من عطاءات الثورة الحسينية

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

المفتي الجعفري الشيخ عبد الأمير شمس الدين

لقد أحيا الإمام الحسين(ع) الإسلام بتضحياته، وسقى شجرته بدمائه الزكية الطاهرة، واستنهض بشهادته قوة الإسلام، وأحيا أصول الدين وفروعه، ونفخ فيه روحاً جديدة فانبعث انبعاثاً جديداً بجوهره الأصيل.

فلم تكن ثورته(ع) نابعة من مجرد رغبته منه في سفك دمه ودماء أصحابه وأهل بيته، وبنحو مأساوي و تراجيدي على أيدي مجموعة من المجرمين والقتلة.

بل كانت ثورته تعبيراً نهضوياً وملحمة إسلامية كبرى في سبيل الله.. أشرقت أنوارها داخل النفوس فأزالت من طريقها ظلام الخوف، وطردت كل أحاسيس الشعور بالعبودية لغير الله والخضوع لإرادة المتمردين على ربوبيته جلّت قدرته.

إن ثورة الإمام الحسين(ع) شحنت النفوس بالجرأة والشهامة والإقدام، وبددت آفات الشعور بالجبن والخنوع والإحجام التي كانت قد سادت وسيطرت على النفوس والعقول من قبل استبداد معاوية بالسلطة، وبلغت أوج سيطرتها على عقول ونفوس معظم الناس أثناء حكمه.

فانكسر بفضل الثورة الحسينية حاجز الخوف وأُعيدت صياغة الإنسان المسلم ومجتمع المسلمين من جديد.

فمن الثمار الأولى لثورة عاشوراء تلك الإنتفاضات المتتابعة التي رفعت: إما شعار (يا لثارات الحسين)، وإما شعار (الندم و التوبة على خذلانهم للحسين، والقعود عن نصرته (ع))، وإما شعار(الرضا من آل محمدP، فاشتعلت ثورة المدينة المنورة، ثم ثورة التوابين، ثم ثورة المختار الثقفي، ثم ثورة المطرف ابن المغيرة، ثم ثورة عبد الرحمن بن محمد الأشعث، وثورة زيد بن علي بن الحسين، ثم الثورة الأخيرة التي ركب موجاتها العباسيون وكان شعارها (الرضا من آل محمد) والتي أطاحت بالحكم الأموي وأنهت وجوده.

لقد صرخ الإمام الحسين (ع) في كربلاء (ألا من ناصر ينصرنا)؟.. فتردد صدى صوته عبر الأجيال، بدءاً بالجيل الذي زعزع الدولة الأموية، ثم أصبح شعاراً للمظلومين والمجاهدين والمناضلين يرفعونه في مواجهة الـمستعبدين والظالمين.

نعم.. قد زرعت صرخة الحسين(ع) في نفوس أبناء الأمة أخلاقاً جديدة ثورية.

قوامها الإندفاع نحو الإستشهاد من غير مبالاة بالموت في سبيل العزة والكرامة، والدفاع عن انسانية الإنسان وقيمه ومبادىء العقيدة الحقة.

هذه الأخلاق الثورية النزيهة كانت وستكون في المستقبل وفي كل زمان ومكان، القنبلة الموقوتة التي زرعها الإمام الحسين في قلوب الأحرار لتنفجر هنا وهناك في وجوه الظلمة والجائرين والعُتاة، كذلك بعثت ثورة عاشوراء الروح النضالية عند الناس، ورفض الخضوع والإستسلام لدى الأمة الأصيلة.. حتى غدت هذه الأمة تنتظر في كل حقبة من الزمن قائدا حسينياً يأتيها ويقودها ضد الظلم والقهر.. رافعاً تلك الشعارات الحسينية الكربلائية لتسير وراءه على ضوئها.

أجل: لقد منح الإمام الحسين بثورته أمة الإسلام الأصيل شخصيتها المميزة وكيانها المحصن بقوة الله الواحد الأحد.

فهو عندما أعلن عزمه على مواجهة امبرطورية يزيد بن معاوية.. بدون الإعتماد على أي شيء إلا على بذل الروح وتوطين النفس على لقاء الله وفي سبيله.. إلى درجة أنه أحل أصحابه ليلة العاشر من المحرم من بيعته.. حتى يعلموا أنه في معركته ضد الفجور والطغيان الأموي لا يستعين بأحد غير الله حتى لو كان وحيداً فريداً...

وهذه مدرسة سوف يهتدي بنبراسها ونورها كل الثوار الشرفاء والمجاهدين والمصلحين عبر التاريخ وإلى يوم يبدل الله الأرض غير الأرض والسماوات.

لقد تحطمت بعد عاشوراء أكذوبة أن الحاكم والسلطان ظل الله على الأرض، وأن له حرمة ربانية، وأن كل تصرفاته تتصف بأنها دينية، هذه الأكذوبة التي روج لها مذهب دعي (بمذهب المرجئة) الذي ابتدعته ودعمته السياسة الأموية في زمن معاوية. إذ استطاع الأمويون شراء ذمم عديد من رواة الحديث ومدعي الفقاهة طالبين منهم إصدار الفتاوى التي تحرم على الناس الثورة على الحاكم الفاسد وتعتبر من يخرج على الحاكم ـ مهما كان جائراً أو ظالماً ـ فرقة باغية يجب قتالها حتى ولو كان كافة أفرادها من أهل العدل والإستقامة والجهاد في خدمة الأمة والعقيدة.. بل أخذ هؤلاء الفقهاء الخونة ـ بشهادة كتاب الله وسنة رسوله ـ يثقفون من يتصل بهم من المسلمين على أن الخروج على حكامهم حرام وإن كانوا فسقة ظالمين زاعمين أن ذلك هو حكم الله بل هو كذب على الله وافتراء على شريعته وعلى المسلمين حتى أصبح المسلمون جراء هذه الفتاوى المنحرفة أشبه بقطعانٍ سيان عندها بين أن يسوقها سادتها إلى المراعي أو إلى المجازر.

في ذلك الوقت الذي أمنت هذه الفتاوى غطاءً دينيا مزيفاً لأركان حكم بني أمية، أعلن الإمام الحسين (ع) ثورته ولما كان هو سلام الله عليه إمام الفقهاء وأصدق المحدثين في عصره بل سيد الصادقين منهم فنزعت ثورته المباركة ذلك الغطاء وبدأت الجماهير المسلمة لا تعبأ بهذه الفتاوى إلى أن فقدت تأثيرها على الناس والتلاعب بمقدراتهم وإراداتهم.

ولقد امتد أثر الثورة الحسينية العاشورائية حتى أصبح شعار كثير من الثائرين إن لم نقل كل ثائر ومصلح اجتماعي في عالمنا.

وليس أدل على ذلك من قول زعيم الهند غاندي في توجيهه لأبناء شعبه في شبه القارة الهندية: «على الهند إذا أرادت أن تنتصر فعليها أن تقتدي بالحسين بن علي.. لقد علمني الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر».

ولا يخفى على القارىء الواعي بأن الأمتين العربية والإسلامية تجتازان في هذه الحقبة أدق وأخطر مرحلة من مراحل صراعهما الطويل مع العدو الإسرائيلي والصهيونية العالمية بكل أشكالهما ومختلف أقنعتهما ومصاديق وجودهما المعلنة منها كإسرائيل والمقنعة كالجمعيات واللوبيات اليهودية في العالم، وانتصار بعض الشعوب العربية والإسلامية في معارك إثبات وجودها وكيانها كسوريا وإيران ولبنان بواسطة مقاومته وجيشه وصمود شعبه.

والمحافظة على الإنتصار قد يكون أهم و أصعب من تحقيق الإنتصار نفسه.

فيجب أن تبقى روح ثورة الحسين في شرايين شعوب هاتين الأمتين وخصوصاً الشعوب الصامدة فيهما حتى لا تخمد الروح الثورية المنتصرة، وحتى لا يتسرب الكسل والخنوع ومن ثم الوهن إلى جسد الأمة فتستسلم خاضعة لأعدائها.

فإذا أرادت شعوب أيّة أمة أن تواصل الجهاد والعمل الحثيث من أجل الإبقاء على وجودها عزيزاً منيعاً فلا بد لها من منارة ثورية تشع عليها وتصهر شخصيتها، وتحدد أطر مقوماتها.. وليس لها من أجل ذلك إلا أن تستبصر في ثورة عاشوراء كي تبقى واعية لمخططات أعدائها في الداخل والخارج.

فتستمد من عاشوراء الأساس التاريخي لشخصيتها فتعصمها هذه الشخصية من الَّزيعْ والإنحراف ومن الوهن والضعف والتراجع لأن ثورة عاشوراء قد حققت انبلاج فجر تصحيح المسار الرسالي بعد ليل من الإنحراف طويل.. كادت أن تيأس الأمة فيه وتضيع، وهي أغنى ثورة بالعزم والتصميم على المضي في الجهاد حتى النهاية.

وهي ثورة لا مكان فيها للمغانم الشخصية والأنانيات الفردية والمنافع الخاصة بل هي ثورة هدفها الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبناء الإنسان على أساس مبدئي متين.