الرئيس عبد الله ناصر....القاضي العالم

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الرئيس حسن الحاج

مفوض الحكومة شرفاً لدى مجلس شورى الدولة

 

عندما طلب اليّ سماحة العلاّمة الجليل الشيخ يوسف عمرو الكتابة عن الرئيس عبد الله ناصر أخذت أستعرض النّاس في خاطري، خاصّة ممن عرفتهم بالإسم أو معرفة شخصيّة، وقارنت بينهم فوقعت على فريقين من النّاس لا ثالث لهما.

فريق عامل يكد وينفع، يمشي في طريق الحياة حاملاً أعباء النّاس وفريق يعيش متكئاً على غيره من النّاس، وكان الرئيس عبد الله ناصر في طليعة الفريق الأوّل العامل بجد وإخلاص وتضحيّة ونكران ذات في سبيل بني قومه وخير مجتمعه، وكانت الجدية في العمل ملازمة له منذ بداية عهده في القضاء اللبنانيّ، مُعتبراً أن التمحيص والتعمق في الدرس يجب أن يلازما القاضي أياً كان المركز الذي يشغله أو المنطقة التي يعمل فيها.

وبالفعل فإنّ بداية معرفتي بالرئيس عبد الله ناصر كانت قبل أن أشاهده شخصاً، وكان ذلك من خلال حكم له في قضيّة كانت موضع خلاف في الفقه والإجتهاد اللبنانيين حول طريقه إيداع الثمن في قضايا الشفعة، وكان الرئيس عبد الله ناصر آنذاك قاضياً منفرداً في زحله وأصدر حكمه بتاريخ 4 شباط 1958 بوجوب إيداع الثمن نقداً في صندوق المحكمة وعدم قبوله بالشك المسحوب لأمر المحكمة والذي لم يثبت قبوله من المصرف المسحوب عليه، وكنت قاضياً متدرجاً في معهد الدروس القضائيّة ومكلفاً من قبل رئيس المعهد العلامة الكبير المغفور له الرئيس خليل جريج، وكان أوّل رئيس لمعهد القضاة في لبنان، بإعداد دراسة عن الشفعة، إذ أنّ برنامج الدروس كان يتضمن دروساً نظريّة مع تمارين عملية بأن يلحق القاضي المتدرج في إحدى المحاكم، كما كان يتضمن اعداد دراسة شاملة في احدى المسائل القانونيّة التي تعرض أمام المحاكم.

وأثناء إعدادي الدراسة عن الشفعة كنت أتصفح وأراجع كل ما كتب في هذا الموضوع، ومنها مؤلف عمله الرئيس خليل جريج في رسالته العلميّة عن الشفعة واجتهادات المحاكم فوقع نظري على الحكم الصادر عن الرئيس عبد الله ناصر والمشار إليه أعلاه ومنذ ذلك الوقت تكونت لدي قناعة بأن شهرة القاضي وبروزه غير مرتبطين بمكان ونوعيّة وظيفته بقدر ما هما مرتبطان بسعة علمه وإطلاعه، فكم من قضاة أمضوا طيلة حياتهم القضائيّة في العاصمة بيروت وتبوأوا أعلى المناصب القضائيّة وبمجرد إحالتهم على التقاعد طواهم النسيان، إلاّ أن الرئيس عبد الله ناصر وفي شتى المراكز التي شغلها في القضاء اللبناني، من قاض منفرد في الملحقات، كما يقال إلى رئيس لمحكمة استئناف بيروت الناظرة بقضايا الإيجارات، إلى رئيس للهيئة الإتهاميّة في بيروت، وأخيراً رئيساً لديوان المحاسبة، ترك بصمات واضحة من خلال الأحكام التي تتضمن إجتهادات في كثير من المسائل القانونيّة التي تحتاج إلى تفسير بالنظر لخلو النص أو غموضه، وكان رحمه الله تعالى يمتاز عن غيره من القضاة ممن انكبّوا على التأليف في القانون بوضوح الأسلوب والإيجاز في التعبير حتى يصح القول في أسلوبه بالسهل الممتنع، كما اشتهر عن ابن المقفع في كتاباته.

وقد كان الرئيس عبد الله ناصر رحمه الله مؤمناً بصدق، بالحديث الشريف:}إِذا ماتَ الإِنْسانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاّ مِنْ ثَلاَثِ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِه، أَوْ وَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ»{(1). فخلال حياته كان له اليد الطولى في تشييد مسجد في قريته الكسروانيّة الحصين، كما أنّه من خلال تبوِّئه رئاسة الهيئة الإتهاميّة في بيروت مدّة تزيد عن الخمس عشرة سنة أبى إلا أن يسكب خلاصة ما توصل إليه من فصل في قضايا شائكة عديدة ومتنوعة في كتاب أصدره تحت عنوان:» الدعوى العامّة أمام الهيئة الإتهاميّة» يتضمن تفسيراً لبعض النواحي الغامضة من وظائف الهيئة الإتهاميّة والأصول المعتمدة لديها، وهذا الكتاب ما يزال مرجعاً لرجال القانون من محامين وقضاة وباحثين وطالبي علم يرجعون إليه كلما استعصى عليهم فهم نص أو حل إشكال قانوني، إذ أنّه يتضمن دراسة تفصيليّة عن كل النصوص التي ترعى وظائف الهيئة الإتهاميّة تطبيقاتها العمليّة، وكثيراً من المسائل التي عرضت أمام هذه الهيئة.

وإنني أعترف بكل صدق أنه كان لي بمثابة الدستور الذي أعود إليه في كل مسألة شائكة أو غامضة كانت تعترضني عندما كنت رئيساً أول لمحاكم الإستئناف في البقاع في شمال لبنان وناظراً في المحافظتين الآنفتي الذكر بقضايا الهيئة الإتهاميّة.

وإلى جانب ثقافته الواسعة في علم القانون دون حصر في قانون جزائي أو مدني، وسعة اطلاعه على أحدث آراء العلم والإجتهاد، كان رحمه  الله يحمل في قلبه أقوى سلاح يمكن للإنسان أن يجد به سبيلاً إلى قلب أخيه الإنسان وهذا السلاح هو الوداعة والسلاسة وطيبة القلب، فكان ودوداً لا تفارق ثغره إبتسامة وادعة وظل حتى آخر يوم في حياته كبيراً في تواضعه، وكان موضع تقدير واحترام من جميع معارفه الّذين أحبّوه وقدروه وأكبروا  فيه علمه وتواضعه الأجم.

ذلك هو القاضي الرئيس عبد الله ناصر الذي كرّس حياته وأفناها منذ مقتبل عمره وريعان شبابه وحتى نهاية عمره في البذل والعطاء دون منة أو حسبان.

والأمل كبير ومعقود على أولاده المحامي الأستاذ وليد، والدكتور حميد والأستاذ فادي أن يتابعوا رسالة الوالد العالم، بالعطاء، والإبداع والإخلاص، وبذلك يكون المغفور له قد أكمل الحديث الشريف بأن ترك بالإضافة إلى الصدقة الجاريّة والعلم النافع للنّاس أولاداً صالحين يُدعون له.

وكما ذكرت في مقال سابق عن المغفور له القاضي الرئيس أديب علاّم ومعالجته الأمور بحكمة وروية، فكان الرئيس عبد الله ناصر رحمه الله سلساً هادئاً وديعاً لا يترك شعرة معاوية تنقطع بينه وبين النّاس، وهذه لعمري من صفات الرجل الحكيم العاقل المتبصر بعواقب الأمور.

ولا بُدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى حادثة جرت معي في مكتب رئيس مجلس القضاء الأعلى المرحوم إميل أبو خير، وكنت قد أقمت مأدبة إفطار للإمام المغيب السيد موسى الصدر ورهط من إخوانه وعلى رأسهم سماحة الشيخ الأمير عبد الأمير قبلان ـ أطال الله في عمره ـ الذي كان من أقرب المقربين وأخلصهم للإمام الصدر، وذلك في بلدة عشقوت الكسروانيّة حيث كنت أقضي فصل الصيف هناك، واستقبل آنذاك أهالي البلدة والجوار الإمام السيّد موسى الصدر بنثر الأرز والورود وبقرع أجراس الكنائس وبرمي المفرقعات والأسهم الناريّة التي دوت أصداؤها بقوة في المناطق القريبة، الأمر الذي دفع الأهالي إلى التجمع فتحولت مأدبة الإفطار إلى ما يشبه المهرجان، والقى بعض شباب البلدة خطاباً ترحيبياً بسماحة الإمام مستهلين كلمتهم «يا إمامنا» (يراجع بهذا الصدد كتاب الإعلاميّة الشهيرة مي يعقوب وكانت آنذاك مراسلة جريدة النهار وهو بعنوان: «صحافيّة بثياب الميدان» وكان ذلك في أواخر أيلول 1974، وأذكر أنه في أوّل تشرين الأوّل من تلك السنة. وكما جرت العادة في بدء إفتتاح السنة القضائيّة يجول القضاة من مختلف المحافظات على كبارهم ممن يتبوأ مناصب رفيعة في القضاء ليعايدوهم بحلول السنة القضائيّة الجديدة. وعندما دخلت مكتب رئيس مجلس القضاء  الأعلى القاضي إميل أبو خير بادرني بالقول وباسلوب لا يخلو من التورية شو حسن: أقمت مهرجاناً سياسياً للإمام الصدر في عشقوت، وكانت كافة الصحف ووسائل الإعلام أوردت خبر مأدبة الإفطار الآنفة الذكر في مُستهل صفحاتها مُعلّقة عليها بالثناء والترحيب بأن يستقبل رجل دين شيعي بارز من قبل منطقة مسيحية بارزة بقرع أجراس الكنائس ـ (سقى الله تلك الأيام خيراً) ـ فبادرت الرئيس أبو خير وبنبرة لا تخلو من الحدة: أنا لم أُقم مهرجاناً سياسياً بل أقمت مأدبة إفطار تكريماً للإمام السيّد موسى الصدر وقد أبت المنطقة التي تطأها أقدام موسى الصدر لأوّل مرّة إلا أن تُكرّمه وقد كرّمته على طريقتها، فما كان من الرئيس عبد الله ناصر وكان حاضراً في مكتب الرئيس الأوّل اميل ابو خير إلا أن أشار إليَّ بحركة من يده اليمنى وبإشارة من شفتيه كي التزم الهدوء والتروي.

وانني اتساءل بعد طول سنين ما إذا كنت مُحِّقاً في تلك المواقف الثورية أم أنني أخطأت بسبب إبعادي عن كثير من المناصب التي اعتبر أنني كنت أستحقها إلا أنني ما ألبث وعن قناعة تامة أن أردد مع فيلسوف الصين الشهير:» كونفوشيوس» طالما أضرّت كبريائي بي فأضاعت علي مجداً ومالاً فلما سألت كبريائي ما السبب؟ قالت: ألا تنام مرتاح الضمير؟ قلت بلى، قالت: خلاص.

 

 حياة الرسول الأكرمP، للشيخ باقر شريف القرشي، ص:304، دار جواد الأئمةQ، بيروت ـ الطبعة الأولى، 2007م ـ1428هـ.