رئيس محكمة التمييز سابقا القاضي سامي عون يتذكر انجازات عبد الله ناصر

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

إجتهاداته دليل إلى معرفة الحقيقة

 

يحملنا أحد الرؤساء المميّزين لمحاكم التمييز سابقاً القاضي سامي عون في رحلة إقلاع عكس الزمن، رحلة من نوع لم نعتد عليه، ولكنّها تضع نفسها في خانة تعريفنا على قاضٍ خارج عن المألوف، كان «فلتة قانونية» حوّل المسرح القضائي بكلّ عناوينه وأبوابه إلى «معقله» الخاص الذي تماهى معه إلى درجة العشق، إنّه باختصار القاضي الممتاز بدوره عبد الله ناصر.

تبدأ رحلة عون «اللازمانية»، من منزله في الحازمية بعد أن أحيل على التقاعد حيث يفوح «عبق الحياة القضائية» الراسخة في صور ودروع وأوسمة اقتنصها عن استحقاق وجدارة.

تبدأ الرحلة في ذهن عون من العام 1959 حيث «بدأت حياتي القضائية مع القاضي عبد الله ناصر، لم أكن محامياً، بل كنت أستاذاً ثانوياً، تقدّمت إلى القضاء ونجحت، وتعرّفت إلى القاضي ناصر، وكانت لي فرصة ذهبية عرفت قيمتها لاحقاً، بدأت معه حين عُيّن بنظام القضاء مساعداً، بعدها التحقت بغرفته خلال تعيينه حاكماً منفرداً في زحلة، لم يسبق لي أن عرفته، وكعادته مع كثيرين أخذني بمحبّة وعطف، وتدرّجت على يده، كان مدرسة في القانون والأخلاق ومناقبية قضائية قدوة بالنزاهة، والكفاءة، وأقول هذا الكلام للأمانة ومن دون مبالغة، وإيماناً بما كان يكتنزه هذا الرجل من قيمة إنسانية جديرة بالحياة».

ويستفيض عون في شرح علاقته بالقاضي ناصر الذي»اكتسبت منه خبرة واسعة في المحاكمات المدنية، وأصول إدارة الجلسات، إذ أنّه كان رصيناً، ودقيقاً في المواعيد، ليس مثل ما نشهده اليوم، وما تلقيته منه لم أعرف قيمته، إلاّ بعد رحيله».

وبرغم أنّ الحديث من قاض عن قاض، إلاّ أنّ الكلمات والمصطلحات القانونية ضئيلة الحضور، لأنّ المتحدّث أراد الكلام عن ناصر كقاض «عبقري»،و»حاكم منفرد» ضليع بكلّ الأمور، «ولم تُعجزه أيّة إشكالية، وحين انتقل إلى محكمة عاليه، كانت بيده كلّ الصلاحيات، وكان وحده «القاضي المنفرد باختصاصات شاملة، فكان القاضي المدني، والقاضي الجزائي، والقاضي التجاري،وقاضي الأمور المستعجلة، والمدعي العام، وكان يمارس كلّ صلاحيات المحاكم والغرف، وهذا دليل على خبرته الواسعة في كافة الميادين القضائية، لقد كان مدرسة وعلى قدّ الحمل وزيادة».

في العام 1968، عُيّن القاضي ناصر رئيساً لمحكمة استئناف بيروت ورئيساً للهيئة الاتهامية الجزائية، «في ضوء النجاحات التي حقّقها في زحلة» يقول عون، ويضيف: «وهذا دليل على تنوّع خبرته».

يشيح عون ببصيرته بعيداً للحظات، ثمّ يعود على عجل كمن التقط فكرة وأراد تأكيدها قبل أن تذهب بعيداً في غياهب النسيان.  يبدي فرحته «أنّني كنت من المحظوظين عندما جرى اختياري لكي أكون مستشاراً للقاضي ناصر في هذه الغرف بعدما نقلت من صيدا إلى بيروت، وكنا نحكم بقضايا الإيجارات، حتّى أنّ الاجتهادات التي سطرها ناصر مع هيئة محكمته، محكمة الإيجارات والهيئة الاتهامية، شكّلت مجموعة مهمّة، ما زالت سارية المفعول حتّى يومنا هذا»، وهي ستبقى مشعلاً ينير طريق أهل القانون عند احتياجهم إلى معالجة أمر ظهر كعقبة أمامهم في ملفّ ما، ويداوم قضاة كثر من المخضرمين والشباب على الغرف من اجتهادات القاضي ناصر إلى درجة اعتبارها دليلاً إلى الصواب يمكن الاتكال عليها في الملمّات ولمعرفة الحقيقة.

طويلة هي قائمة إنجازات ناصر كوضوء الصلاة الصافية التي تُعشّش النزاهة في داخلها. يُخرج عون من جعبته قائمة بما أمكنه جمعه ومعرفته بصديق عمره ويفرشها كباقة ورد زاهرة بالعطاء ليتعرّف كلّ جيل اليوم على القاضي ناصر «الذي لم يقيّده أحد، ولم ينحن أمام لاءات أو إعجاز»، وهذا ما أدخله أكثر قلوب عارفيه، وأفئدة المواطنين من أصحاب الحقوق، لأنّهم كانوا على يقين بأنّه ساهر على إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، مهما أحاطت به الصعوبات والعراقيل، ولم يكتف ناصر بهذ الرصيد الكبير من محبة الناس، بل كان «الرئيس الذي أغنى المكتبة الحقوقية بالاجتهادات الصائبة التي لا تزال قدوة حتّى اليوم، بدليل الكتاب الذي ألّفه في ثمانينيات القرن العشرين بعنوان: «الهيئة الاتهامية  في أصول المحاكمات، التحقيق،إعادة المحاكمات، الاستنطاق».

وعن المراكز الحسّاسة التي أنيطت به، يقول عون: «ترأس محكمة المطبوعات زمن رئيس الجمهورية شارل الحلو، وبقي فيها مدّة طويلة»، وهذا المركز على الرغم من حساسيته إلاّ أنّ «ناصر أثبت جدارته به « يقول عون ليفتح نافذة على «المداخلات التي كانت تحصل»،إذ يقول أنّها «لم تمنع الغرفة من أن تحكم بالحبس على كبار الصحافيين». يتوقّف عون عند هذا الأمر ليشير إلى «تعديلات أدخلت على القانون حيث أعطي الصحافي الحصانة بالمحاكمة أمام محكمة المطبوعات».

يترك عون تلك الساحة من تاريخ ناصر، ليقلع  في رحلة ناحية مطار ديوان المحاسبة بعدما «انتقل ناصر من القضاء العدلي الى القضاء المالي»، لكنّ ذلك «لم يمنعه من اثبات وجوده كرئيس لديوان المحاسبة، إذ كان قدوة في النزاهة والمقدرة في مراقبة المحاسبة العمومية، والأحكام في الجرائم المالية، إلى أن بلغ السنّ القانونية، وأحيل على التقاعد، وبرغم ذلك، لم يترك السلك القضائي وكأنّه يجري في عروقه، فعيّن في القضاء الخاص عضواً في المجلس الأعلى للتحكيم، وأنا شخصياً حين أحلت على التقاعد، التقيت به في المجلس مع المرحومين عبد الباسط غندور ومنح متري وكنّا نتناوب على العضوية ورئاسة المجلس الأعلى للتحكيم، وأعتبر نفسي محظوظاً في خدمة القضاء مع الرئيس ناصر».

ولتأكيد شكيمة ناصر القضائية يفصّل عون أبرز القضايا التي حكم فيها بنزاهة وفي طليعتها « قضيّة إفلاس بنك انترا والدعاوى التي نتجت عنها، وهي ليست صعبة بالنسبة لقاض نزيه كعبد الله ناصر لا يتأثّر، لا بالتوصيات، ولا بالشفاعات، ولكنّها حسّاسة وأثبت جدارة قلّ نظيرها».

ويكمل عون تلوين الصورة الثابتة في ذهنه المتوقّد عن القاضي ناصر بتحيّة المتواضع العارف بجميل الآخر، فقد « نهلت من ينبوع الرئيس القاضي عبد الله ناصر الكثير من النزاهة والكفاءة والرزانة وسعة آفاقه في بحر القانون الذي خدمه حتّى وفاته».

اليوم وكلّما تذكّر عون ناصر، يقول: «أشعر أنّني فقدت الأخ والمرشد، فخسارته كبيرة لعالم القضاء».

أجرى الحوار:

(عليّ الموسويّ ورنا جونيّ)