القاضي حكمت هرموش يروي صفحات عزّ عن صديقه عبد الله ناصر.. الإنسان والقانوني

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

رئيس محكمة التمييز سابقاً

يتثاءب الحنين في أوراق الأيّام في دفتر القاضي حكمت هرموش الذي عايش القاضي عبد الله ناصر منذ مطلع الخمسينيات، فعرفه عن كثب، وقرأ فيه عبد الله الإنسان والقاضي والمحامي.

وأوّل ما يدوّنه الرئيس السابق لمحكمة التمييز المدنية القاضي حكمت هرموش في معرض قراءته لسيرة قاض زامله وعايشه واستطاب العمل معه، هو أنّه «منذ نشأة القاضي ناصر وقبل أن يتبوأ المراكز في وزارة العدل، كانت حياته تؤهّله ليكون قاضياً، كما أنّ كلّ تصرّفاته كان تدلّ على أنّه خُلِق ليكون قاضياً، حتّى أنّه خلال تعاطيه المحاماة بعد تركه السلك القضائي مرغماً بالتقاعد، تعامل معها بذهنية القاضي، لأنّه كان مؤمناً بالعدالة، وبإعطاء صاحب الحقّ حقّه، وكان رصيناً وبعيداً عن الانفعال، وحكيما واقعياً، ومتفهّماً العقلية اللبنانية، ويفتقده القضاء اليوم، بالإضافة إلى ذلك كلّه، فإنّ سمعة عبد الله ناصر في العدلية تتعدّى المراكز التي تبوأها، فهي أكبر من هذه المراكز».

يحتفظ القاضي هرموش لديه بدفتر خاص يضمّنه ذكريات جميلة في رحلة الحياة مع القاضي ناصر، ويتشكّل من عدّة أبواب وعناوين بارزة، يمكن لقارئ هذا الدفتر الثمين والسمين أن يتعرّف من خلال سطوره، على شخصية القاضي ناصر، ويقرأ صفحات عزّ دوّنت في تاريخ القضاء اللبناني. ‏

يقول هرموش إنّه:”في العام 1951 عُيّن القاضي عبد الله ناصر في قلم محكمة الاستئناف في بعبدا حيث تعرّفت عليه، وكان أوّل من التقيته باعتبار أنّني عُيّنت مساعداً قضائياً، وبقينا في ذات القلم، إلى أن انتقل ناصر إلى محكمة استئناف زحلة، وبقيت أنا في بعبدا إلى أن أحرزت شهادة الحقوق، وبعدها تقدّمت بامتحان، إلى القضاء، ونجحت فعيّنت في محكمة استئناف زحلة وكان ذلك في العام 1957، وصادف أنّ أوّل إنسان التقيه هناك، كان الرئيس عبد الله ناصر وهو الذي عرّفني على سائر القضاة».

ويضيف هرموش: «بعد ذلك انتقل ناصر إلى البقاع، وتحديداً إلى بلدة جبّ جنين في البقاع الغربي، ولم تكن بداخلها محكمة، فعمل على إنشائها، واختار موقعها، وجهّزها بكلّ ما تحتاجه من الكتب والسجّلات، ونظّم كلّ شيء حتى صارت محكمة بالمعنى الكامل لكلمة وهيبة محكمة».

يُقلّب هرموش ورقة في دفتر الذكريات قائلاً: «والى جبل لبنان-عاليه انتقل القاضي ناصر، ليتولّى مركز رئاسة محكمة الاستئناف»، شارحاً «وهذا المركز مهمّ بالنسبة للتنوّع السكّاني،وبالنسبة لعدد القضايا داخله،ولشمولية الدعاوى في عاليه فبقي عامين كانا نقطة التحوّل في مسيرته القضائية و»نقطة شهرته»، ثمّ انتقل إلى بيروت، ليتولّى منصب رئيس محكمة استئناف بيروت، وتسلّم الغرفة الاتهامية التي تنظر في القضايا الجزائية، استئنافاً للقرارات التي يصدرها قاضي التحقيق، وتنظّم مضبطة الاتهام التي يتحوّل المدعى عليه المتهم بموجبها، إما الى البراءة، إما، إلى محكمة الجنايات».

وهنا لا يتردّد القاضي هرموش في تأكيد مكانة القاضي ناصر القانونية بالقول «إنّ هذه المحكمة بالذات أبرزت عند الرئيس عبد الله القدرة الجزائية، وهي قدرةٌ تبلورت بمُؤلَّف صدر عنه، وهو كتاب يبحث في صلاحيات الهيئة الاتهامية، وفي النواحي التي يتعرّض لها القاضي عندما تبرز أمامه قضيّة قانونية، واحتوى هذا الكتاب، نتيجة عصارة جهد وخبرة القاضي عبد الله حتّى بات يعتبر اليوم من أهمّ المراجع القانونية ولا غنى للمحامي ولكلّ حقوقي من اقتنائه والغرف منه والاستزادة من كلماته.

ويتابع هرموش تحريك إبرة مذياع الذكريات التي كيفما توقّفت كان للقاضي ناصر الحيّز الأكبر من موجاتها وهو الذي تدرّج في المناصب،وصولاً إلى رئاسة محكمة التمييز،ورئاسة ديوان المحاسبة على اعتباره محكمة إدارية عليا، ويقول هرموش: «كان القاضي ناصر من القلائل الذين يملكون الثقافة القانونية الواسعة في شتّى الميادين، ولديه معرفة واسعة واطلاع متين بالقانون المدني، والجزائي والإداري على حدّ سواء وهذا قلّما يمتلكه قاض وهذا ما أهلّه لأن يغوص في القضايا المدنية إلى أبعد الحدود، وكان متعمّقاً بالقضاء العقاري ويملك مؤهّلات مكّنته من اعتلاء المراكز الحسّاسة في وزارة العدل، وبعد بلوغه سنّ التقاعد، عُيّن عضواً في هيئة تحديث القوانين التابعة لمجلس النوّاب، وذلك بالنظر إلى خبرته الواسعة في شتّى المجالات القانونية، فكان عضواً بارزاً فيها ونشيطاً برغم تقدّمه في العمر.

لا يمكن لأيّ حقوقي يعرف بأهمية الأمور المدنية في حياة العدلية إلاّ أنّ يتوقّف مطوّلاً عند المهام التي استلمها القاضي ناصر وأهمّها برأي القاضي هرموش «الإيجارات حيث توسّعت خبرته في هذا الموضوع، نظراً لعدد القضايا التي كانت متوافرة عنده وضخامتها، إلى جانب قضايا الاستملاك، ولا شكّ أنّ قوانين الإيجارات تهمّ شريحة كبرى من اللبنانيين، وفي كلّ مدّة كانت تتغيّر، لذا أولى القاضي ناصر هذا الجانب عنايته، حتّى امتلك خبرة وافرة، وهذا ما دفع بالمجلس النيابي إلى طلب استشارته مراراً، وخصوصاً لجهة التعديلات الواجب إدخالها والعمل بها».

وتبقى «لاستملاكات الليطاني» حكاية تستحقّ أن تروى، فقد «شكّل موضوع هذه الاستملاكات إنجازاً عظيماً حفره القاضي ناصر في سجلاته وأثبت من خلاله براعة في القيادة، إذ تمكّن من إسدال الستارة عليها بعدما قدّم التوافق بين مصلحة الإدارة ممثّلة بالدولة اللبنانية ومصلحة المالكين، وذلك عن طريق تعويض عادل، جنّب من خلاله الدولة حدوث انتفاضة كبرى كادت لتحصل بوجهها، وقضت خطّته التي اعتبرت طوق نجاة، بتعديل مراسيم التعويضات بما يتناسب ومصالح المالكين، طارحاً معادلة تمثّلت بإقامة تخمين حقيقي وصحيح أعطى المالكين حقّهم وحافظ على ملكية الدولة، وهذا الحلّ أرضى الجميع.

ويستمرّ هرموش في تصفّح ذكرياته فيتوقّف عند القضايا العقارية المهمّة نظراً لأهمّية العقار في لبنان، لاسيّما وأنّه يوجد أراضٍ جمّة كانت ولا زالت غير ممسوحة، فمنها قيد المساحة، ومنها غير ممسوحة، فضلاً عن النزاعات  التي نتجت عن المساحة، ولا يغالي هرموش حين يقول:»ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا المنصب على رغم كلّ تعقيداته، وعلى رغم تطلّبها لمجهود قانوني واطلاع واسع على الاجتهاد والقانون، وتحتاج إلى تفوّق وبُعْد نظر وحكمة في حلّ النزاعات والقضايا العقارية المعقّدة الموجودة في جبل لبنان، وهذه كلّها خصال اجتمعت عند ناصر، ومكّنته من حلّها كونه ابن جبل لبنان ويعرف عقلية وطريقة تفكير أهل جبيل».

يخيّم الصمت على مقلتي هرموش لبرهة كمن غرق في حلقة تأمّل، ثمّ يفصح قائلاً : «خبرة كبيرة ملكها ناصر عبر ترؤسه لجاناً عديدة طوال فترة حياته القضائية، من دون أن يغفل للحظة أنّ «هذه القضايا كانت إضافية يقوم بها إضافة إلى وظيفته الأساسية».

وعلى أحد هوامش مذكّراته، يرصد هرموش حلقة من حلقات شخصية ناصر، يقويها بعبارة «هي عناصر مجتمعة متضامنة، شخصيته، ذكاؤه وذاكرته وسعة اطلاعه، كان عنده جلد على العمل للغوص في القضايا بعمق بدون ملل، وكان حكيماً، إذ يجد المرء في قراراته الاعتدال والحكمة، وبحقّ كان القاضي عبد الله مرجعية في إدارة شؤون القضاء وهذا ما دفع المسؤولين في السلطة الثالثة إلى استشارته والوقوف على رأيه بما يعود على القضاء بالفائدة».

قد يجفّ حبر الذاكرة، وقد يتأجّج صدى الذكرى، ولكنّ المؤكّد هو ما رصّه القاضي هرموش في إحدى أوراق دفتره «إنّه صندوق تعاضد القضاة، وهو أهمّ ما قام به القاضي عبد الله ناصر، فقد سعى إلى تأسيسه، متحصّناً برغبته في أن يكون للقاضي صندوق تأمين خاص، وأهمّية هذا الصندوق أنّه يحلّ مشكلة كبرى للقاضي».

إذن، صفحات عزّ في تاريخ القاضي عبد الله ناصر يرصدها القاضي حكمت هرموش، من باب الذاكرة، لتتحوّل إلى رافد علم دائم، وقد دوّن هرموش في صفحته الأخيرة من دفتره العبارة التالية: لقد خلّف ناصر إرثاً قضائياً عريقاً سيكون البوّابة للانطلاق نحو تعزيز قدرات القضاء».

قد لا يتسع دفتر الذكريات لتاريخ القاضي ناصر، ولكنّه يتسع لأبعاد رسمت مساراً جديداً للقضاء، قاده على مدى نصف قرن من الحياة القضائية.

أجرى الحوار: (علي الموسويّ ورنا جونيّ)