دور المرأة في كربلاء

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

العلاّمة السيّد علي فضل الله

عندما نتحدث عن عاشوراء فإنّنا نتحدث عن مواقف وعن أحداث ومجريات ونتحدث عن أدوار وبطولات..

والغوص في دراسة الأدوار، من شأنه أن يعطي القيمة الحقيقية لما جرى في عاشوراء، فعاشوراء ليست فقط مجريات معركة حصلت في ساعات، وإن كانت هي كذلك في الواقع، ولكن في خلف هذه الساعات تجسدت بطولات ومواقف وتوزعت أدوارًا على الجميع دون استثناء...

ولم يعد خافيًا أنّ من ضمن ما يميّز عاشوراء، هو أنّها لم تكن معركة كلاسيكيّة، جيش مقابل جيش، إنّما كانت مجموعة إرادات وعزائم وكتلة متراصة، ابتداء من الطفل الصغير حتى الشيخ الكبير من العبد المملوك إلى الحرّ... مجموعة توافرت فيها عدة مستويات: الإيماني(ولاء أهل البيت) والإجتماعي(الأعمار المختلفة) والمعيشي(الغني والفقير) والقبلي(تنوع القبائل) والمناطقي (المدينة، الكوفة). كانت فعلاً ثلّة لا تخضع إلى أي اعتبارات سوى إيمانها بالقضية الكبرى. لأنّه ما إن أعلن الحسين عن رفضه للخضوع والدخول في المعركة حتى أعلن الجميع الولاء وكان ذلك في مثل هذه الليلة: « لن نُخَلّي عنك... وبما نُعَذرُ إلى الله...»

ثم، إن ما أعطى عاشوراء هذا الزخم العاطفي القوي المستمر هو وجود عنصر النساء بقوة في نسيجها، تمثل زينب أُخت الإمام وبنت فاطمة وعلي وجدها رسول الله P ووجود زينب بكل هذا الإرث مثّل مدرسة في كيفية تعامل المرأة المسلمة مع القضايا الكبرى...

أيّها الأحبّة...

لقد أظهرت عاشوراء، مشهد المرأة كشريك أساس في صُنع هذه الملحمة وفي الحفاظ على إنجازاتها... لقد شكّل هذا الحضور ردًّا عمليًّا على كل الذّين يقولون: إنّ الإسلام حجّم دور المرأة، وحجبها وأبعدها عن حركة الحياة الفاعلة. أو أنّها على هامش الرجل لا سيما في القضايا العامّة والكبيرة.

إنَّ حضور المرأة في عاشوراء لم يكن طارئًا بل كان قرارًا من الحسين(ع)، وكان هذا أيضًا اختيارًا ورغبة منها، كان اختيارًا من زينب وكلّ النّساء بحيث قدمن إلى كربلاء انطلاقًا من حسّهن الإسلامي، ومن شعور بالمسؤوليّة . كنّ يشعرن بنفس الشعور بالمسؤولية التي كان يشعر بها الحسين وأي من أصحابه في كربلاء. ومن هنا نجد المرأة تندفع إلى المعركة، وتدفع غيرها، وكانت تؤثّر وتتأثر بها.

لم تكن زينب(ع) المرأة الوحيدة في قافلة الحسين, كان فيها الزوجات اللّواتي حرّضن الأزواج على الاستشهاد بين يدي الإمام، والزوجة التي فضّلت مرافقة الزوج على البقاء في بيتها، وفيها الأمّ التي تدفع بإبنها إلى ساحة المعركة بعد إستشهاد الزوج.

كانت كربلاء نموذجًا مُشرقًا للمرأة التي تكسر قيد استضعافها كي تقوم بأداء أمانتها، وتحمّل مسؤوليتها في الدّفاع عن أمانة حملها الحسين(ع)، ودعا الأمّة إلى تأديتها .

وقمة التضحيّات والثبات والموقف تمثّلت في الحوراء زينب. فهي بحقّ شريكة الحسين(ع) ، فقد عاشت معه كل التفاصيل، كان يحدّثها وتحدّثه، ويناجيها وتناجيه ويبّثها شكواه، ويضعها في صورة ما سيحدث، كان يرى فيها الأخت الرساليّة الواعيّة الحكيمة.

وعلى مشارف المعركة كان واضحًا معه في الموقف الذي ينبغي أن تقوم به، قال لها: «يا أختاه إنّي أقسمت عليك فأبّري قسمي، لا تشقّي عليّ جيبًا، ولا تخمشي عليّ وجهًا، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت».

لقد رسم الإمام الحسين(ع) الصورة التي سنرى زينب(ع) عليها وضمّدت زينب عاطفتها، رغم أنّها كانت تعيش عمق العاطفة مع أخيها وإمامها الحسين(ع).

وبعد المعركة واستشهاد الحسين وأولاده معه بدت زينب جَبلاً من الصبر لا يتزعزع. أجّلت حُزنها ودموعها لتستطيع أن تؤدي مسؤوليتها، لذا مشت بكل شموخ بين صفوف الأعداء إلى مصرع أخيها وحولها الأجساد الطاهرة. وضعت كفيّها تحت جسده الشريف، وقالت:» اللهم تقبّل منّا هذا القربان».

بهذه الكلمات أرادت السيدة زينب أن تزيل نشوة النصر لدى الأعداء، ان تقول لهم: لقد قتلتم الأجساد، وذبحتم الأطفال، ولكنّكم لم تقتلوا العزيمة والإرادة والموقف.

لم ترض أن تبدو أمامهم ضعيفة ولم تستجدِ منهم العاطفة بل ردّت جريمتهم إلى نحرهم. ورسمت بهذا الشموخ معالم النّصر. النصر للروح وللشعارات وللقضيّة.

مع كلماتها على جسد أخيها ومنذ تلك اللحظة، حملت زينب لواء القضيّة وحوّلت الهزيمة العسكريّة إلى نصر بعد أن اختزنت في قلبها كلَّ أحزان كربلاء وحالها حال أمّها الزهراء(ع).

طوال رحلة السبي وصولاً إلى مجلس يزيد، زينب لم تستعطف أحدًا. منطقها لم يكن ضعيفًا. بيّنت الحقائق. أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر. وقالت بعد ذلك ليزيد المُنتشي بنصره الحقيقة التي عليه أن يسمعها: «كد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا».

ومن مجلس يزيد انقلبت الصورة .. في مجلسه زينب المسبيّة.. تحاجج، تُقرّع، تُذلَ تصغّر، بدت هي التي تحررت من قيودها وصفّدت يزيد..

وأثمرت جهود زينب ومعها الإمام زين العابدين وكانت أولى بشائر الثورة تنطلق من الكوفة، وكانت ثورة التوابين أول الغيث.

في تلك المرحلة أيّها الأحبّة.. كان البكاء مؤجّلاً، ولكننا اليوم نحن نبكي زينب.. نبكي سبيها. نبكي الحزن المدفون في داخلها.. والحمل الثقيل من المسؤولية التي تصدّت لها... وفي ذاكرتنا ووجداننا ما كانت أمّها الزهراء (ع) قد قالت: « صبت عليّ مصائب لو انّها صبّتن على الأيام صرن لياليّا».

أيهّا الأحبة هذا غيض من فيض زينب (ع) ونساء عاشوراء .....

وبما أنّنا ندعو إلى أن يكون حزننا رساليًا فإنّنا دومًا نبحث عن مدى استفادتنا وتفاعلنا ووفق ما بتنا نعيشه في كل موسم من عاشوراء، (وهذا يشعرنا بأهمية هذه الإحياءات وبذل كل الجهود لأجلها..)

فكلما حضرنا مجلسًا علينا أن نخرج لنقول: الوقت وقت عمل... الوقت وقت إصلاح وتغيير، ووقت بناء وإستقامة..

فلندخل، أيها الأحبة، في ورشة عاشوراء من بوابة التحدّيات المحدقة بنا والتي تحتاج إلى تغيير وإصلاح وإلى تقويم واستقامة وتحتاج إلى إعادة تعريف وتصويب وما أكثر الأمور التي نحتاج فيها إلى إعادة نظر ونقد وتوجيه نحو البوصلة الحقيقية...

ودور المرأة جزء من التحدّيات التي طالما واجهتنا والمطروحة بقوة في واقعنا والمطلوب أن لا ندير لها ظهرنا حتى لا تتفاقم وتتعقد وتحرفنا من حيث لا ندري... من هنا سأعرض عدّة نقاط نستلهمها من مخرجات عاشوراء:

النقطة الأولى: في الوقت الذي نؤكد فيه على المستوى الإسلامي العام على شراكة المرأة والرجل، وتهميش المرأة لم يكن مطروحًا أبدًا لا بالنصوص ولا بالواقع (الرسول وخديجة، علي وفاطمة، الحسين وزينب(عليهم أفضل الصلاة والسّلام)). والتهميش حصل متأخرًا بعد التراجع وعصور الانحطاط وابتعاد النّاس عن جوهر الرسالة والدّين ودخول الأفكار الوافدة...

 من هنا من منبر عاشوراء نتوجه إلى المرأة، نخاطبها مباشرة ومن دون وساطة الرجل ليتصدق عليها بدورها... ندعو المرأة إلى أن تؤمن بقدراتها، وبدورها، وبفاعليتها، مطلوب أن لا تحيّد نفسها كما لم يحيّدها الإسلام وعليها دومًا أن تختبر في أي موقع هي، وما هي إنجازاتها، وأين تذهب طاقاتها التي وهبها الله إياها، من مال ووقت وعلم وموقع وغير ذلك... وما التأثير الذي تركته حولها وأين بصمتها...؟؟

إن قناعة المرأة بدورها أساس، ولكن لا بدّ من اتفاق وتكاتف بين كل شرائح المجتمع حول تسهيل اضطلاع المرأة بدورها في المسؤوليات العليا وليس في الاستهلاك فقط، لأنّ واقعنا يشير إلى غير ذلك...

(وهنا أتساءل على الهامش كم عدد النساء في المجالس البلديّة وفي مواقع القرار وفي المواقع السياسيّة التي للإسلاميين الدور الأكبر في إدارتها؟ سؤال يحتاج للتدقيق ويحتاج إلى أرقام نبني عليها حركة تنميتنا الداخلية..)

النقطة الثانية: على المرأة أن تحكّم عقلها في كل ما تسمعه وتقرأه، ولا تكون ببّغاء يُردّد، بل تُحَلّل وتسأل وتناقش، هي مسؤولة ولا يمكن لها أن تتخلى عن مهمة التفكير وتتّكل على الآخرين أن يفكروا عنها... وهي مسؤولة أمام الله عن طاقاتها وعن مواقفها وفاعليتها.. وعليها أن تسحب نفسها بعيدًا عن السطحيّة والاهتمامات الدخيلة وغير المتوازنة التي تشغل بالها وَيُراد لها أن تنغمس بها.

والنقطة الثالثة: تتعلق بنظرتنا إلى عاطفة المرأة، التي لا نراها نقطة ضعف، بل نقطة قوة، هي تكمّل الرجل من خلالها وهي ضرورية في عالمنا الذي باتت تسيطر عليه المادة.

فنحن نحتاج في عملنا الرسالي إلى من يتحسس آلام الفقراء والمساكين والمظلومين، وهم كُثر من حولنا، هم يحتاجون إلى احتضان عملي للهموم وهنا يأتي دور المرأة ... قلبها الوادع وعاطفتها الحانيّة، في عاشوراء تحولت السيدة زينب إلى خيمة من الحنان والعاطفة والمواساة مع من تبقى بعد فاجعة عاشوراء وعاطفتها كانت بلسمًا لجراحاتهم الكثيرة...

والنقطة الرابعة: تتصل بعنوان أخلاقي وهو الصبر.. فقد بتنا نجد من خلال متابعاتنا لكثير من المشاكل التي تردنا، أنّ سببها الأساس هو افتقاد الصبر فالمقدرة على الصبر في مجتمعنا تتراجع بشكل كبير ، لا نريد أن ندخل في الأسباب، والتي قد تتصل بطبيعة العصر وما يفرزه من مشاكل على مستوى الوضع النفسي وغيره...

ولكن ما ينبغي التأكيد عليه هو أنّ عاشوراء فرصة كبيرة لنا لنتغلب فيها على قلّة الصبر، بل لنرفع منسوبه لدينا بمجرد تذكرنا لصبر الحسين وزينب والعبّاس وعليّ الأكبر وَكُلِّ أبطال كربلاء.

كم نحن نحتاج اليوم إلى الصبر على تحديات الحياة والخروج منها ثابتين غير متراجعين أو متنازلين ... والمرأة معنية بذلك كما الرجل تحتاج لصبر على اضطرارها للعمل في البيت وخارجه. تحتاج إلى الصّبر على تربية الأولاد وعدم الاستسلام من كثرة المشاكل، الصّبر على ظروف الزوج، والأهل والصّبر على تحقيق الأحلام والأهداف والطموحات، وعدم الانهزام والانكفاء والإكتفاء بتسيير الأمور وتمضية الزمن. إنّنا عالم نحتاج فيه أكثر من أي وقت إلى عناد وتحدّ وإيمان وقناعة راسخة بأنّ النتائج ستثمر ولو بعد حين...

أيها الأخوة والأخوات، أيها الحضور الكريمأن نحمل اليوم مشعل زينب يعني أن ننقل هذه المدرسة بكل دروسها وعبرها وعمقها إلى بيوتنا ومدارسنا، مؤسساتنا، نوادينا، أُسرنا. وعلاقاتنا أن نترجم دموعنا ونداءاتنا إلى مواقف لمواجهة أيّ انحراف أو فساد. ليكن من يحمل مشعل زينب بوصلته هي الحقُّ ولا شيء غيره، فتقديس الحقُّ لا يعرف المساومة، ولا الخداع، ولا يعرف الانكفاء والتأجيل، وكفى أن نصوّر زينب إنسانة مسحوقة مظلومة، لا عمل لها سوى النواح والبكاء.

صحيح أنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا، لكن من واجبنا أن لا نأتي على هذه النّار فنطفئها بإحياء شكلي روتيني لا يملك تغيير الواقع، فالحزن الزينبي حزن ولاّد، وقّاد، وعلينا أن نكتشف كيف يفجر الإرادات، ويجعلها أصلب من الصخر، فدم الحسين وصبر زينب نورانية تتجدد وثروة لا تنفد، وطوبى للأمّة التي تحافظ على ثرواتها وطاقاتها من أجل حياة عزيزة كريمة.

والسلام عليكم