القاضي السابق: بشارة متّى

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بين تجاعيد وجه القاضي بشارة متّى، حكايات وأقاصيص ترويها تلك النتوءات البارزة عند ناصية التاريخ، عن سيرة القاضي عبد الله ناصر الذي وضع نصب عينيه أن يرتقي بالقضاء الى أبعد من مجرّد مرافعة قضائية أو حكم هنا أو هناك، بل ذهب لكي يزرع سنابل قضاء راق، وبذاراً يانعة قطفها السلك القضائي اليوم، عبر صندوق تعاضد القضاة.

 تتسابق كلمات القاضي متى، وهي تقرأ بحرّية وتجرّد وأمانة، الروح القانونية -القضائية، والنضالية للقاضي عبد الله ناصر، وهي روحٌ تخترق شرايين الحياة عند القاضي متى الذي يحاول أن يلملم الشمل مع رفيق دربه القاضي ناصر، ولو عبر الذكرى التي حضرت «متغنّجة»، تحمل معها نكهة «اشتياق ناعمة» نعومة الحنين، «لقاضٍ تدّرجت عنده لسنتين، حين كان رئيساً للهيئة الاتهامية في بيروت، وكان يتعاطى في القضايا الجزائية، والمدنية والايجارات، وبقيت معه مدّة سنتين، وكان متواضعاً، يبحر بالعلم، وبابه مفتوح لكلّ القضاة والسائلين، ويملك حضوراً ذهنياً كبيراً» يقول متى.

لقد كان القاضي عبد الله حصّاداً بارعاً، يعرف ماذا يزرع وكيف يحصد حصاداً عصرياً حمل صخرة القضاء ومشى، ووضع أسساً متينة، وبنى عمارة أحلامه القضائية ومن بينها

كان صندوق التعاضد للقضاة الذي جاء بمثابة الخلاص لقضاة أرهبتهم لحظة التقاعد ونغصت حياتهم قبل خروجهم من السلك الذي أفنوا أعمارهم فيه.

عند منعطف الطريق يقف القاضي بشارة متى، يرتشف من فنجان قهوته قليلاً من الحنين، قبل أن يَدّك بندقيته بطلقات التاريخ، ويطلقها على سرب من الاحداث التي عبرت في سماء خياله، وذلك كلّما عنّت على باله الأيّام الخوالي، وهي أيّام ما زالت محفورة في الذاكرة، ينبشها ويبعثرها، وينفث الغبار عنها، ويحمل بيده ورقة طابع بريدي، وهو الطابع الخاص بصندوق تعاضد القضاة، الحلم الذي عقد عليه القاضي عبد الله ناصر الكثير من الآمال، «إلى أن أبصر النور، وقد رحل القاضي عبد الله ولكنْ ما أنجزه ما زالاً محفوراً وراسخاً، ليس عندي فقط، بل عند كلّ القضاة، والسلك القضائي».

وبابتسامة ممزوجة «بنكتة» يحملنا القاضي متّى إلى مشوار صداقته للقاضي ناصر بعد تتلمذه على يديه «فقد كان ضليعاً بكلّ القضايا من المصرفية إلى العقارية والجزائية، وشكّل موسوعة قانونية ينهل من بحرها كلّ متعطّش لحلّ ما، أو لاستشارة أو إجابة لحيرة قضائية».

يستفيض متى في الحديث عن صفات القاضي عبد الله ناصر، قبل أن ينحرف الى معقل الجَد إلى مربط الفرس الذي راهن عليه الأخير، ألا وهو صندوق التعاضد «فقد أسّسناه، وحصلنا بداية على رخصة، قبل أن يصدر مرسوم له، وبدأناه كهيئة عادية، تشكّلت مني كأمين سرّ، والقضاة عبدالله ناصر، وديب درويش، ومنح متري، وعفيف المقدّم، وكانت الإمكانيات ضئيلة، ولا يمكن فيه الاقتطاع من رواتب القضاة لأنّها تحتاج إلى قانون».

تقفز الأوراق من مكتبة متّى التاريخية، يستعرض شريطاً من عزّ من ولادة الحلم،» فقد حصلنا على الترخيص وعلى مرسوم اشتراعي بفضل المدير العام السابق لوزارة العدل القاضي وجيه خاطر، رحمة الله عليه،،واتصل بي القاضي عبدالله ناصر ليخبرني بالأمر، وكان فرحاً، وانطلقت رحلة الألف ميل، وبحكم خبرتي في الضمان الاجتماعي، بدأنا نخطّ المرسوم ونضع نقاطه الرئيسية، وحصلنا على الموارد المالية، وبعدما أصبح كلّ شيء قانونياً، شكّلنا الهيئة الإدارية وبدأنا نضع الأنظمة، وكنّا نعمل على ضو القنديل في ظلّ غياب الكهرباء».

لا يتردّد القاضي متّى في القول إنّ «القاضي عبد الله ناصر كان يملك قلماً سيّالاً، ويمكنه أن يخطّ عشرات الصفحات بسهولة، وكان حريصاً جدّاً على المتقاعدين، ولكم نبهني إلى أن أنتبه إليهم، وأن أخصّهم ببند من بنود أنظمة الصندوق، وقال لي بالحرف الواحد: «بشارة.. انتبه على المتقاعدين، المتقاعدين، ومرّر نصّاً لهم، للمستقبل».

وشغلت مسألة الطوابع حيّزاً من تفكير القاضي، خاصة وأنّ الظروف آنذاك لم تكن مؤاتية، فالحرب كانت تضع أوزارها، ويصعب التحرّك بسهولة، ومع ذلك تمّ إنجاز هذه المهمّة بفضل تصميم عبد الله ناصر، إذ أنّها شغلت باله كونها جزءاً من عملية المرسوم، «وكنا نريد أن نصدر طوابع، ولم يكن الأمر سهلاً، حيث يتوجّب تأمين الرسم والتصميم والطباعة، كما أنّ الوضع الأمني كان سيّئاً، وقمت أنا برسم الطوابع، وذهبنا إلى رسّام روسي عجوز وقدّم لنا تصوّراً لم يعجب القاضي عبدلله الذي تذكّر فجأة أحمد ملك وكان مديراً للبريد آنذاك، وتحدّث إليه، فأرشده إلى خليل فرنيني الذي دلّنا على أقاربه، وهم يتعاطون الطباعة خارجاً، وتحديداً في إسبانيا، وهكذا حدث، وطبعت الطوابع وأرسلت إلى مطار بيروت، وحان الموعد لاستلامها، وكان الوقت منتصف الظهر، وخلال وجودنا أنا والقاضيان ديب درويش وعبد الله ناصر في محلّة الكولا، اشتدّ القصف، وانهمر كالمطر، وكنّا نجهل ما سنستلمه، وكان القاضي عبد الله ناصر قد اتخذ كلّ الترتيبات لوضع الطوابع في البنك المركزي، وطلبت إعفائي من الذهاب معهما، وترجّلت من السيّارة عند تقاطع الكولا، فيما أكمل عبد الله وديب إلى المطار، وأتيا بالطوابع عبر «كونتينر»، أتمّا كلّ المحاضر وأمضيا ليلة بكاملها تحت القصف لتسليم الأمانة، وهكذا انطلق الصندوق».

يشبّه القاضي متى «العمل المضني البدائي الذي قاموا به بـ»السلاح الأبيض»، والمقصود أنّ  «كلّ الفواتير والمعاملات كانت تكتب باليد، وندقّق في كلّ شيء، لذلك أطلقنا عليها صفة «السلاح الأبيض».

 لقد كان عبد الله ناصر يكرّس وقته للصندوق، لأنّه يراه إنجازاً عظيماً، وقد «صار كلّ السلك القضائي يستفيد منه، أضف إلى أنّنا قدّمنا قروضاً سكنية عبره، وأيّام الحرب الصندوق «شغلة مهمّة» لطالما ردّدها عبد الله ناصر وكنّا نلتقي كلّ نهار سبت وكنت أزوره في المنزل لندقّق في كلّ الملفّات، ثمّ يتولّى أعضاء هيئة الصندوق توزيع الشيكات، وعلى الرغم من كلّ الحرب عملنا في ظروف صعبة جدّاً».

انطلق الصندوق، وانفرجت أسارير القاضي ناصر، يقول متّى الذي يقرّ بأنّ ناصر «نسج علاقات جيّدة مع رجالات الدولة مثل شارل الحلو، والياس سركيس، الياس الهراوي وكانت علاقته بمعظم رجالات السياسة جيّدة جدّاً، وكلمته مسموعة، وكانت صداقته وطيدة بالرؤساء صبري حمادة،حسيني الحسيني ونبيه بري، وكان الكلّ يهابه في العدلية، وكان يستمع للناس، وحضوره أليف جدّاً، وثقته كانت كبيرة بي حتّى أنّه أوكل إليّ قضايا الجنايات، ولم يكن طائفياً، بل كان وطنياً بامتياز» يختم متّى حديثه مرتشفاً آخر قطرة من كوب الحنين لرفيق الدرب الذي ترك مساحة كبيرة من الفراغ القاتل في نفسه.

أجرى الحوار: (السيّد علي الموسويّ ورنا الجونيّ)