لبنان يحتاج 200 عام ليتعرّف إلى ناصر جديد

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

النائب السابق  ورئيس لجنة الإدارة والعدل

في المجلس النيابي سابقاً: أوغست باخوس

 

هي علاقة ندّية، تفوح منها رائحة «الزنبق» القانوني، تلك الوردة التي لازمت القاضي عبد الله ناصر، وشاركه في عطرها وجمال تألّقها، القانوني والبرلماني العريق والمشرّع ورئيس لجنة الإدارة والعدل في مجلس النواب اللبناني لسنوات خلت أوغست باخوس.

تتحايل الكلمات على موجة الذكريات التي تتجمّع في زاوية واحدة، في ذاك المكان الذي يعاقر فيه صمت الحاضر، ضجيج ماضٍ يحضر بكلّ تجلّياته على صفحة باخوس وهو يستعيد حقبة مهمّة من حقب تاريخ لبنان القضائي، تلك الحقبة التي تمرّس فيها القاضي ناصر بالقانون، بقدر تمرّسه بالقضايا التي أرست معايير قانونية واضحة.

يستفيض حديث النائب السابق باخوس، بشيء من الحنين الممزوج بما يشبه خريف الحياة، وهو يستعيد صورة علاقته بالقاضي عبد الله ناصر، ويذهب إلى حدّ القول بأنّ «لبنان يحتاج إلى 200 عام لكي يجد قاضياً كالقاضي عبد الله ناصر، هذا العالم القانوني الذي أعطى الكثير للقضاء، وهو كالنبع الذي لا ينضب».

في مكتبه وبين رتل أوراقه المتناسلة، يمضي باخوس وقته، يعيد ربّما كتابة جزء من تاريخ حياته، يتوقّف قليلاً ليتحدّث عن شريك عزيز، لم تمنع تجاعيد العمر «شبابية الذكرى»، أن تبقى حاضرة على الدوام، يركع القلم عند حدود ظرفية الخطاب، حين يتنافس في قصّ تاريخ القاضي عبد الله ناصر الذي «أفاض من علمه وبحثه في سبيل أن يرقى بالقانون إلى أبعد من زواياه المغلقة».

تعود علاقة باخوس بالقاضي ناصر إلى اربعينيات القرن العشرين حيث نشأت علاقة ودّ متينة بينهما، إذ كان رئيس قلم محكمة الاستئناف في جبل لبنان «وكنت محامياً متدرّجاً في مكتب العلاّمة القانوني الكبير إدمون كسبار الذي ولّي حقيبة وزارة العدل في عهد الرئيس سليمان فرنجية، بعدما كان انتخب نقيباً للمحامين مرّتين في عامي 1944 و1952 لسنتين متتاليتين في كلّ مرّة، وكان القاضي ناصر يتردّد باستمرار إلى المكتب، مرّة كلّ أسبوع ويفتح حواراً معي ومع كسبار، ومع المحامي والوزير ورئيس المجلس الدستوري سابقاً وجدي ملاّط».

لا يتوانى باخوس عن وصف القاضي ناصر «بالعالم القانوني» تقديراً منه لعلمه وفكره وآرائه وسيرته الحسنة، ويذكره دائماً بالخير، فهو» الشاب الذي توقّع له الشيخ كسبار، أنّه سيُغْني السلك القضائي بمعارفه القانونية».

تبوّأ القاضي ناصر العديد من المناصب القانونية في السلك القضائي، مناصب يحاول أن يُطلّ عليها باخوس من زاويته كما عايشها، خصوصاً وأنّ علاقة وطيدة «جمعتنا وتشاركنا في كثير من القضايا القانونية ومنها على سبيل المثال مسألة الاستملاكات، فحين كنت رئيساً لبلدية الجديدة-سدّ البوشرية، وكنت وكيل بلديات ساحل المتن الشمالي: برج حمود، الدكوانة وعمارة شلهوب، كان القاضي ناصر، قد تولّى رئاسة لجنة استملاك جبل لبنان». تكاد الأحداث أن تقفز من بين تلك الكلمات التي يحاول باخوس أن يحيكها بسلاسة تراتبية، فيستدرك ليسردها كاملة قبل أن تتطاير منه، وتسمعه يقول بالفم الملآن: «لقد استفدت كثيراً من وجود القاضي ناصر في قضاء الاستملاكات والتخطيطات، إذ كان على تخوم كلّ مشروع أقوم بإنجازه، وخصوصاً حين صمّمت على إنجاز مشاريع عمرانية تقدّر بـ20 كيلومتراً، تقع في معظمها في خانة «الطرق» في البلديات التي كنت وكيلاً عليها، وقد سهّل الكثير من الخطوات لي، لذا كنت أتعاون معه في كلّ هذه المجالات».

انتخب باخوس نائباً في العام 1972، وتولّى مع مرور الأيّام والسنين رئاسة لجنة الإدارة والعدل وهيئة تحديث القوانين بسبب خبرته العريقة في التشريع وسنّ القوانين، فيما كان القاضي ناصر «لولب الحركة القضائية في مجال التشريع، لذا طلبت من رئيس المجلس النيابي نبيه بري أن يُشاركنا ناصر في تشريع القوانين داخل لجان المجلس وهكذا كان، «فهيّأنا معاً مشاريع واقتراحات عدّة».

لا يمكن لأحد أن ينكر الدور الذي لعبه القاضي ناصر بمؤازرة باخوس في توطيد أواصر العلاقة ما بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، «وقد تصادق والإمام المغيّب السيّد موسى الصدر على الزاوية الوطنية، لم يكن يفرّق بين أحد، بل إنّه لم يدرج الطائفية في قاموسه»، وهنا يشير باخوس الذي لم تحل تجاعيد العمر دون تذكّره أبسط الأمور «أذكر أنّني دعوت الإمام الصدر إلى العشاء، وكان القاضي ناصر حاضراً مع الرئيس عادل عسيران والنائبين زكي مزبودي وناظم القادري».

يخفت الحديث تدريجياً ليتحوّل ناحية ما نطق به الإمام الصدر حين شاهد الصليب معلّقاً على ردهة المنزل فقال:»الصليب لكم ولنا»، وأكمل: «يجب أن نعمل على توطيد التقارب بين الديانتين السماويتين». تأثّر القاضي ناصر بهذا الحديث المعبّر، يقول باخوس «ورافقني إلى محاضرة ألقاها السيّد الصدر في كنيسة الآباء الكبوشيين في بيروت والتي تركت انطباعاً إيجابياً لدى كبار الكبوشيين، إذ أنّهم اعتبروا الصدر»مكمّلاً لرسالة السيّد المسيح»، ويتجلّى ذلك المشهد، ببلور من عزّ يطبعه النائب باخوس على صفحة الزمن، ويشيد «بتأثّر ناصر بحديث الكبوشيين، ويعقّب «كان سلوك القاضي ناصر معروفاً، لا يفرّق بين مسيحي ومسلم، وكلّ الناس تعترف بهذا الواقع». هي شهادة حقّ، نابعة من عصف الذاكرة المبتورة، برحيل رجل «يحتاج لبنان 200 عام ليتعرّف إلى عبد الله ناصر جديد»، وشهادة «أدوّنها براحة لضميري وتكريماً لهذا الرجل الذي آمل في أن يكمل أولاده رسالته والوصية الصادقة الخالصة للتعايش بين الأديان».

يقود باخوس سفينة الرحلة القضائية لناصر، يرسو في ميناء ديوان المحاسبة، و»حين تسلّمه ناصر، كان يسوده الفلتان، فنفض عنه الغبار، وأدخل عليه الكثير من التغييرات، ويكفي إنشاء معهد القضاء المالي». ويلج باخوس في حديثه إلى إبداع «رجل وطني علماني، كوكب من الطاقة العلمية، والسيف القانوني الحاد الجريء الذي لا يهاب شيئاً».

ولا يفوت باخوس أن يعرّج في هذه السفينة على مجلس الشعب السوري ويقول بفخر:» ذهبنا معاً، وهناك التفّ أكثر من 40 نائباً سورياً ليفيدوا من معارف عبد الله ناصر القانونية، إنْ في حقل اللامركزية الإدارية، أو في مشروع قانون التعدّيات على الأملاك البحرية والنهرية».

إذا كان للصوت صدى، فإنّ للذكرى مدى يتمدّد في عمق خواطر باخوس، متوقّفاً عند زيارتهما، فقد «مات عبد الله ناصر وفي قلبه حسرة، لأنّ النواب الحاليين لم يكملوا دراسة المشاريع التي سهر ناصر ليالي طوالاً على تهيئتها، وآمُل من النوّاب أن يتطلعوا إلى مشاريع حملت بصمة عبد الله ناصر، ليكون في ذلك راحة نفسية لناصر حيث يرقد في عليائه».

أجرى الحوار:

علي الموسويّ ورنا جونيّ