كربلاء هي ذكرى تجديد العهد مع الحقِّ والعدالة

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

لسيادة المطران ميشال عون

أشكركم على دعوتكم لي للمشاركة في ذكرى لا يمكنُ لإنسانٍ إلاّ أن يشجبها لأنّها بعيدةٌ كلُّ البُعدِ عن المقاييس الإنسانيّة. وإنها لفرحةٌ كبيرة أيضاً أن يأتي هذا اللقاءُ بعد بضعةِ أيام على زيارة الحبرِ الأعظم البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان، وتوقيعه الإرشاد الرسولي الخاص بالجمعيّة العامّة لسينودس الأساقفة من أجل الشرق. وكُلنا سمعنا كلماتِ الثقة التي أعربَ فيها عن إعتقادهِ الراسخ بثباتِ العيشِ المشترك المسيحيّ الإسلاميّ في لبنان، عندما تحدّث في كلمة الوصولِ إلى مطارِ بيروت عن الضيافةِ اللبنانيّة ليُشيرَ بذلك إلى أن العيش المشترك مؤسسٌ على هذا التاريخ العميق من القبول المتبادل الذي عاشه المسيحيون والمسلمون في هذا الشرق على الرغم من كل الصعاب والتحديات أو حتى الآلام. وجعل البابا من هذه الضيافة الركيزة الأساسيّة للخصوصيّة اللبنانيّة التي عليها أن تجاوبَ على دعوتِه الأصيلة بأن تكون نموذجاً للعالم أجمع.

ولنا في جبيل فخرٌ كبير أن يكونَ رأسُ الكنيسة المارونيّة ورأسُ البلاد من جبيل في مقدمة مُستقبلي «صديق الله وصديقِ الإنسان والسلام» كما وصف نفسّه في كلمته عند وصولهِ إلى مطار بيروت.

في قلبِ هذه الخصوصيّة اللبنانيّة نجتمعُ اليومَ بمناسبةِ ذكرى إخفاءِ سماحةِ الإمام السيّد موسى الصدر، واسمحوا لي أن أُعبّرَ عن خشيةٍ امتلكتني عندما انكببتُ على كتابة هذه الكلمة، لأنّ الكلام عن سماحة الإمام المُغيّب في هذا الوقت، حيث كلُّ الإنتباه مشدودٌ لمعرفة مصيره ومصير رفيقيه، وليست مهمّة سهلة على الإطلاق. فكلُّ كلامٍ في هذه اللحظات مُربِك لأنّه لا يستطيعُ أن يحتلَ ساحةَ الإنتظار. لكن رغمَ ذلك يبقى لنا سيرة الإمام الصدر ما يفتحُ لنا سبيلاً إلى ذلك. ففي إستحضار تلك السيرة بعضٌ من وقوفٍ في قلب الإنتظار، لأنّها سيرةٌ أرساها الإمامُ على الرجاء، وجَعَلَ من هذا الرجاء مُحَرِّكَهُ الأساس في خوض الصراع من أجل العدالة، والبارزُ في هذه السيرة المحمولةِ على الرجاء أن الإمامِ استمدَّ مقوّماتِ الرجاء من كربلاء ومن رمزيّة قيامة المسيح، ولو بدا لكم مُفاجئاً ذكرُ القيامة في هذا المقام وتسميتُها بثقة، فدليلُنا ورودُها في أكثر من مكان لديه. فمن يقرأ حركةَ الإمام ويتبصّرُ فيها، يرَ جَليّاً أنّه رجلُ رجاء، والرجاءُ لا يُخَيّبُ صاحبَه ولو لم يُقيّد له أن يبقى في الوجود.

إنّ سيرةً محمولةً على الرجاء تُعطي التَغييب كلَّ مَعناه، فالمُغيَّب حاضرٌ ولو لم يعُدْ له وجودٌ فِعليّ، إذ في الغياب قوةٌ أفعلُ من الحضور. فالغيابُ معطوفاً على الرجاء يرفعُ إلى مستوى القيمة، والقيمةُ لا يَطويها تغييبٌ. والرجاءُ بارتباطه بالقيمة يفتحُ طريق المستقبل، بإعتباره قوةُ تحريكٍ وفعل.

ولعلنا نحتاجُ أمام هذه التأكيدات التمهيديّة إلى الرجوع إلى قرائنِ هذا الرجاء في تضاعيفِ سيرة الإمام، من خلال ما رسمه لذاته من خطٍ فكريّ والتزام عملي. ولن نجدَ السبيلَ الأفضلَ إلى ذلك إلاّ عِبْرَ معاني كربلاءَ والقيامة، وأخالُني لا أجدُ أبعدَ وأعمقَ من هذا الموضوع أحدثُكم عنه في هذا اللقاء التضامني السنويّ في ذكرى تغييب الإمام الذي وَضعتُ له عنواناً: الإمام موسى الصدر والرجاء المحرّك إلى العدالة.

البدايةُ إذاً من كربلاء والنهايةُ في القيامة.

فكربلاء في نظر الإمام ليست حادثة من الماضي ولا هي ذكرى عابرة تُعادُ في احتفالٍ سنويِّ تُجيّشُ فيه الأفئدةُ وتُعزّزُ فيه مشاعرُ الأسى والحزن وربما الحقدُ والإنتقام، مشاعرُ تجعلُ الإنسان ينطوي على ذاتهِ ويقاربُ الوجودَ بمشاعرَ وأفكارٍ سلبية. إن كربلاءَ حادثةُ لمستقبل هو مستقبلُ العدالة. لذلك رأى فيها الإمام معركةً [غيرَ] مفصولة، وظاهرة [ ليست ] فريدةً في تاريخ الإنسان، إنّها حلقةٌ مميزة» (النهار 23/1/1975) على أنّها رمزيّة شموليّة كربلاء، لأنّ القربانَ لا يُرفعُ إلا شمولاً، فداءً عن كثيرين لا عن الخاصةِ فقط.

وهذه الشموليّة الكربلائيّة تنفي، في نظرِ الإمام، عن كربلاء طابعَ الفاجعةِ وحسب. فكربلاءُ هي صرخةُ الحقِّ والعملِ من أجل الحقِّ. إنّها تحملُ صورةَ المأساةِ وصورةَ الجهادِ على السواء، صورةَ الجِهادِ الأكبر. لذلك كان يقولُ دائماً: البكاءُ والعويل (...) ورفعُ الحقدِ لا أؤمنُ بها. إيماني أنّه للحُسين أن يُقتلّ إلاّ لأجلِ إحقاقِّ الحقِّ» (النّهار 21/1/1975).

على هذا الأساس كان يعتبرُ أن الإحتفالَ بكربلاء لهُ هدفٌ واضح، هو تجديد الدفعِ إلى الإلتزام بالحقِّ وفعلِ الحقِّ ومواجهةِ الظلم. إنّ زمن كربلاء هو زمنُ رجاء وزمنُ القيمة ومن لا يدخل كربلاء من باب الرجاء والقيمة يتنكّر إلى أصل الخروج الحسيني بأنّه خروجٌ للحقِّ. من هنا تحذيرُ الإمام من خيانةِ المعنى الكربلائي عندما كان يُردّدُ أن ثلاثةً هم أعداءُ الحسين: الّذين قتلوه والّذين ارادوا إزالة آثاره، وأعداؤهم الّذين يَدْعون أنّهم للحسين لكنهم لا يعملون للحق والعدالة (النهار 23/1/1975).

فالقضيّة الأساسيّة في كربلاء، تبقى أن كربلاء مسيرةٌ تاريخيّة لنقلِ التاريخِ إلى الضفة الأخرى للوجود حيث يستقرُّ العدلُ. إنّ كربلاءَ يقول الإمام «هي إقترانُ البدايةِ بالإستمرار وانسجامُ الجذورِ والأغصانِ والأُسسِ بالبناء» (31/2/1976).

وفي هذا السياق وقعتُ على نصّ عن كربلاء لعلّ كلماته تُعتبَرُ استشعاراً من قِبل الإمام بالمصير الذي سيلقاه في ليبيا وفي الوقت عينهِ يُصوّرُ لنا استمراريّةَ الحدثِ الكربلائي:» لقد أُخِذ [الحسينُ] تدريجياً واستدرجَ إلى قلبِ الصحراء، حيث الرمالُ المتحركة. أرادوا أن يموتَ الحسينُ، وأن يُدفنَ تحت الرمال المتحركة حتى لا يبقى منه عينٌ ولا أثر. وكان الله الذي شاءَ أن يراه قتيلاً، كما يقول هو، شاءَ أيضاً أن يراهنَّ سبايا. وذلك لكي ينقلَ هذه المعركة وابعادّها من قلب الصحراء إلى وسط العواصم(...)» (النّهار 21/1/1975).

ولعلّ البعض يتساءلُ هل يكفي الرجاءُ من دون قاعدةِ يقينِ بأن العدلَ حقيقةٌ تنتصر؟ وما هي العلامة على أن التاريخ ينتهي بِغَلَبَةِ الحياةِ على الموت والحقِِّ على الباطل؟ ألا يبقى رجاءُ كربلاء يوتوبياً أو إيديولوجياً يستثيرُ المشاعر والغرائزُ ويحملُ الإنسانَ على الإنتقام أو أقلَّهُ على العيشِ بروحِ المُستضعفِ في الأرض إذا لم نُقدّم كربلاءُ دليلاً على أن الذي طُوِيّ كما قال الإمام في رمال الصحراء يبقى له أثر؟

نعودُ إلى أن كربلاءَ هي ذكرى تجديدِ العهدِ مع الحقِ والعدالة. لكن كربلاءَ لا تكتملُ معانيها لدى الإمام إلاّ في حقيقة القيامة، حقيقةٍ إنتصارِ الحياة على الموت، حقيقةِ الإنبعاث من الرمال المتحركة. ولا يعتقدنّ أحد أني هنا في مقامِ كلامٍ لاهوتيِّ أو إيماني، إنّما في مقامِ كلامِ فلسفةٍ دينيةٍ تبناها الإمامُ بذاتِه في جدليةِ الصراعِ التاريخي، والإنتصارِ الإلهيّ في التاريخ وعلى التاريخ، واحدُ من الدلائل على هذا اليقينِ بالقيامة كما تبناهُ الإمامُ ما نُشِرّ له في جريدة «الحياة» بتاريخ 9/4/1966 بعنوان:»الفصحُ المجيد صورةٌ لإنتصارِ الحقِّ وخلود رسالة الله» الذي جاء فيه عن معنى القيامة ما يلي:» إنّ الله أرسلّ المسيح ليُحرر الإنسان من الجشع والنفاق، ويُخلّص المعذبين في أرضِه من المُتاجّرة بإسم الله ومِن الظلمِ والطغيان.

ولكن النفوس المنحرفة والضمائر الممسوخة لم تحتمل هذه الدعوة(...). حاربوا المخلّص بعدما كانوا ينتظرونه(المقصود اليهود)، بدأوا بالطمع والتهديد، ثم بحملة التِهم والإفتراءات، وانتهوا بفرض قتله على الطغاة، المسيحُ أراد لهم الحياة، ولكنهم أرادوا قتله. هذا الفصلُ الأوّل من مأساةِ الإنسان، كل إنسان وكلُّ الإنسان: إساءةٌ في مُقابل الإحسان والحُكمُ بإعدام من يموتُ لأجل حياةِ الآخرين. هذه الصورة المثيرةُ تتكررُ كلّ يوم مع الإختلاف في الكّمِّ أو في الكيف، ومع تفاوُتٍ في الوضوح والخفاء. وأمّا الفصل الثاني: فهو الفجرُ نورٌ بعد ظلام، وإنتصارٌ للحقِّ، حينما يقذف الله به الباطل فيدمُغُهُ فإذا هو زاهق(...). هكذا كان الفصحُ المجيد، صورةٌ كاملةٌ عن المرحلة الثانيّة من تاريخ البشر، المرحلةُ التي تتكررُ كلّ يوم مع الإختلافِ في الكًم أو الكيف، ومع تفاوُتٍ في الوضوح والخفاء(...). فالمنتصرُ في المعركة الحاسمة هو الحقُّ والخلودُ لرسالة الله(...). والصورتان على رأي الروايتين (أي الرواية المسيحيّة عن القيامة والرواية الإسلاميّة عن حادثة الصلب) تمُرّان في الذكرى أمام الخواطر، وتطغيان بفعلِ الإيمان على قلوب أولي البصائر، وتُصبحان الينابيعَ الدفاقةَ للحياة السعيدة ولإنتصار الإنسان». ويُنهي الإيمان وحدّه فيجعلُ من هذه الذكرى قُدوةً لأنّه يُبدّلُ العُرف فِعلاً وأصالة».

أيها السادة،

إنّ كربلاء والقيامة ترسمان طرفي حركةِ الرجاء في تاريخ البشر لدى الإمام موسى الصدر. والرجاءُ لا يبقى شعوراً بأملٍ بل دَفْعاً نحو الحقِّ ويقيناً لإنتصار الحقِّ. ومن دون هذين الطرفين لا يستقيمُ العدلُّ في الأرض. هذا ما أراده الإمامُ رجاء بإعتباره حركةٌ إلى العدالة.

ومن رافقني حتى الآن يجدُ بوضوحٍ أن كلام الإمام ليس إيديولوجيّة دينيّة بل حركة، اي صراعٌ مع الواقع، ليس أي واقع الإنسان، كلّ إنسان، وأهم ما في هذا الصراع أنّه صراعٌ من أجل العدالة في وجه الحرمان. والحرمان لدى الإمام ليس مفهوماً كلاسيكياً عن فقدانِ ضمانات الحياة أو حقوق مسلوبة، بل هو كلّ ما يمُت إلى تجريد الإنسان من إنسانيته ومن هويته كإنسان. وقد قال يوماً: لم يعد الحرمانُ (...) وقفاً على النّاس بل ضَربَ بقسوته القِيمَ والمُثل والمبادئ وسائر الخُلقيات(...)» تقرير إلى المحرومين 11/9/1975.

واللافت في دعوةِ الإمام إلى الصراع من أجل العدالة، بما أنّها، كما بات واضحاً، صراعٌ من أجل الإنسان كل الإنسان ولكل إنسان، اعتبارُها تكليفاً إلهياً، لأنّ العدالة كما قال يوماً «تبدو في القرآن الكريم كنتيجةٍ للعدالة الكونيّة. إنّ الكونَ في الرؤية الإسلاميّة قائمُ على أساس العدل والحقِّ، ومن يشعرُ بالرسالة ويرغبُ في النجاح، عليه أن يكون عادلاً في سلوكه منسجماً مع الكون، وإلا فهو جسمٌ غريبٌ في هذا الوجود مرفوضٌ وفاشلٌ، يُطوى في النِسيان والإهمال. وهذا المبدأ ينطبقُ على الفردِ وعلى المجتمعِ على السواء (العدالة الإقتصاديّة والإجتماعيّة في الإسلام وأوضاع الأمّة الإسلاميّة اليوم. الجزائر 1975).

إنّ هذا الإنسجام الكونيّ الكبير يتجسدُ في الكونِ الصغير الذي هو الإنسان. فالمعركةُ في النهايةِ تتركزُ على الإنسانِ في بناءِ أخلاقيته على قاعدة هذه الرؤية التي أحبُّ أن أسميها رؤية إشراقيّة للوجود». وكم أحببتُ في التقليد الشيعي هذا التعبير عن الوحدة في الوجود يومَ تمعنتُ في نظريّة «وحدة الوجود ووحدة الشهود». فنحن بحاجةٍ إلى إنسانٍ يتوحدُ عنده وفيه هذا الرباط مع الوجود برمتِه. لأنّ الإنسان الذي يبلُغُ هذه الوحدة هو الإنسانُ العادلُ بالدرجة الأولى وإلاّ بقي الإنسانُ عبد أهوائه ونزواته وارتباطاته الجزئيّة. إنّ النظريّة الإيمانيّة للوجود عندما تفتحُ الإنسان على هذه الوحدة العميقة مع الوجود، تساعدهُ على التحرر من القيود وتجعلُه ينظرُ إلى النّاس كلّ النّاس أنّهم «إمّا إخوةٌ في الدين وإمّا إخوةٌ له في الخلق». نحن بحاجة إلى هذه الروحيّة لتحرير إنساننا وتحرير مجتمعنا من السلبيّة التي تتحكمُ فيه، وهي سلبيّة ناتجةٌ من فقدان المعنى الإيمانيّ لوحدة الوجود. وهذا ينعكسُ على سلوك الإنسان في ميادين الحياة، فالإنسان عاجزٌ عن أن يكون عادلاً إذا لم يبلغ الشعور وهذا التكليف بالوحدة مع الآخرين.

ومن نتائج تلك النظرة على صعيد العدالة، أنّها لا تقبل بأنصاف الحلول بل تسعى إلى حلّ جذري لقضيّة العدالة بإعتبارها قضيّة الإنسان كل إنسان. وهذا أمر واضحٌ في مسار الإمام فهو يومَ دعا إلى حركةِ المحرومين لم يدعُ إليها ليُصبح المحرومون قوةً عبثيّة تجعلُ من الحرمان منطلقاً بل من العدالة منطلقاً وغاية، والحرمانُ أتى لإيقاظ الوجدانات على هذه الخريطة التي سادت على طبيعة الوحدة الكونيّة. ذلك ما يفسر الضوابط التي وضعها الإمام لحركة المحرومين، وخصوصاً اللجوء إلى السلبيّة أو العنف لتحقيق المطالب. وكان واضحاً انطلاقاً مما سوف نستشهدُ به حالاً، أنّه لو أباح السلبيّة أو العنف على قاعدة الحرمان لكان أباح الثورة. إنّه لم يُبح لثورة، بل الإصلاح، تَيَمُناً بخروج الحسين الذي كان خروجاً للإصلاح في أمته لا الثورة عليها. وفي مقال له في جريدة الحياة في 28/11/1974 تحت عنوان «سنتوّسل السلبيّة لتحقيق العدالة» قال صراحة: «نحن مع العنف لا كهدف بل كوسيلة. فالعدالة وصيانة الكرامة والوطن هي أهدافنا». وأضاف في مكان آخر:» ليس في هذه المعركة حل وسط وليس هناك متفرج. هذه الحركة معركة الحق والباطل وكل من يسكت على ما يريد يكون كالذين خذلوا الحسين وعليّ» (25/2/1974).

ما حصيلةُ هذا الكلام عمليّاً وواقعياً. هناك ثالوثٌ يتربعُ عليه فكرُ الإمام العملي:

1ـ دور الدين: الدين فِعل بالدرجة الأولى لا أيديولوجيا، فعلُ تحفيزٍ وتطويرٍ وتغييرٍ (لنعد لمعنى كربلاء والقيامة) لأنّه يحاول أن يخلق من كل ضعف قوة، ومن كل تشتّت وحدة، ومن كل تخلّف مطلباً. إنّ الدين لا يعترف بالشر في الخلق «(المحرّر 7/10/1974) ويمكنني أن أضيف، لا يُبيحُ الشرَّ بأي شكل من أشكاله. إن ديناً لا يُقرّ بالشر في الخلق بل بصلاح الخلق لأنّ الله خلق كل شيء بكلمته الخالقة ومن المستحيل أن يكون في كلمة الله ما هو مناقض للخير والجمال، هو دينٌ لا يدعو إلاّ إلى الحق والعدالة، بالنهاية إلى الخير والجمال. ومتى يناقض الدينُ مقصدَ الله؟ يقول الإمام: عندما يكف عن أن يكون دعوةً إلى الله [ وهنا مُهمّ جداً الربط بين الدعوة إلى الله والدعوة إلى عدم الإعتراف بالشر، لأنّ ذلك هو البعد العملي للدين، وهو بناء ضمير إنسانيّ يأبى الشر تحت أي شكل كان] وخدمةً للإنسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة» (كنيسة الكبوشيّة 1975). ماذا يعني إذاً عدم الإعتراف بالشر؟ يعني التطلع إلى الله بأنّه مصدر الخير، والتطلع إلى الإنسان بأنّه صورةُ هذا الخير. وإذا اردتم تغير الوُجُودَيْن أن أتطلع إلى الإنسان (...)، بمعنى أنّه يذكره بجمال الخلق وبهاء الخالق. والبهاء والجمال يأمرانني بفعل الخير وبالتزام الحقِّ والعدل.

2 ـ الإنسان: إنّ الإنسان هو العروة الوثقى في هذا الثالوث ومن دونه لا معنى للدين ولأي صراع على الحقِّ والعدل. فالحقُّ والعدل في النهاية هما لصيقان بالوجود البشريّ وهما لإصلاح الوجود البشريّ، لا من مجال حقوق الله لنجعل منهما سبب صراع. فالله لا يحتاج إلى من يصارع من أجله، الله بحاجة إلى من يصارع من أجل خليقته. هذه القاعدة الانتروبولوجيّة هي مدماك أساس في فهم حقيقة الدين. ذلك ما كان في عمق تجربة الإمام الصدر عندما قال يوماً: « الإسلام وضع للإنسان هدفاً أسمى يتجاوز حدود ذاته الضيقة (...) وخلق لديه طموحاً لا مُتناهياً يحركه نحو ذلك الهدف حتى لحظاته الأخيرة» (الدين وحركات التحرّر في العالم العربيّ 1975). ما هو هذا الهدف؟ إنّه مزدوج: بلوغ السعادة الأبديّة أي لقاءُ وجهِ الله، وصراعٌ في الوجود هو صراعُ القيم في وجه انحرافات التاريخ. إنّ الإنسان الذي تهديه الأديان إلى هذا التوق وهذا الصراع هو إنسانُ القيم، وإلاّ لا فضلَ ساعتئذ لمؤمن على غير المؤمن. إنّ الإنسان لا يكتملُ وجوُده من وجهة نظرٍ دينيّة من دون مزاوجةٍ حقيقية بين دعوتهِ الأخيرة ووجودِه التاريخي. فالإنسانُ المدعو إلى ملاقاة وجهِ الله يعرف سلفاً أن الطريق إلى هناك تمرُّ بطريق القيم في وجوده التاريخي. لذلك نجدُ في سورة الرعد في القرآن الكريم ربطاً بين نقض العهد في الأرض وخسارة الآخرة، وتنتهي الآية الخامسةُ عشرة من السورة بأنّ من يقومون بذلك «لهم اللّعنةُ ولهم سوءُ الدار».

3 ـ المجتمع: ببساطةٍ كاملة ولكن بعمقٍ كبير يحددُ الإمامُ المجتّمع أنّه «الإنسان زائد العمل المتبادل» أو التفاعل (الحياة 11/5/1973)، أي أنّ المجتمع الحقيقي هو الذي يُنظَر فيه إلى الإنسان كإنسان، لا بتصنيفٍ للإنسان أو تَميّزُه، إنسانٌ لا يستقيم وجودُه إلاّ بعلاقةٍ مع الآخر والعيشِ معه في تشارُكِ كامل. هذا التساوي بين النّاس في المجتمع هو الذي يخلق المواطنة الحقيقيّة، لأنّ مواطنة من دون مساواة لا تعني أن الوطن الذي يعيش فيه الإنسان يبقى خارجاً عنه، غريباً. فالوطن، يقول الإمام، يعيشُ في ضمائر أبنائه قبل أن يعيشَ في الجغرافيا والتاريخ. ولا حياة للوطن بدون الإحساس بالمواطنة والمشاركة. وهذا يجب أن يبرّر بصورة واضحة وسريعة ودائمة في ترّفعكم عن العائلات والأقليات والطائفيات والحزبيات» (جريدة «الجريدة» في 10/12/1969).

كما نحن بحاجة اليوم إلى مثل هذا الفكر في هذه اللحظات المقلقة من تاريخ البشر حيث يُستباح الإنسان ويلغى من الوجود أنّه إنسان يختلف عن الرؤيّة الأيديولوجيّة التي يعتنقها من يمارس مثلَ هذه الأفعال. كم نحتاج إلى رجالِ رجاء يشدّون بالإنسان إلى مرتبته السامية ودعوته السامية. ولا أخفي عليكم شعوري بالأسى أن يكون الإمام مغيباً لحظة لقاء قداسة البابا الذي يكرّس كلَّ ما يقوله ويفعله للإنسان وكرامتهِ ووجودهِ العزيز.

لكن حضور الإمام يبقى في فكره ونهجه الذي سلكَه الكثيرون من أبناء تربتنا وكلُّ الّذين تأثروا به وبفكره وبطريقة عيشه، حتى بات بإمكاننا القول: إن الإمام لم يغيّب هو في «زمن الغيبة» المنكشف سرّها في الذين استلهموا غيبته فتحولت عندهم قوة تحابِ وعدالة وذودٍ عن العيش معاً. بهذا يُفهم حدثُ تغَيّب وجهِ الإمام وهو وجه من وجوهنا. إنّه ليس أفولاً في التاريخ بل حضور فاعل حتى يظهر من غيبته نافضاً عنه الظلم.

هذا تضامني وهذه عواطفي في هذه الذكرى المؤلمة والعزيزة راجياً من الربِّ سيّد التاريخ أن يبرد شوقَكم ويُعزّي قلوبَكم ويكشفَ غيبةَ مَنْ غُيّب من بيننا، على رجاءِ أن يكون جلاءُ مصيرِه نُصرةً ورفعاً للباطل وفي الوقت معاً مصدرَ رجاءٍ واعدٍ بمستقبلٍ أفضل.