الصَّاحب بن عبّاد سيرته التَّاريخيَّة والأدبيَّة والدينيَّة وتَجلِّيات الصَّنعة الفنِّيَّة في شِعرِه

22/1/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 

أطروحة فضيلة الدكتور الشيخ عبّاس علي فتونيّ التي نال عنها شهادة الدكتوراه اللبنانيّة في اللغة العربيّة وآدابها من كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة. الجامعة اللبنانيّة ـ سن الفيل. وقد تألفت لجنة المناقشة من الأَساتِذَةِ الأَفاضِلِ: د. مفيد محمد قميحة، د. مهدي علي زيتون، د. عاطف حميد عوّاد، د. جرجس شكيب سعادة، د. يوسف علي طويل.

 

والمقدّمة قرأها بها فضيلة الدكتور الشيخ فتونيّ لأطروحته أمام اللجنة الآنفة الذكر اعتبرناها قراءة لهذا الكتاب النفيس. لذلك أوردناها كما جاءت بقلم المصنّف.

 

أَيَّتُها اللَّجنةُ المحترمة:

 

الإشكاليَّة: لماذا اخترت هذا الموضوع؟

 

إنَّ الدَّاعي إلى اختياري هذا الموضوع تبرزُه النِّقاطُ الآتية:

 

1) هو أَديب مشهور، لم يُدرَج في مناهج تدريس الأَدب العربيّ في المرحلة الثَّانويَّة، وقليلاً ما عُنيَ به في مراحل التَّدريس الجامعيَّة في كلِّيَّات الآداب في جامعات العالَم العربي، على الرُّغم من مكانته الثَّقافيَّة، لُغويّاً ومعجميّاً وشاعراً وناثراً، وعقلاً موسوعيّاً.

 

2) أضف، إلى ذلك، أثره الكبير في الحركة الثَّقافيَّة في القرن الرَّابع الهجريّ؛ العاشرِ للميلاد، فقد كانت حضرته مثابةً للأُدباء والشُّعراء واللُّغويِّين، وذاع صيتُه راعياً للآداب والثَّقافة.

 

3) مَيْلُنا إلى أهميَّة إحياء هذه القيمة الحضاريَّة، وتبيان أثرها في الحياة السِّياسيّة والاجتماعيَّة والأدبيَّة.

 

منهج البحث:

 

وقد استندت في هذا البحث إلى منهجَيْن أظنُّ أنَّ طبيعةَ الموضوع تستدعيهما، وهما:

 

أ ـ المنهج التَّاريخيّ: وهذا المنهج يعتمد على الوثائق ونقدها، وتحديد الحقائق التَّاريخيَّة، ومن بعد مرحلة التَّحليل هذه تأتي مرحلة التَّركيب، حيث يتمُّ التَّأليف بين الحقائق وتفسيرها؛ وذلك من أجل فهم الماضي، ومحاولة فهم الحاضر على ضوء الأحداث والتَّطوُّرات الماضيـة.

 

وهذا المنهج وظَّفتُه هنا لتصنيف الظَّاهرة الأدبيَّة الَّتي أعالجها، تصنيفًا يلائِمُ العصر السِّياسيّ الَّذي نشأتْ فيه، ليتسنَّى لنا الوصل الوثيق بين التَّاريخ والأدب العربيّ.

 

ب ـ المنهج الأُسلوبيّ: الَّذي يَظهرُ أثرُ تطبيقِه في الدِّراسةِ النَّقديَّةِ للصُّورةِ الفنِّيَّة، والظَّواهرِ الإِيقاعيَّة، والرَّوافدِ النَّصِّيَّة.

 

البحث

 

يقع البحث في مقدِّمة وخمسة فصول:

 

الفصلُ الأَوَّلُ: عرضتُ فيه لحياةِ الشَّاعرِ وسيرتِه وملكتِه الأَدبيَّة.

 

أَمَّا الفصل الثَّاني: فكان مخصَّصًا للحديثِ عن المعتقدِ الدِّينيِّ في شِعرِ الصَّاحبِ بنِ عبَّادٍ، والأَدلَّةِ المشيرةِ إِليه.

 

أَمَّا الفصلُ الثَّالث: فقد تناولتُ فيه عِلمَ المَعاني في شِعرِ الصَّاحبِ.

 

أَمَّا الفصلُ الرَّابع: فكانَ مختَصّاً بتجلِّياتِ البيانِ وأَهمِّ فنونِه في شِعر الصَّاحبِ.

 

أَمَّا الفصلُ الخامس: فكانَ الحديثُ فيه حولَ تجلِّياتِ البديعِ الموجودِ في شِعرِ الصَّاحبِ.

 

والخاتمة: فيها أَبرزُ النَّتائِجِ الَّتي تَوصَّلَ إِليها البَحثُ.

 

وقد تَوصَّلَ البحثُ إِلى النَّتائِجِ والتَّوصياتِ الآتية:

 

الصَّاحبُ بْنُ عَبَّادٍ دوحةٌ غنَّاءُ في واحاتِ الأَدبِ العربيِّ، شِعراً ونثراً، إِلاَّ أَنَّه لمْ يَحظَ بشُهرةِ بعضٍ ممَّنْ همْ دونَه في المجالِ الأَدبيِّ، مع أَنَّه خاضَ في كلِّ عِلمٍ، وأَبدعَ في كلِّ فَنٍّ.

 

لاحظَ البحثُ قُصوراً في الجانبِ النَّقديِّ مِن قِبلِ الدَّارسينَ القُدامَى لأَدبِ الصَّاحبِ ومؤَلَّفاتِه.

 

ويَرى البحثُ أَهمِّيَّةَ دراسةِ شخصيَّةِ الصَّاحبِ بْنِ عَبَّادٍ في الأَدبِ العربيِّ، فهو يُمثِّلُ مَجالاً خَصباً، وجانباً مُثريًا يُغري بالدِّراسةِ، ويُشبِعُ نَهمَ الباحثِ المتلهِّفِ، إِنْ كان ذلكَ في الجانبِ اللُّغويِّ، أَو العَروضيِّ، أَو البَلاغيِّ، فَضلاً عن الأَدبيِّ: الشِّعريِّ والنَّثريِّ.

 

وأَثبتَ البحثُ أَنَّ السَّجْعَ سِمةٌ فنِّيَّةٌ عامَّةٌ لكتَّابِ القَرنِ الرَّابعِ الهجريِّ بشكلٍ عامٍّ، كما أَنَّه سِمةٌ لَصيقةٌ بالصَّاحبِ، رأَيناها في غالبِ أَدبِه.

 

نَطقتْ صورةُ الصَّاحبِ الفنِّيَّةِ عن قدرةٍ فذَّةٍ، ومَلكةٍ رائِعةٍ، فاتَّسمَتْ بجَمالِها، ولطافتِها، وتَماسكِ أَلوانِ الرَّسمِ في لوحتِها.

 

إِنَّ التَّنوُّعَ في الجناسِ الَّذي شَهدَهُ أَدبُ الصَّاحبِ بْنِ عَبَّادٍ يَدلُّ على صعوبةٍ في الدَّرسِ التَّحليليِّ.

 

عُرفَ عن الصَّاحبِ بْنِ عبَّادٍ أَنَّه سريعُ النُّكتةِ، حاضرُ الجوابِ، كثيرُ الفُكاهةِ والدُّعابةِ، وكان ذلكَ أَثراً من آثارِ ثقافتِه الواسعةِ، وعِلمِه المتبحِّرِ، وتجاربِه الكثيرةِ، وتوقُّدِ ذِهنِه، وحضورِ بديهتِه.

 

إِضافةً إِلى تَعدُّدِ مواهبِ الصَّاحبِ في فنونِ المعرفةِ، كان يُنَصِّبُ نفسَه راعياً للعربيَّةِ وآدابِها والمعارفِ الإِسلاميَّةِ في مختلَفِ فروعِها، فغَدَتْ حَضرته، حيثُ كانَ يَنتَقلُ، مجالسَ يَتداولُها جميعًا، ومَجمعَ القُصَّادِ من كلِّ فَجٍّ عميقٍ.

 

غدتْ حَضْرَةُ الصَّاحبِ بْنِ عَبَّادٍ في أَصفهانَ والرَّيِّ مَباءَةَ للعلماءِ والمفكِّرينَ والشُّعراءِ والنَّاثِرينَ الَّذينَ اتَّخذوا من العربيَّةِ لُغةَ تَعبيرٍ لهُم، بينَما كانتِ الفارسيَّةُ تَتأَهَّبُ لإِنتاجِ أَدبٍ ذي قيمةٍ، ولاستعادةِ دَورٍ فَقدَتْه لُغاتُ إِيرانَ قبلَ الإِسلامِ.

 

تَعلَّقَ الصَّاحبُ بتُراثِ العربِ، وتَعصَّبَ للعربيَّةِ علَى الرُّغمِ من نَسَبِه الإِيرانيِّ، وإِتقانِه الفارسيَّةَ.

 

وقد كان الصَّاحبُ يَخضعُ في أَساليبِه لِما شاعَ في عصرِه من استِخدامِ السَّجْعِ والبديعِ، وقد اشتهرَ في عصرِه بأَنَّه يكلفُ بالسَّجْعِ كلفًا شديداً.

 

ظَهرَ لي في شِعرِ الصَّاحبِ بْنِ عبَّادٍ أَنَّه في المديحِ لمْ يَمدحْ غيرَ أَهلِ البيتِ؛ وكذلك لمْ يَمدحْ من النَّاسِ غيرَ أُستاذِهِ ومربِّيهِ ابْنِ العميدِ؛ كما أَنَّه لمْ يَمدحْ من أَجلِ العطاءِ، لأَنَّه كان وزيراً وابْنَ وزيرٍ، لا حاجةَ له في العطاءِ، بلْ هوَ الَّذي يُعطي النَّاسَ. ويَظهرُ في شِعرِه الصَّارخِ بحُبِّ أَهلِ البيتِ أَثرٌ صارخٌ للتَّشيُّعِ والدَّعوةِ إِليه. كما ردَّدُ الصَّاحبُ مبادئَ المعتزلةِ في شِعرِه كثيراً.

 

في الرِّثاءِ تَوجَّه الصَّاحبُ بْنُ عبَّادٍ برثائِهِ إِلى أَهلِ البيتِ جميعاً، وما أَصابَهم مِن قَتلٍ وظُلمٍ، وبخاصَّةٍ الحسينُ بنُ عليٍّ.

 

وفي الفخر، افتَخرَ الصَّاحبُ بحبِّه لآلِ البيتِ وتشيُّعِه لهم، وبخاصَّةٍ الإِمامُ عليُّ بْنُ أَبي طالبٍ.

 

أُطالبُ في خاتِمةِ هذِه الأُطروحةِ بإِدخالِ شِعرِ الصَّاحبِ بْنِ عَبَّادٍ في برامجِ التَّدريسِ في الثَّانويَّاتِ والجامعاتِ، إِثراءً لها، ووفاءً للصَّاحبِ الَّذي احْتَضنَ لُغةَ الضَّادِ حتَّى أَصبحتْ لُغتَه.

 

وبعدُ، فإِنْ كان قدْ بقيَ مِن أَمجادِ الصَّاحبِ شيءٌ لمْ تُحقِّقْه هذِهِ الدِّراسةُ لأَنَّه يَخرجُ عن نطاقِها وطبيعتِها، فإِنَّ هذا الباقي يتمثَّلُ في آثارِ الصَّاحبِ ومصنَّفاتِه، الَّتي نحسُّ بالحاجَّةِ المُلحَّةِ إِلى موالاةِ الجهودِ في البحثِ عن مَظانِّها وكشفِها للنَّاسِ حتّى تُضمَّ إِلى التُّراثِ العربيِّ الحافلِ، وتَعظمَ الفائِدةُ والانتفاعُ بما حَوتْ مِن آثارِ المعرفةِ والبصيرةِ، وما ذلكَ على أُولي العزمِ بكثيرٍ.

 

أَمَّا المصادرُ المعتمَدةُ في البحثِ: فقدِ اعتمدتُ على مؤَلَّفاتِ الصَّاحبِ بنِ عَبَّادٍ. واعتَمدتُ أَيضًا على عددٍ كبيرٍ من المصادرِ القديمةِ والحديثةِ في السِّيرةِ، والبلاغةِ، والأَدبِ، والنَّقدِ، بقَدرِ احتياج الدِّراسةِ لها، فكانتْ بحقٍّ غذاءً فِكريّاً وفنِّيّاً.

 

آمُلُ أَنْ أَكونَ قدْ زدتُ شَيْئًا على المكتبةِ الأَدبيَّةِ، مردِّدًا مع مصطفى صادقِ الرَّافعي: إِذا لمْ تَزِدْ على الحياةِ شيئًا، كنتَ أَنتَ زائِدًا عليها.

 

وها إِنِّي أَضَعُ هَذِهِ الأُطروحةَ بَيْنَ أَيادِي أَهْلِها، فإِنْ كانَ فِيها الهَدَفُ والمُبْتَغَى، الَّذِي يَخْدِمُ العِلْمَ، ويُعْلِي صَرْحَهُ، فَمِنَ اللهِ تَوْفِيقُهُ؛ وإِنْ كانَ فِيها بَعْضُ الشَّوائِبِ والأَكْدارِ والرِّمالِ الَّتِي تُعَكِّرُ صَفْوَها، فَمِنِّي؛ مؤَكِّدًا أنِّي لا أَدَّعِي بُلُوغَ الكَمالِ، لأَنَّ الكَمالَ للهِ وَحْدَهُ.

 

وأَختمُ بما قالَه القاضِي الفاضِلُ البَيْسانِيّ ، في رِسالَتِهِ إِلَى عِمادِ الدِّينِ الأَصْفَهانِيِّ ، وهو يَعتذرُ إِليهِ عن كلامٍ استدركَه عليه:

 

إِنِّي رَأَيْتُ أَنَّهُ لا يَكْتُبُ إِنْسانٌ كِتابًا فِي يَوْمِهِ، إِلاَّ وَقالَ فِي غَدِهِ:

 

لَوْ غُيِّرَ هَذا لَكانَ أَحْسَن،

 

وَلَوْ زِيدَ كَذا لَكانَ يُسْتَحْسَن،

 

وَلَوْ قُدِّمَ هَذا لَكانَ أَفْضَل،

 

وَلَوْ تُرِكَ هَذا لَكانَ أَجْمَل،

 

وَهَذا مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَر، وهو دليلٌ علَى استِيلاءِ النَّقصِ علَى جُملةِ البَشَر.

 

وكلِّي آذانٌ صاغية، للاستفادةِ من ملاحظاتكم القيِّمة. حيَّاكم الله وبيَّاكم، وشكراً جزيلاً لكم.

 

ورَدَ عن إِمامنا الرِّضا t، أَنَّه قال:

 

مَنْ لَمْ يَشكرِ المُنعِمَ من المَخلوقين لَم يَشكرِ اللهَ عزَّ وجَلّ.

 

في نهايةِ المَطاف، لا بُدَّ لي من أنْ أُوجِّهَ إِليكم من أعماق القلب والوجدان، أَسمى عباراتِ الشُّكر والعِرفان، على الملاحظاتِ القيِّمةِ الَّتي أُقرُّ بصوابيَّتِها، وأَعترفُ أَنِّي استفدتُ كثيراً منها، لذا سأَحرَصُ على تطبيقِها، توخِّيًا للكمال، وإِخراجِ الأُطروحةِ بأَحسنِ حال.

 

واسمحوا لي أَنْ أَخصَّ كلاًّ منكم بتحيَّة خاصَّة، هي عبارةٌ عن باقةٍ شِعريَّة متواضعة:

 

الدُّكتور يوسف الطَّويل

 

الوَرْدُ مِنْ أَطْيابِ خُلْقِكَ يَرْشُفُ

 

والعَقْلُ مِنْ يَنْبُوعِ عِلْمِكَ يَغْرُفُ

 

يَعْقُوبُ لَوْ يَلْقاكَ أَوَّلَ وَهْلَةٍ

 

لَفَتَنْتَهُ، وَلَقالَ: إِنَّكَ يُوسُفُ

 

الدُّكتور جورج شكيب سعاده              

 

جُورجُ» بِالعِلْمِ سُدْتَ، نِعْمَ السِّيادَهْ

 

ناسِجاً مِنْ نُورِ الطُّمُوحِ وِسادَهْ

 

أَنْتَ تَهْوَى الإِسْلامَ مِثْلَ المَسيحِـ

 

ـيَّةِ مْنِ أَجْلِ ذاكَ نِلْت السَّعادَهْ

 

الدُّكتور عاطف حميد عَوَّاد

 

عَلَى شُرْفَةِ الأَمْجادِ إِنَّكَ واقِفُ

 

تُطِلُّ عَلَى الدُّنْيا، وَظِلُّكَ وارِفُ

 

أَراكَ أَبًا بِالعَطْفِ قَلْبُكَ نابِضٌ

 

مُسَمَّاكَ طُولَ العُمْرِ كَاسْمِكَ عاطِفُ

 

الدُّكتور مفيد محمَّد قميحة

 

أَنا عِنْدي لَدَى لِقائِكَ عيدُ

 

طالَما شَدَّني إِلَيْكَ القَصيدُ

 

أَجْتَني مِنْ حُقُولِ عِلْمِكَ قَمْحاً

 

مُسْتَفيدٌ أَنا، وَأَنْتَ مُفيدُ

 

الدُّكتور علي زيتون

 

عَلِيُّ أَنْفاسُهُ أَحْلَى مِنَ العَسَلِ

 

يَعْلُو كَزَيْتُونَةٍ في قِمَّةِ الجَبَلِ

 

يَحْذُو الإِمامَ عَلِيّاً في بَلاغَتِهِ

 

ما خابَ والِدُهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ «عَلي»

 

أيَّتُها اللَّجنةُ الموقَّرة:

أُعاهدُكم أَن أكونَ عندَ حُسنِ ظنِّكم، وأَنَّني لن أَنسى فضلَكم سحابةَ الحياة، وسأبقى أَفتخر دون محاباة، أنَّني نلتُ شهادةَ الدُّكتوراه على أيدي أساتذةٍ كرام، وعلماءَ أَعلام. والسَّلام..