ملحق الإمام الحسين (ع): دور العقل في النهضة الحسينيّة

4/1/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

للعلاّمة السيّد علي فضل الله(1)

عندما نستعيد عاشوراء، فإنَّنا لا نستعيد التاريخ، بل نستعيد الواقع ونستلهم المستقبل.. فالحسين في كلّ حركة قام بها، كان يفكّر للمستقبل الآتي لنا ولكلّ أجيالنا، كما كان يفكّر في حاضره.. فعاشوراء لم تكن معركة بين جيشين، تنتهي بانتهائها عسكرياً ليأتي من يسأل باستهجان: لماذا تستمرون في إحياء ذكرى مرَّت عليها مئات السنين؟ إنَّ هذا السّائل لو قرأ التاريخ بعين الناقد الحرّ والمنصف، لعرف لماذا عشق مفكّرون من الغرب، لا من العرب فحسب، سيرة الحسين، ولعرف لماذا قال مثل غاندي: علّمني الحسين كيف أكون مظلوماً وأنتصر.

ما زالت عاشوراء تمثّل حدثاً تاريخياً أخلاقياً روحياً توعوياً وثورياً كبيراً.. ونحن نحييها وسنبقى نحييها لنعبّر عن عاطفتنا ومشاعرنا وأحاسيسنا تجاه ابن بنت رسول الله، تجاه من أخلص لله وعمل من أجل الأمة.. ولنؤكّد خيارنا ونعزّز منطق عاشوراء وقيمها في النفوس؛ القيم التي عاشها الرجال والنساء والأطفال في كربلاء، ومن أجلها عانوا وضحّوا، وحتى نعبَّر عن رفضنا لمنطق بائعي الضَّمائر والدّين من أجل دنيا أو مال أو لحقد أو بغض عاشه الَّذين وقفوا في وجه الحسين..

إذاً، عاشوراء كانت صراعاً بين منطقين: منطق اشهدوا لي عند الأمير.. منطق إنما نقاتلك بغضاً لأبيك.. منطق الطَّمع بملك الريّ.. منطق الخائفين.. مقابل منطق المبادئ والرّسالة والقيم والأهداف الكبيرة...

ومن هنا ندخل ساحة الحسين(ع)... لقد سعى الحسين في كربلاء إلى أن يحاور القوم، أن يلفت نظرهم وأحاسيسهم.. أن يذكّرهم بموقعه من رسول الله، وبأنه ابن بنت نبيّهم، وإلى أن لا أحد منهم يطلبه بدم.. وبعد خطبته الأولى فيهم، يتقدّم الشمر ويقول: يا حسين.. ما نفقه ما تقول...

وقد كرّر الحسين (ع) محاولته ثانيةً، فدعاهم إلى أن يكونوا أحراراً في الدنيا، أن لا يكونوا عبيداً لأحد.. لكنّهم لم يردّوا.. وبيّن لهم سلبيات الحاكم الذي قدموا للدفاع عنه، ومشروعه المعادي للرسالة ولمصالح الأُمة.. فتجاهلوه: لا نفقه ما تقول، لا نريد أن نفكر.. ولا نريد أن نعي فقط.. انزل على حكم ابن عمك.

كان يرى الخطورة في ما آلت إليه أوضاع أمّة لا تفكر.. لا تحاور.. أُمة استسلمت لمنطق زعمائها ومصالحهم.. لمنطق العابثين بفكرها.. أُمة استسلمت لذلّها وخوفها.. وهذه الأمة المسلوبة القرار والموقف.. هي بالطبع لن تكون، كما أرادها الله، خير أمة أخرجت للناس.. بل ستكون عبئاً على الإسلام والمسلمين..

لقد جاء الإسلام وفي رأس أولوياته أن يثبّت الوعي ويحرك العقول.. في الفكر والعقيدة والسياسة والاجتماع وكلّ المجالات.. هو دعا الإنسان إلى أن يفكّر في كلّ شيء.. وكان عنوانه اقرأ.. والقراءة تعني الوعي.. أن تعي نفسك.. أن تعي الكون والحياة.. أن تعي الناس من حولك.. حتى عندما تؤمن، لا تؤمن إلا بعد أن تدرس الكون والحياة...

لقد واجه بكل حسم الذين جمدوا عقولهم ووسائل المعرفة لديهم، ممن أشار إليهم الله: } لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ { الأعراف 179. ممن راحوا يقولون: } إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُون.. { الزخرف 23. ممن يفكّرون بجيوبهم وبمصالحهم بمواقعهم، لا بعقولهم..

وهو أراد للإنسان أن يكون حُراً في تفكيره، بأن لا يستسلم لأفكار الآخرين.. أن لا يخضع لأي فكر.. حتى عندما يقلّد.. أن يعرف من يقلّد ويتبع في أيّ شيء.. وحذَّر من تلاعب الطُغاة بالعقول وتعليبها، وتوجيهها في الوجهة الَّتي تخدم سلطتهم... وسعى لإزالة كلّ الأغلال التي تقيّد فكر الإنسان وحركته حتى لا يفكّر بحريَّة.

وإلى ذلك يشير الله بقوله:}الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ{ الأعراف 157.

لقد جاء الإسلام ليحرّر الإنسان من أغلال الشَّهوات والأطماع والعصبيات والحساسيات والأنانيات التي تقيّد فكر الكثيرين من الناس وإيمانهم...

إنَّ من أهمّ أولويات الإسلام كانت تحريك العقول وإيقاظ فطرة الناس.. وهذا ما عبر عنه أمير المؤمنين عليِّ } عليه السّلام)، في وصفه فلسفة بعثة الأنبياء بقوله:(فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه.. ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ... {.

وقد ورد: (العقل رسول من داخل، كما أنّ الرسول عقل من خارج).. أي أنَّ لله على الناس حجَّتين، حجَّة ظاهرة وهي الرّسول والأئمة، وحجة باطنة وهي العقول.. والعقل هو رسول الحقّ..

وقد ورد عنه: } وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ { الملك 10.

وحتى يتعزَّز موقع العقل أكثر، دعا الله الإنسان إلى أن يتعلَّم ويتفكّر ويتدبّر ويشاور ويحاور.. وإلى كل ما يغذّي العقل بحقائق جديدة.. لقد جاء الإسلام ليضع العقل في الموقع الأول فالعقل رسول من داخل، لأنَّه هو الهادي إلى الله وإلى الرّسل وإلى الأئمَّة وإلى كلّ العقائد والأفكار.. وحتى الغيب هو محكوم للعقل..} قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي.. { يوسف 108. وبالطَّبع بهدى السّماء الَّذي هو عقل من خارج...

فالأُمّة عندما تتحرَّك عقول أبنائها وتكون واعية مفكّرة متبصرة متدبّرة متعلّمة، لن يستطيع أحد أن يسيطر على عقلها لكن العقل الحرّ.. العقل الواعي .. ولن يستطيع أحد أن يتحكَّم بقرارها ومصيرها.. أن يستغلّها، أو يتلاعب بها، أو يأخذها إلى حيث يريد.. الأُمة التي تقول لا لهكذا حاكم، سوف تكون قادرة على أن تحدّد هي خيارها.

ومن هنا كان جُهدُ الطُغاة والمستكبرين وكلّ الذين يتلاعبون بالعباد والبلاد، الإمساك بالعقول، وتجهيلها، أو تدجينها، وجعلها أسيرة ما يخطّطون وما يفكّرون وما يقرّرون.. فلا يصل من الفكر والمعلومات إلى الناس إلا ما يريدون من خلال سيطرتهم على وسائل الإعلام والتّواصل ودوائر التثقيف والتوجيه والإفتاء والقرار الديني.. تنطق باسمهم وعنهم.. وتقوم بكل عمليات التشويش على العقول، والتعمية على أي حقائق لا تخدم مصالحهم.. ناهيك بتشويه صورة من يعارضهم في فكره أو يقف في وجه مشاريعهم.

وقد أشار القرآن إلى مشهد من ذلك عندما تحدث عن فرعون، فهو بعد أن استعرض قوته أمام الناس قال لهم: }مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ.. { غافر 29. أنا الذي أحدّد لكم فكركم.. أما الَّذين يخرجون عن إرادته في التفكير، كما فعل السَّحرة عندما آمنوا بموسى من دون إذنه، فجزاؤهم القتل والصلب والتقطيع.

لقد واجه الحسين أمثال هؤلاء الطواغيت ممن راحوا يتلاعبون بالفكر وبالدين وبمصالح الناس.. فحولوا خلافة رسول الله إلى مُلٍكِ عَضوض...

ومن هنا، انطلق الحسين(ع) بثورته ليغيّر هذا الواقع.. وقد كان الحسين (ع) يعرف أنَّ هذه الثورة قد لا تؤدّي إلى ما كان يصبو إليه من تغيير الحاكم.. وإعادة الحقّ إلى نصابه.. لكنّه كان متأكّداً من أنها ستساهم في إعادة إنتاج الوعي المفقود الّذي سمح بسكوت الأمّة على واقعها.. بحيث باتت لا ترى الحقّ يعمل به.. ولا ترى الباطل لا يتناهى عنه.. أُمة ضاعت لديها المقاييس.. أمة يتلاعب فيها البعض بالدين إلى حدّ الحطّ من قدر عقول الناس وتسخيفها، بحيث صار يسمع فيها أن حجْرَ بن عُدي الكندي رضي الله عنه قتله معاوية رضي الله عنه... أو كما صاح عُمر بن سعد: يا خيل الله اركبي.. لكأنه يدعو إلى شنِّ غارة على جماعة من المشركين والكافرين، فيما المقصود بالجملة ابن بنت رسول الله.. وسيد شباب أهل الجنة.. أو يصار إلى الاستهتار بأموال الناس وتفشي الفساد من خلال التلاعب بمقدرات الدولة الإسلامية وتعطيل القوانين...

لذا قال: «ألا ترون إلى الحقِّ لا يعمل به، والى الباطل لا يُتناهى عنه.. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود... ».

بعض المغرمين بالتنظير، وغير العارفين بأبسط الأمور في تاريخ الإسلام، وهم يفكّرون في معطيات اللحظة وأوجاع الراهن، يقولون إن الثورات التغييرات تحتاج إلى وعي سياسيّ عميق.. إلى حنكة سياسيّة.. وإلى وإلى وإلى.. وهذا ما لم يتوافر للإمام الحسين (ع) في رأيهم.. ثم يقدّمون نصيحتهم التي يعتبرون أنها فاتت الحسين وكان عليه أن يفكّر بها، وهي أن يتحرك بطريقة مغايرة لا تؤدي إلى ما أدّت من نتائج.. ولكن هؤلاء يغفلون أنَّ عملية التغيير هي عملية تراكمية تحتاج إلى زمن طويل، وخصوصاً عندما نتحدَّث عن تغيير جذريّ في الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والدين...

لقد أراد الحسين من خلال ثورته أن يُحدث زلزلة في العقول التي تخدّرت والقلوب التي تحجَّرت.. استعان بالكلمة.. وبقي حتى الرمق الأخير يحاور ويوجّه.. وعندما رأى أنَّ الكلمة وحدها لم تعد تؤثّر، مزجها بدمائه الطاهرة ودماء كلّ الذين معه.. وما سعى إليه الإمام تحقق.. فقد عادت جذوة الحياة إلى الأُمة بعد أن كانت منطفئة حين كان حاضراً بينها. وما إن استشهد حتى توالت الثورات التي دكَّت العرش الأموي.. انتفاضة المدينة.. ثم ثورة التوابين.. وإلى ما هنالك من ثورات أخرى.. ولا تزال مفاعيل الثورة الحسينيَّة حتى اليوم تعطي أُكلها كل حين بإذن ربِّها.. وأيضاً الثورات الفكرية على الفكر المتحجر...

إنَّ دورنا نحن الذين نحيي هذه الذكرى.. أن نبقي عاشوراء حيّة في الوعي، فالمرحلة أحوج ما تكون إلى أن نثبت قيمها ومنطقها.. فهذا هو الأساس لكلّ ظرف ولكلّ زمان ومكان.. وأن لا نبقى نُحدّق فقط بالأسلوب.. عاشوراء لها ظروفها.. وقد نحتاجه حين تفرض علينا ظروف مماثلة.. إلا أننا يجب أن نكون حاضرين لاستخدام كل أساليب العمل التغييري، كما هي مسيرة الأئمة i التي شهدت تنوعاً في الأساليب.. المهم أن نُحِسنَ اختيار الأسلوب وكلّ ما نحتاجه.. والأساس أن نمتلك الوعي الذي بثَّه الحسين عندما دعانا إلى الوعي لنهج الحاكم وللواقع السياسي.. الوعي العميق.. حتى لا نجامل فكراً مُنحرفاً، مهما كان هذا الفكر في العقيدة أو الشريعة أو السيرة أو التاريخ.. ولا نقبل بأن نُحلَّ حراماً أو نُحرّم حلالاً أو نُزيّف الوقائع تحت أي اعتبار.. أن نقوم بمسؤوليَّتنا تجاه الحاكم الفاسد أو الظالم.. فلا نجامله.. أو نبايعه.. أن لا نؤيّده في فساده.. قد نلتقي معه في جانب، أما في الفساد والظلم فلا...

أن نواجه الفكر المنحرف أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.. أن نعي مواقع قوتنا.. فلا نُعطي إعطاء الذليل ولا نُقِرُ إقرار العبيد.. أن لا نكون عبيداً للدنيا.. فيكون الدين لعقاً على ألسنتنا نحوطه ما درت معائشنا.. لا يمكن إلا أن نكون صوتاً للحقِّ.. أن نرفع يداً.. ونستعمل لساناً وقلباً في مواجهة الباطل.. أن يكون أكبر همنا أن يستقيم الإسلام ويحفظ.. وأن نردّد دائماً عند الابتلاءات والمصائب: «هون ما نزل بنا أنه بعين الله ... »

إنَّنا أحوج ما نكون إلى الوعي بعدما بتنا نعيش في واقع تُزيّف فيه الحقائق والأشخاص والوقائع.. فلا يملك وضوح الصورة إلا الذين يملكون الوعي..

إنَّ القيمة تبقى دائماً لأولئك الواعين الذين يستشرفون المستقبل في السياسة وفي الفتن التي يُراد بها أن تحصل في واقعنا.. وهؤلاء الاستشرافيون هم من يستحقّون التقدير... أما دُعاة اللحظة والآن.. دعاة العصبيات والحساسيات، فلا بُدَّ من أن لا يكون لهم موقع في واقعنا...

في ذكرى عاشوراء، لنجدّد عهد الوفاء للحسين (ع) ولمن معه.. بأن نستهدي بروحه.. بعنفوانه.. بصلابته.. وحريته وكرامته.. ووعيه.. علينا دائماً أن ننتبه من أفخاخ الغش والخديعة التي تنصبُ لنا، وأن نحدّق دوماً بكلمة الإمام عليّ (ع) عندما يقول: «كلمة حقّ يراد بها باطل .. »

لقد بات الكثيرون يستخدمون كلمة الحقّ، لا ليزهقوا باطلاً، بل ليزهقوا حقاً.. فكم من الثورات والتحركات والسياسات ظاهرها براق وجذاب وعمقها باطل! وقد حذّرنا الله من الانسياق إليها، ذلك قوله تعالى: } وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ { البقرة 204.

 

ملحق الإمام الحسين (ع)

 

الهوامش:

(1) كلمة العلاّمة السيّد علي فضل الله على منبر «جمعية التعليم الدينيّ الإسلاميّ » في الغبيري ـ بيروت في ليالي عاشوراء 1437هـ الموافق لشهر تشرين الأوّل 2015م.