بلدة المعيصرة وعشيرة آل عمرو الوائليّة بين الماضي والحاضر

15/11/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الأستاذة رؤى شمس الدين(1)

تغادر بيروت باتجاه كسروان ـ الفتوح، فتصل إلى محاذاة مصبّ نهر إبراهيم ساحلاً. وهناك، تتَّجه يمينًا لتصل إلى قرية صغيرة تتموضع فوق هضبة مشرفة على البحر في قضاء كسروان. إنَّها بلدة المعيصرة اللبنانيَّة إحدى قرى كسروان ـ الفتوح.

اسم القرية عربي منسوب إلى معصرة صغيرة كانت موجودة فيها. قبل العام 1975، كان في المعيصرة الصغيرة بعدد سكانها وبيوتها الكبيرة بمساحتها 61 بيتاً فقط. لم تشهد البلدة بشكل عام حركة بيع للأراضي خارج إطار العائلة الكبيرة قبل الحرب اللبنانية... بل حافظت على طابعها الشيعي الخاص، باعتبار أنّ سكّانها ينتمون إلى عائلة واحدة هي آل عمرو، وتقاليدها لا تسمح بسهولة بتزاوج بناتها وأبناء معظم العائلات الشيعيَّة الأخرى، ما أبقى ملكية الأراضي محصورة داخل هذه العائلة. كما أنَّ الممارسات التي حصلت خلال تلك الحرب، لم تسبّب تهجيراً جماعياً للسكّان، بل سببت نزوحاً لبعض العائلات لا يتجاوز عددها العشر لأسباب عقائدية أعطاها الانتماء الطائفي دافعاً أكبر.

المعيصرة التي بدأت بعدد متفاوت من البيوت، فيها اليوم أكثر من 486 وحدة سكنيَّة، ومعظم سكانها من المزارعين، بدءاً بالتوت وصناعة الحرير، مروراً بالقمح وشتى أنواع الحبوب، وهي التي انفردت قديمًا بزراعة التبغ بين القرى المجاورة. اشتهرت المنطقة بزراعتها الكرمة والزيتون والتبغ، ثم جرى استبدال التبغ بزراعات أخرى. وفي عهد الانتداب، لم يتجدَّد في بلدة المعيصرة سوى زراعة التبغ التي حلَّت مكان التوت كلياً، إذ توقَّفت صناعة الحرير في العام 1937.

لغاية العام 1960، كان أهالي بلدة المعيصرة يعتمدون في حياتهم الاقتصادية على الزراعات البعلية التي تعتمد بشكل أساسي على مياه الأمطار، والثروة الحرجية، والمراعي الخصبةفي العام 1956، وصلتها المياه من مشروع نبع الضامن (نهر الذهب). وفي العام 1957، أنارتها الكهرباء، كما زُوِّدت في العام 1969 بشبكة مياه إضافية من مشروع نبع أفقا، وشُقَّت لها طريق وصلتها بطريق يحشوش ـ غباله في العام 1925م.

في كتابه «المعيصرة وعشيرة آل عمرو الوائلية بين الماضي والحاضر»، يوثق الشاعر والأديب الدكتور عبد الحافظ شمص مرحلة مهمَّة من تاريخ هذه البلدة وتاريخ عائلة آل عمرو الوائلية التي تسكنها، ماضياً وحاضراً... للتعرّف إلى نمط حياة السكّان ومنجزاتهم ومدى تكيفهم مع محيطهم ونتائج تفاعلهم مع المتغيّرات التي طرأت على واقع حياتهم.

من خلال عدة مصادر تاريخية وأدبية وصحافية، ومن خلال عدة لقاءات ومقابلات قديمة وحديثة في أزمنة مختلفة جاوزت الأربعين مصدرًا، حاول شمص أن يقدم مقاربة لواقع البلدة بين الماضي والحاضر، بدءاً من وصول عائلة آل عمرو إليها واستقرارهم فيها وحتى اليوم.

أبرز عائلات المعيصرة عمرو، مرعب، أبي حيدر، سلوم، مرعي، شواني، وكوسا. أصل عائلة عمرو وأبناء عمهم آل قيس وأبي حيدر ومرعب، يعود إلى آل الصغير من ذريّة الأمير محمد بن هزاع بن الأمير الضّحاك بن جندل الحمداني التغلبي الوائلي من آل ربيعة بن نزار بن وائل...

عدد سكّان القرية اليوم يقارب 4 آلاف نسمة في أيامنا، معظمهم من آل عمرو العشيرة الحمدانية الوائلية التي يعود تاريخ وجودها في جبل لبنان وفي المعيصرة إلى أكثر من 300 عام، وكان الاعتقاد السائد بأن العامل الأساس في نزوح آل عمرو من أماكن تواجدهم في جبل عامل إلى المعيصرة والهرمل ومزرعة السلوقي قرب شمسطار هو العامل السياسي والاجتماعي والأمني...

يشير شمص إلى أنَّ هذه الأسرة الشيعية كانت تسكن في أواخر القرن الثامن عشر في بلدة فتقا، وعندما أصبحت هذه البلدة بأكثريتها تحت سلطة آل حبيش وآل الدحداح.. رأى هؤلاء أنَّ من الأنسب استبدال عقارات كانوا يملكونها في بقع تعرف باسم المعيصرة بعقارات بني عمرو في فتقا آنذاك.. وبالفعل، تمت المقايضة بين مشايخ آل حبيش وبني عمرو بوجوب الإبقاء على كنيسة كانوا قد بنوها في المعصيرة على اسم القديس يعقوب وسركيس، فانتقل بنو عمرو إلى محلة المعيصرة، واستصلحوا أراضيها وبنوها إلى أن أصبحت صالحة للسكن كما يشاؤون..

عمل بنو عمرو في بلدتهم الجديدة في تربية المواشي وفي زراعة الحنطة والتوت والكرمة ودود القز، وكانوا منذ قدومهم إلى القرية أسياد أرضهم، كما يقول المؤلّف، خلافاً للمبدأ الإقطاعي الذي كان سائداً في قرى الجوار. وقد بقي للبلدة طابعها الاقتصادي الخاص والمتميز عن قرى الجوار عبر تاريخها. وفي عهد المتصرفية كان أمر استتباع بلدة المعيصرة إلى جبل لبنان أو حكومة طرابلس الشام مختلفًا عليه، حيث كان يجري تحصيل الضرائب المترتّبة عليها من طرف حكومة طرابلس، ولم يحلّ هذا النزاع بين حكومتي جبل لبنان وطرابلس الشام على المعيصرة قبل أن تعلن دولة لبنان الكبير في العام 1920، التي ضمَّت المنطقتين تحت حكومة واحدة.

والكلام عن عشيرة آل عمرو، يحيله المؤلف أيضاً إلى مصادر عديدة تحدَّثت عن دورهم وسيرتهم، من بينها معجم «أعلام جبل عامل»، و«الحلقة الضائعة من تاريخ جبل عامل» لمؤلفه الأستاذ علي دواد جابر، و«علماء ثغور الإسلام»، للعلامة السيد عباس الموسوي، وكتابا القاضي الدكتور عمرو «التذّكرة أو مذكرات قاضٍ» و «صفحات من ماضي الشيعة وحاضرهم في لبنان» ومجلة «إطلالة جُبيليّة» وغيرها من مصادر .

أما الوجود الشيعي في المنطقة، فيرويه على لسان الشيخ القاضي الدكتور يوسف عمرو، أحد أبرز أعلام المنطقة، في دراسة توثيقيَّة، يقول فيها إنَّ الوجود الإسلامي الشيعي في طرابلس وبلاد جبيل والفتوح، ليس بالوجود الطارئ أو الغريب في هذه البلاد، بل هو وجود تاريخي وحضاري قديم مضى عليه أربعة عشر قرناً منذ الفتح الإسلامي لمدينة جبيل في سنة 15 هجرية، الموافق للعام 636 ميلادية. من أيام الفاطميين، إلى الصليبيين والمماليك، ومع أهل طليطلة الأندلسية، يظهر الدكتور الشيخ يوسف عمرو أنّ « التشيع في بلاد الشام لم يكن نزوة عابرة، بل كان نتيجة جهود بعض صحابة الرسول w، كأبي ذر الغفاري ومالك الأشتر، ممن شاركوا في الفتوحات الإسلامية لهذه البلادوبعض القبائل العربيّة التي استوطنت بلاد الشام بشكل عام، وأيام دولة بني عمّار في طرابلس بشكل خاص»...

ويشير المؤلف إلى أنَّ هناك العديد من الأديرة في المنطقة التي لا تزال تحتفظ بوثائق مخطوطة، وخصوصاً في كسروان وجبيل التي تحتوي معلومات قيمة تتعلق بالمسلمين الشيعة في المنطقة، وأهمها دير مار مارون في بلدة عنايا، وهي بلدة القديس شربل، ودير البنات في جبيل، وأرشيف البطريركية المارونية ودير حبوب، وكان مركزاً للبطريركية المارونية سابقاً.

في جولة في رحاب البلدة، يعاين الزائر أماكن تراثية مختلفة فيها، فيجد كنيسة مار يعقوب وسركيس التي جرى ترميمها في أواخر القرن العشرين، وجامع المعيصرة القديم من بناء حسن بك كاظم عمرو في أيام المتصرف نعوم باشا في أواخر القرن التاسع عشر، فضلًا عن العديد من الآثار الفينيقية.

تتميز الجوامع في القرية بهندسة واحدة. ويقول مختار البلدة إن الجامع الواقع على حدود البلدة بعد الزعيترة، ساعدت الدولة العثمانية الأهالي في بنائه، وكان سطحه ترابيًا قبل أن ترممه الدولة اللبنانية.

يلفت شمص إلى أنَّ المعيصرة شهدت تطورًا عمرانيًا كبيرًا مشابهًا لما شهدته قرى المنطقة، لكنَّها اختلفت عنها من ناحيتين، الأولى هي المساهمة المتدنية للسكّان الأصليين في هذا التطور، والأخرى هي المساهمة الكبيرة للوافدين التي هي الأعلى في المنطقة. وفي أواخر العام 2002، شهدت ولادة أول مجالسها البلديَّة.

في الكتاب أيضاً، يتحدَّث شمص عن تقاليد وعادات كانت سائدة عند آل عمرو وأنسبائهم من العائلات الوائلية في بلاد جبيل والفتوح قبل سنة 1960، بعضها اندثر، والبعض الآخر حافظ السكان عليه، وتوارثوه جيلاً بعد جيل. يروي في هذا المجال أنَّ العروس قبل تلك الأعوام كانت تمنع من رؤية العريس قبل الزواج، وكانت تُّزّفُّ على فرس إلى بيت الزوجية مع أحد محارمها، ولم يكن هناك مصاهرة مع أحد من خارج الشجرة الوائلية إلا مع بعض العشائر المحافظة، من مثل آل الحسيني، والمشايخ الحمادية، وآل شمص، وآل همدر.

كذلك، يقدّم الكتاب نبذة عن المعيصرة في عدد من المصادر التاريخية، مرفقة بعددٍ من الوثائق التاريخية، ويتطرَّق إلى المهن المختلفة التي زاولها أبناء القرية على امتداد سنوات، وأبرز الأحياء الموجودة فيها، فضلًا

عن أبرز أعلامها وفعالياتها، والتغيرات العمرانية والاجتماعية التي طرأت عليها، مصحوبة بصور تظهر معالمها ونشاطاتها الثقافية والاجتماعية

عن الكتاب:

وهو مؤلف من ستة فصول ومن خمسمائة وخمسة وسبعين صفحة من الورق المصقول الجميل والتجليد الفاخر. والفصل السادس منه تضمّن نشاط وأعمال بلديّة المعيصرة منذ عام 2002 ولغاية 2017 م. مع الحديث عن الجمعيات الأهليّة في البلدة مع ثلاثة ملاحق وخاتمة.

اسم الكتاب: المعيصرة وعشيرة آل عمرو الوائلية بين الماضي والحاضر ـ دراسة توثيقية تاريخية.

إعداد وتأليف: الدكتور عبد الحافظ شمص.

الناشر: بلدية المعيصرة فتوح ـ كسروان، الطبعة الأولى، 2018.

عن المؤلف:

عبد الحافظ شمص: شاعر وأديب وكاتب إذاعي متخصّص في الأدب العربي والتاريخ. عضو اتحاد الكتّاب اللبنانيين، وعضو اتحاد الأدباء والكتّاب العرب. شارك في تأسيس عدد من المؤسسات والحركات الثقافية في لبنان. كتب أكثر من 400 نصّ غنائي مسجّل في جمعية المؤلفين والملحنين، وفي إذاعة دمشق والقاهرة وإذاعة لندن.

 

 

 

الهوامش:

(1) رؤى شمس الدين: حائزة على إجازة في الترجمة من الجامعة الإسلاميّة في بيروت. تعمل في مجال الترجمة في مركز أوال awal للدراسات والتوثيق. تمَّ نقل المقال بتصرف