ومعالم كيانيته، تضيء في حنايا الروح جذوة الأمل وتنثر على مواكب الحياة أزاهير البسمة والمودة والفرح.

 

ومن هذه المراحل الزمنيّة المشرقة، تستوقفني الذكريات عند بلدة علمات التي أمضيت في رحابها صيفاً جميلاً يعود إلى العام 1989م، يتنامى في مخيلتي حلماً وردياً مضخماً بمعاني الوفاء وعرفان الجميل لهذه البلدة الجُبيليّة الأصيلة وأهاليها الأعزاء الشرفاء.

ففي تلك الحقبة العصيبة من تاريخ لبنان، وبعدما عنفت الإشتباكات وعلا ضجيج السلاح في ما سمي حينذاك «بحرب التحرير»، شرع سكان «جبيل» بمغادرة مدينتهم واللجوء إلى الأماكن البعيدة العاليّة هرباً من جحيم القصف وأتون المعارك.

وكنت من جملة من نأى بنفسه عن الحرب وأهوالها، قاصداً بلدة علمات الجبليّة الشامخة ومنزل المرحوم «حيدر عوّاد» تحديداً، وكانت تربطه بوالدي السيد بهيج اللقيس صداقة راسخة ومتينة.

ولما سألت نجله السيد عدنان عن منزل أقيم فيه لقضاء فصل الصيف أجابني بالحرف الواحد:

«أستاذ نديم إختر أي بيت يعجبك ونحن بخاطرك».

فانتقيت في حينه منزلاً قريباً من حسينيّة علمات الشريفة ومسجدها التراثي العريق ومجاوراً للطريق العام.

وبعد غياب نصف ساعة من الوقت أحضر لي السيد عدنان مفاتيح المنزل قائلاً لي: «البيت بتصرفك».

ومنذ اليوم الأوّل بدأ أهالي البلدة يزورونني مرحبين وكأنني فرد  منهم وأخ عطوف لهم.

وتتالت الأيام ووجدت لدى أبناء هذه البلدة الوادعة مناقب سامية ومآثر نبيلة ورفيعة وحصافة في القول والعمل، ما يضرب به أمثال وتحكي عنه الأجيال.

وإن نسيت فلن أنسى أبداً مواسم الخير والبركة وغلات أرض علمات المباركة المعطاء التي كانت تصلني كل صباح، من سلال التين والتفاح يقطفها المرحوم زيدان عواد وعناقيد العنب يزودنا بها المرحوم الحاج كامل عواد ومناقيش الصعتر والجبن الطازجة والنباتات المتناثرة على روابي وقمم جبال علمات الشمّ وسفوحها الخصبة ومنحدراتها المزركشة بأبهى الحلل وأجمل الرسوم والألوان.

ولا بُدَّ لي في هذا السياق من التنويه بضيافة وحفاوة الصديق والمربي العصامي الأستاذ محمد علي حيدر عواد وحسن وفادته، وكنت أزوره في منزله في علمات بإستمرار برفقة إمام المركز الإسلاميّ لمدينة جبيل فضيلة الشيخ غسان اللقيس، وتعود بي الذكرى إلى والدته الكريمة(رحمها الله) وترحيبها بنا ببسمتها المعهودة وإطلاق الزغاريد والقصائد الشعبيّة الرقيقة التي تترك في القلب أبلغ الأثر ووافر الإمتنان والتقدير، أذكر منها هذه الأبيات:

لو تعلم الدار من قد زارها فرحت

واستبشرت وباست موضع القدم

وأعلنت بلسان الحال قائلة

أهلاً وسهلاً بأهل الجود والكرم

كما لا يغيب عن البال والخيال الرحلة الإستكشافيّة التي قادتنا إلى جبال بقعاتا المطلّة على بلدة علمات برفقة فضيلة الشيخ غسان اللقيس ونسيبنا المرحوم منيف حسين اللقيس (مراقب أوّل في الجمارك اللبنانيّة ومدير مركز المصنع الحدودي سابقاً ومجاز في الحقوق والعلوم المالية والإداريّة من الجامعة اللبنانيّة)، والمحاضر الجامعي في العلوم التاريخيّة الدكتور رباح أبي حيدر، وصاحبي الدعوة الأستاذ محمد علي عوّاد وقريبه السيد علي حسن عوّاد، حيث أمضينا يوماً من أحلى أيام العمر في أحضان الطبيعة الخلابة لبلدة علمات ومروجها الزاهيّة الخضراء.

وفيما كانت رياح العنف والبغضاء والكراهيّة تزمجر في مختلف أنحاء لبناننا الحبيب، تألقت بلدة علمات منارة مُضيئة للتآخي الإنسانيّ والإنصهار الوطنيّ وحصناً حصيناً للسلم الأهليّ والإرتقاء الفكريّ، تسطر للعالم بأسره أبلغ الصفحات وأصدق الأمثولات في الشهامة والمروءة والنخوة والتكاتف الإجتماعيّ والحضاريّ البناء بين بني البشر قاطبة وبين أبناء بلاد جبيل بشكل خاص.