رئيس غرفة في ديوان المحاسبة. القاضي عبد الرضى ناصر يستذكر معلّمه:

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

أقام حزام أمان قانونياً

إنّ من أصعب حيل الحياة، أن تجد نفسك واقفاً في حضرة الذكرى، تتوجّس من نافذتها وفي نيّتك الدخول منها، لتستشرف الحديث عن إنسان خبرته في محافلك ويومياتك بتفاصيلها الجزئية والكبيرة، خصوصاً وأنّه كانت له بصمة الشفافية التي تركها فيك وقوّت من شوكة حياتك، وعلّمتك كيفية الدخول إلى دهاليز القضاء بفنّ ولباقة.

فالقانون فنّ، خبره القاضي عبد الله ناصر، وعرف نوتاته جيّداً، وعرف كيف يُدوزن لحنه بما «يتناسب ومصالح المناصب التي شغلها، وتمكّن من قولبة كلّ الأشواك». بهذه الطريقة التعريفية يفضّل رئيس إحدى غرف ديوان المحاسبة القاضي عبد الرضى ناصر الانطلاق في تقديم تحيّة المحبّة لمن سلّمه مقاليد القانون وعلّمه الحرف الحقوقي وكيفية إحقاق الحقّ عنيت به نسيبه القاضي عبد الله ناصر.

 وبرغم قصر الفترة الزمنية التي شغل فيها عبد الله ناصر رئاسة ديوان المحاسبة، إلاّ أنّه قدّم له إنجازات كبيرة، كانت كفيلة بإحداث نقلة نوعية في حركته أعادته إلى سكّته الصحيحة بعد جنوح لسنوات عنها جمّدته في بحيرة التقليد والرتابة، ولا تزال الاجتهادات التي سطّرها مرجعاً لكلّ القضاة، يضيف القاضي عبد الرضى ناصر، وهو، بطبيعة الحال، واحد من هؤلاء الكثر الذين تعلّموا حتّى الإتقان وصار بمقدورهم الاجتهاد أيضاً.

تتفاعل حرارة الكلمة بشدّة في حديث القاضي عبد الرضى ناصر، عن القاضي عبد الله ناصر الذي خبره عن كثب، وتثقّف على يديه، ونهل من معينه الكثير، فكان المرشد القانوني له «إذ كنت أستشيره في أبسط الأمور، وكان حكيماً، ورجل سلطة، وما أنجزه الريّس في فترة قصيرة إنجازٌ كبير، إنْ على مستوى معهد الدروس القضائية- فرع القضاء المالي، أو على مستوى توسيع ملاك الديوان، أو على مستوى المؤسّسة برمّتها، وعندما مارس المحاماة، كان رجلاً ناجحاً ويرفض التدخّل مع أحد، وكان يحترم الرأي الآخر، وهو ساهم كثيراً في إنجاحي على المستوى العملي، وساعدني في محطّات كثيرة، وكنت ألجأ إليه في الكثير من المواقف».

ومنه تعلّم الكثير «فقد كان مثالي الأعلى، وأعطاني قاعدة مهمّة بضرورة أن يكون القاضي سيّداً، يحترم الحقّ والعدل قدر الإمكان، وألاّ نتدخّل مع أحد حتّى لا يتدخّل أحد معنا، وتطبيق القانون فقط دون النظر إلى أيّ شيء آخر، وكان يحرص على العلم، وكان إنسانياً وصادقاً شقّ لنا الطريق، وكان رجلاً قائداً، ويا ليتنا نكون « قدّ ربعه» وكان رجلاً من رجال الأوطان الذين نفتقدهم».

 لا تبدو الصلة الوثيقة ما بين عبد الرضى ناصر وعبد الله ناصر مستجدة، بل بدأت «حين كنت أريد التقدّم إلى معهد القضاة، وكنت لا أعرفه، ولكنّه كان يقول لي دوماً، «صعبة المباراة شدّ الهمّة»، وحين نجحت ترك لي خبراً مع أحدهم، إذ قال يومها أنت مثل السيف ونحن نضرب المثل بك، لقد بيّضت الوجه».

لا شيء يشي بأنّ القاضي عبد الله ناصر أصبح في عالم آخر إلاّ من حيث الجسد، فحين تُصغي إلى حديث عبد الرضى، تشعر وكأنّه يحاوره ويناقشه في قضايا ملحّة ومصيرية، وليس الأمر غريباً عن عبد الله الذي كان يملك بُعْداً في البصيرة وهذا ما دفعه إلى النجاح في عالم استنباط الاجتهاد، مشكّلاً من وجهة نظر القاضي عبد الرضى «بوّابة الانطلاق نحو تطوير القضاء ممثّلاً بديوان المحاسبة»، وحفظ ذاكرة المكان «ولعلّ الشدّة التي اقترنت بشخصيته، هي ما جعلته رزيناً، وشديد الصلابة في أعتى المواقف»، ويعيد هذا الأمر إلى أنّ عبد الله ارتشف «من نبع عطاء البقاع وهذا ما أعطاه صلابة قوّية، صلابة الرجل ذي الحدّين، فهو كان بمثابة «روح القضاة» وعماد الاجتهاد والتشريع».

وتنبت من كلام عبد الرضى مسحة حنين تحمل في طيّاتها الكثير من الشوق لإكمال المسيرة بحرارة وتلقائية، «فالقاضي عبد الله كان قاضياً ناجحاً، ومشرّعاً وحكيماً، يفتقده الجسم القانوني، وهناك العديد من المسائل التي تحتاج إلى حلّ وحكمة القاضي عبد الله، ولا نريد مسكّنات للأوجاع، بل نريد حلولاً جذرية».

ويواصل عبد الرضى مغازلة الشوق في عرين الذكرى، مستحضراً عدداً من القضايا التي استنجد فيها بحكمة الريّس،» ليس لقلّة ثقتي في قدراتي، فأنا تتلمذت على حكمه وأفكاره ولكنْ ليطمئّن قلبي».

تدرك من وراء تلك الخفية متانة الأحكام التي وضعها ناصر «لقد أقام حزام أمان قانونياً، بل دفتراً واضحاً للعديد من القضايا التي ما زلنا نلجأ إليها اليوم ونحتاج إلى من يطيّب الجرح لا أن يجترّ القوانين».

ويحبّذ القاضي عبد الرضى استعراض إنجازات المعلم عبد الله والتي هي برأيه « دليل على نجاحه، فلولاه لاستمرّ ديوان المحاسبة عائشاً في بوتقة صهر القوانين»، وسرعان ما يفلت الحديث من قبضة الزمن ليُنصف رجلاً من رجالات لبنان «في عهده انطلقت الجمهورية الثانية، جمهورية ما زالت مفاعيلها قائمة».

 يقرّ عبد الرضى بصفتي القوّة والحزم اللتين لازمتا شخصية القاضي عبد الله ناصر الذي «كان حاداً في قراراته»، ثمّ سرعان ما يتيقن إلى «أنّنا ما زلنا نعود إلى اجتهاداته في أيّ قضيّة تعترضنا، إذ أنّه عرف كيف يصوّب القانون، ويدلي بدلو نزاهته فيه، وكان يافع النظرة القانونية، فهو من عائلة خبرت قيمة أن تُسيِّر القانون لصالح القضيّة وليس العكس، فوضع الرئيس عبد الله ناصر الدواء على الجرح، وعالجه، وأدخل معهد الدروس القضائية إلى ديوان المحاسبة،وهو فرع للقضاء المالي، ولولاه لما أمكن لكثر الالتحاق به».

أنس عبد الله ناصر القضاء والحوار،ولا بد للمتابع من ملاحظة علاقة حميمة جمعته مع القضاء» يقول عبد الرضى» فالسلك القضائي لم يكن مجرّد باحة استعراضية له، بل كان معقلاً للتشريع والاجتهاد، وللرقي به». ويعتبر عبد الرضى إنجاز القاضي عبد الله في ديوان المحاسبة «رحمُ تشكّلت فيه أجنّة الارتقاء من صفحة إلى أخرى مضيئة، شكّلت بيضة القبّان التوازنية داخل ديوان لطالما استهلك كلّ معاييره، ووقف قاب قوسين أو أدنى من المضي في التطوير، أو البقاء على حاله، فكان التطوير الهدف، وكنّا نتمنّى أن يمضي القاضي عبد الله فترة أطول في ديوان المحاسبة لكي نستفيد من خبرته وحكمته، فخلال فترته القصيرة جدّاً ولدت قرارات وإنجازات كبرى فافتتح معهد القضاة، وأدخل الكثير من التشريعات القانونية والمالية إلى الديوان، ولو قُيِّض له أن يمضي فترة أطول، لكان خلق أفكاراً أكثر وحقّق نجاحاً باهراً».

لقد استراح القاضي عبد الله ناصر من عناء التنقيب والبحث والاجتهاد، ولكنّ أفكاره ما زالت كالبحر الهائج، وما زالت مبادئ راسخة في عقل كلّ قاض عايشه، وكذلك في عقل القاضي عبد الرضى الذي غالباً ما يردّد بعضاً من خصاله التي حفظها عن ظهر قلب ومنها:» كن متواضعاً أمام العلم، فحبّ المعرفة والنظرة للأمور القانونية بموضوعية وشمولية حتّى نصل للموضوعية أكثر، وللحقيقة أكثر، لأنّنا إذا رأينا جزءاً من الصورة، لا نرى المشهد كاملاً».

ويؤكّد عبد الرضى ناصر «أنّ القاضي عبد الله ناصر اتبع المدرسة العلمية التي ترى النصّ وروحيته، وتربطه دوماً بالأهداف التي يحتاجها المشرّع، بينما المدرسة الحرفية تقرأ الكلمات، وهذه فشلت لأنّها لا تطوّر القانون، ولا ترى مصالح الناس، والقانون جاء ليرعى مصالح الناس، وحين نحاول بنظرتنا له أن نصبح تابعين للمدرسة العلمية الحرّة، ضمن قيود مصالح العامة، نكون دوماً نطوّر النصّ كقضاة، لأنّه لا يمكن الذهاب كلّ يوم لمشرّع، ليخرج بنصوص تواكب التطوّر، لذا نحن نجتهد لتطوير القانون ضمن حدود الغاية التي وجد النصّ من أجلها».

أجرى الحوار:

( علي الموسويّ ورنا جونيّ)