الرئيس أديب علاّم... ظاهرة بتاريخ القضاء اللبناني

14/7/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم القاضي حسن رضا الحاج

مفوض الحكومة شرفاً

لدى مجلس شورى الدولة

عندما طلب مني سماحة العلامة الجليل الشيخ  يوسف عمرو، وبعد أن وقعت بين يديه صورة تجمعني مع المغفور له القاضي الرئيس أديب علاّم ونحن نؤدي القسم في قصر العدل في بيروت أمام فخامة رئيس الجمهورية آنذاك الشيخ أمين الجميّل بمناسبة تعييني والراحل الكبير عضوين في مجلس القضاء الأعلى خلال شهر نيسان 1987م، أن أكتب كلمة في المجلة الرائدة التي يصدرها سماحته (إطلالة جبيليّة) عن المرحوم الرئيس أديب علاّم وما أعرف عنه من مزايا وصفات، ترددت كثيراً في القبول تهيباً مني أن لا أفي الرجل الكبير حقه، وأن لا أكون قد أحطت علماً بكافة مزاياه وخصاله.

وبالفعل بقدر ما يحار المرء ويصعب عليه أن يكتب عن شخص كبير مثل الرئيس أديب علاّم، يظل بالإمكان كتابة صفحات مديدة عن حياته الحافلة بالعطاء وعن مسيرته القضائيّة المفعمة بالعلم والتجرد والعدل بسخاء!!

القاضي الرئيس أديب علاّم كان علامة فارقة في تاريخ القضاء اللبنانيّ.

وقد درجت العادة في بلد كلبنان أن يسمع النّاس ويتداولوا أسماء القضاة الّذين يتولون المناصب القضائيّة العليا مثل رئيس مجلس القضاء الأعلى ومدعي عام التمييز واستطراداً رئيس هيئة التفتيش القضائي لما يتمتعون به من سلطة بين النّاس وبين القضاة أنفسهم، إلاّ أن الرئيس أديب علاّم وهو الذي لم يتولَ أياً من هذه الوظائف بحكم إنتمائه المذهبي في ظل النظام الطائفي البغيض الذي ما زلنا نعيش في ظل آثامه وشروره، وما زال كثير من الطبقة السياسيّة يتشبث به ولو خرب البلد قد شذَّ عن هذه القاعدة، فإذا به وهو مدع عام إستئنافي في الشمال شاغل الدنيا ومالئ النّاس في تلك المحافظة الأبيّة التي كان لي شرف العمل بها رئيساً أول لمحاكم الإستئناف، وإذا بأهل الشمال قاطبة وعلى إختلاف إنتماءاتهم السياسيّة والمذهبيّة ما زالو يلهجون بالثناء على ذلك القاضي الذي كان أقرب إلى شيخ صلح العشائر منه إلى قاضٍ يتمسك بالنص الجامد ولا يحيد عنه قيد أنملة، دون مراعاة لاختلاف طبائع الشعب وعاداته وتقاليده بإختلاف مناطقه بين ساحليه وجبليه.

وينتقل الرئيس أديب علاّم رئيساً أول لمحاكم الجنوب، وقد كانت محافظة الجنوب واحدة ومركزها صيدا، فتسبقه شهرته ويذاع صيته بأنّه الإنسان الذي يستوي في مجلسه المتقاضون لا يخشى في الحقِّ لومة لائم، ولا يحابي قوياً ومتنفذاً ولا يستقوي على ضعيف ممن ليس له سند أو ظهير.

فقد إختار نبراساً في مسيرته القضائيّة رسالة سيّد البلاغة الإمام علي بن أبي طالبQ، إلى الأشتر النخعي عندما ولاه على مصر وأعمالها:

«إختر للحكم بين النّاس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الإمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى الحقِّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع ولا بهم أدنى فهم دون اقصاه، وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل».

والرئيس أديب علاّم كان بالفعل من أولئك القلة من القضاة الذين يتمتعون بطول أناة وسعة صدر، ووفير علم، وكان يفتح أبواب منزله ومكتبه لكافة  النّاس حتى المتقاضين منهم ولم تكن عنده عقدة من إستقبال من كان لديه دعاوى في محكمته لا فرق بين مدع ومدعى عليه فيستمع إلى شكاوى الجميع ومطالبهم دون تأفف أو تبرم، حتى إذا اتضح الحقُّ من الباطل كان صارماً في إعطاء صاحب الحقِّ حقه وفي رفع الظلم عنه والحكم على الخصم بما يترتب عليه من حقوق.

ولأنّه كان مهتماً بقضايا النّاس الإجتماعيّة وكان بيته مقصداً لأهالي منطقته بلاد جبيل وكسروان وبلاد بعلبك الهرمل حيث كانت له صولات وجولات في عقد الصلح بين عشائرها المتقاتلة فقد عرضت عليه النيابة عن منطقة جبيل خلال فترة الحكم الشهابيّ ومن أعلى المستويات على ما كنت أسمع ولم أكن أعرفه شخصياً، إلاّ أنّه رفض العرض بشمم وإباء معتبراً أن القضاء أسمى رسالة يمكن لإنسان أن يطمح إليها ويفتخر بها وهل أسمى من أن يتولى المرء شؤون أبناء جنسه بتقرير مصير حياتهم وحرياتهم وحقوقهم؟ ولذلك إعتبر وآمن أن على من يتولى هذه الوظيفة الرسالة أن يقدّرها حق قدرها وأن يكون صالحاً لها بتوافر مستلزماتها الخلقيّة والعلميّة فسخر في خدمة العدالة جميع قواه ومواهبه دون التوقف عند آية تضحيّة بنور عقله وحسِّ قلبه ووحي ضميره، واستطاع أن يجمع بين العلم وبين الحكمة والضمير فكان قاضياً بكل معنى الكلمة واستحق الشكر والثناء في هذه الدُنيا والنعمة والثواب في الآخرة.

هذا هو القاضي الرئيس أديب علاّم الذي كما استهليت كلمتي هذه تحار من أين تأتيه، أمن صفته قاضياً يطبق القوانين الوضعيّة، أو شيخ صلح عابر المناطق والطوائف والمذاهب، مرتدياً عباءة مشايخ العشائر ودشداشاتهم ساعياً إلى جمع كلمتهم وحاملاً منديلاً أبيض للجمع بين المتقاتلين منهم مطبقاً بهذا الصدد القانون العشائريّ الذي كان ملماً بكل تفاصيله والذي كثيراً ما يختلف عن القانون الوضعي وكثيراً ما كان يوفق في مساعيه الخيّرة لوضع حد لقتال ذهب ضحيته عدد من القتلى من العشائر نظراً لما كان يتمتع به من إحترام وتقدير عاليين من قبل أبناء منطقته وأبناء بعلبك الهرمل، وهذان الإحترام والتقدير كانا ناتجين عن أنّه استطاع أن يجمع بين العلم والمعرفة وبين الحكمة والضمير، فكان قاضياً صالحاً بكل معنى الكلمة لأنّه كان مُنصفاً وعادلاً ولا يزدهيه إطراء أحد المتخاصمين ولا يستميله إغراء الآخر.

كان رحمه الله يحب الأرض حتى العشق ويعتبر وهو على حق أن كرامة الإنسان في أرضه وأذكر أنني عندما كنت أزوره في منزله في تمنين ـ البقاع وكنت قد عينت رئيساً أول لمحكمة استئناف البقاع وكان قد اُحيل إلى التقاعد أسأله عن الأرض التي كان يملكها في منطقة جبيل التي طالها التهجير ابان الحرب اللبنانيّة المشؤومة فكان يُصرُّ على أنّه سوف يحتفظ بها ولن يتخلى عن متر واحد منها يحثُّ أقاربه وبني عشيرته على الإحتفاظ بأرضهم وعدم بيعها أو التفريط بها، وقد أثبتت التجارب والأيام رأيه وصدق نظرته.

وبقي منزله في عين جرين قرب كوع المشنقة في وسط جرد جبيل شاهداً على تشبثه بالوحدة الوطنيّة والعيش المشترك الذي كان رائداً من دعائه.

وأخيراً لا بُدّ من ذكر أنني عندما تزاملت وإياه في مجلس القضاء الأعلى في الثلث الأخير من الثمانينيات وتحديداً/1987م، كنت ثائراً وعنيفاً في جهري بالحقِّ ومطالبتي به، وكان هو الذي يزيدني عُمراً وتجربة يدبر الأمور ويصل ما انقطع بالحكمة والإعتدال، وكنت في قرارة نفسي ألومه على مواقفه المعتدلة، ولا أدري اليوم إن كنت على حق بعد أن دفعت ثمن مواقفي في بلد مثل لبنان وفي ظل نظام مثل نظامه العفن وجلاب الويلات والآثام والحروب بين أبنائه الذين عاشوا دهوراً جنباً إلى جنب وما ان يطلع زعيم طائفي تعتبر طائفته أنّه خشبة الخلاص بالنسبة لها وحامي حقوقها حتى تتناسى فيما لو مسه سوء واتهم أفراداً من طائفة أخرى بذلك، ممن عاشت معهم تلك الدهور؛ إلاّ أنني أردد بكل راحة ضمير مع كونفوشيوس فيلسوف الصين الشهير عندما ناجى نفسه:

«طالما أضرت كبريائي بي فأضاعت عليّ مجداً ومالاً فلما سالت كبريائي ما السبب؟ قالت: ألا تنام مرتاح الضمير قلت: بلى، قالت: خلاص»... فراحة الضمير تسمو على كل الطوائف والألقاب!!!.