عرفته

25/02/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

نعم عرفته، أوّل ما عرفته هو أنّه ما أتى غبطته مرّة ليمضي فصل الصيف في الديمان، إلاّ وكان الشيخ خليل محمود حسين أوّل الوافدين للتأهيل به وللتمنّي له بقضاء أيّام حلوة في ربوعنا الشماليّة. وكان غبطته يأبى إلاّ أن يكون جهة قلبه وكرسيّه ملاصقاً لكرسيّ غبطته للمودّة التي كانت تربط الاثنين معاً. وهو، رحمات الله عليه، كان يتدلّل لأنّه يعلم أنّه يتربّع في قلوبنا قبل أن يجلس على الكرسيّ التي خاصّته. وهو ما صعد إلى الديمان لوحده بل على رأس وفدٍ من القرى الشيعيّة الخمس، إذ أنّه كان مرجعاً سياسياً واجتماعياً وإنمائياً.

فيوم كانت هناك حواجز بين الأشخاص وبين العيل اللبنانيّة، كان بيته مقصداً يزوره كبار القوم وصغاره. فما من شخصيّة سياسيّة إلاّ وكانت تقصده لعرض خدمات. وصغار القوم كان البيت ملجأ لهم. وهو كان عضواً في المجلس السياسيّ لحركة أمل. همّه الكبير كان مدّ جسور التواصل بين أهله وأهل المنطقة. وهذا طبيعيّ لِمَن تتلمذ على يد الإمام موسى الصدر. إنّ هذه المكانة المرموقة جعلت من بيته مقصداً لأهل الشمال من كافة الطبقات.

في المنطقة العزيزة، من فرح ولم يفرح أبو ماهر معه، مَن بكى ولم تدمع عين الشيخ لحزنه، مَن لجأ إليه وعاد خائباً، ومن كان في حاجة ولم يهبَ لخدمته سواء كان اللاجئ وطالب الحاجة من بنهران أو غيرها من القرى. أكان طارق بابه شيعياً من القرى الخمس، أو مارونيّاً أو ارثوذكسيّاً وبنهران هي من الكورة الأرثوذكسيّة. وهو هو لم يتغيّر سواء كانت الأيّام مقبلة أم كانت مُدْبِرَة، أكانت الأجواء صافيّة أم تشوبها الغيوم. ففي أيّام الحرب المشؤومة، بفضل الشيخ خليل وفضل غيره من الصالحين الغيارى لم تحدث حادثة في هذه المنطقة يؤسف لها ويُندّم عليها، بل كان الجميع أخوة متحابيّن في السرّاء والضرّاء ينقاسمون الرغيف الواحد ويشربون من كأسٍ واحدة ماءً صافيّة واحدة. فالهموم كانت واحدة والإهتمامات مشتركة.

والشيخ خليل كان سيّاقاً في هذا المجال. فهو ما إن يعلم بما يعكّر حتى يهبّ مسرعاً بقامته الفارعة ووجهه الصبوح ليزرع السلام محل الإنقسام، والمحبّة محلّ البغض، والوئام مكان الشقاق.

إنّ الشيخ خليل قد تَرَكَ لنا إرثاً إنسانيّاً نفتخر به، وسمعةً عطرة لا يُعلى عليها، ومثالاً لبنانياً يُحتذى. يكفي أنّه ترك لنا عائلة أخذ أبناؤها عن الوالد إيماناً بالله مقروناً بالأعمال، ومحبّة للقريب حيث كلّ إنسان هو قريب، وعيشاً للقِيَم الإنسانيّة.

وأبو ماهر زوّد أولاده بالعلم. ويُخبِرُنا الدكتور ماهر بأنّ والده كان يطلب منه أن يتخصّص في الطبّ ليخدم النّاس الأكثر ضعفاً والأشدّ حاجة. ولقد أسرّ لي، رحِمه الله، على أنّه ما فرّق بين الصبيّ والبنت. فوفّر لابنته العلم وزيّنها بالفضيلة. وكان وهو يتحدّث عن نجاحاتها المدرسيّة والجامعيّة ومن ثُمّ عن المركز الذي احتلّته في المجتمع الواسع، إنّما كان يتحدّث مزهوّاً مفتخراً بما زرعته يداه وما تعهّده قلبه. وهو كان يتمنّى مثلها دزينة بنات.

وكان إجتماعياً، إذ كانت الأيادي البيضاء في تأسيس جمعيّة إنماء القرى الخمس وتأسيس النادي لها. والنادي له كمالاته. وكنّا نجتمع في المناسبات في النادي فنملأ منه القاعات والملاعب والفسحات والساحات ثمّ ننتقل بعدها إلى البيت حيث يُقدّم لنا ما لذّ وطاب. ولم تكن بنهران تحصر المشاريع لها. فالمستوصف هو في بحبوش حيث يؤمن الدواء والطبابة. فهو أنجح مستوصف في المنطقة مع العلم أنّ المسيحيين يستفيدون منه أكثر من المسلمين الشيعة. كما إهتمّ بإنشاء مهنيّة في بحبوش أيضاً، والخدمة مجانيّة وفَرِحَة.

يا ليتَ لنا في كلّ منطقة من مناطق لبنان شيخاً إنساناً مثل أبي ماهر، لألفَينا آنذاك أشخاصاً ميزتهم المحبّة فتعمّ المحبّة في ربوعنا وترفرف راية السلام.

الديمان في: 20/1/2014م.

بقلم: سيادة المطران فرنسيس البيسري