سنوات جميلة سنوات مجنونة

06/09/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم مستشار التحرير الدكتور عصام علي العيتاوي(1)

في إطلالات العميد محمد شيّا الكتابية عودة الى تاريخ الفكر، وما يؤسسه من قواعد في فن مزج الماضي وبناء المستقبل، فمع أيار هذا العام 2016، في كتابه الأخير «سنوات جميلة، سنوات مجنونة» (دار بيسان)، يتجلّى المُؤلِف في منحى آخر من الكتابات الثقافية السياسيّة، التي عاشها واقعاً.

عاشها بين برودة عالية في صبارتها ليلاً، وحيرة أهاليها والجوار في أشد المعاناة التي عايشوها جرّاء الغباء اللبناني ـ كما يقول ـ في التأطر لما حيك لهم من الخارج للصراع في ما بينهم، والذي سُميَّ زوراً «الصراع الديني أولاً» ومن ثم «المذهبي ثانياً ». هذه الحوادث المتسلسلة التي فـُرضت على كاهل اللبنانيين بدءاً من العام 1975 حتى 1990، بنتيجة ما زالت حتى اليوم ترسم الدهشة على أوجه كل المواطنين، وحتى صدور هذا المُؤلَّف تحت عنوان «سنوات جميلة، سنوات مجنونة».

وعلى الرّغم من هذا التناقض الكبير في المسمّى بين سنوات الجمال وسنوات الجنون، ترتسم الأفكار الأساسية له، بين ماضٍ كان يُحْسد عليه اللبناني عامة في عيشه الكريم كطوائف متحابّة هدفها لبنان، الثقافة المحبة التقدم، وسنوات مجنونة عكس ما تقدّم، فرّقت عن قصد وعملت عن عمد في التباعد، والفرز الديموغرافي، والنبذ المذهبي، الذي نتمنى ان لا نعيشه اليوم بالإطلاق، لأن المجتمع المتباغض على الهويّة أولاً، والجغرافيا ثانياً، وما يلحقهما من تداعيات في الوظيفة، والتنمية المحلية والبشرية، لا يروق لأي مثقف من أبناء وطني لبنان، وحتى المتعلمين منهم، أن يرفع رأسه به، أو يدعو اليه، أو يتمناه داخل لقاءاته الداخلية، مع من هم من جنسه ونوعه وصنفه، وهذا ما يريده العميد شيّا ويبتغيه من هذا الكتاب، وأن يعود الجميع الى حالة التعقّل والحكمة.

كما يبرز لنا هذا السِفْر أيضاً، ليلقي على كتف كل لبناني، ثقل العمل الدؤوب على نبذ جنون عظمة المذهبيات، والتوترات، والإصطفافات، والتطرّف اللعين، الواجب تحطمّها جميعا على صخور المبادئ الوطنية والقيم الإنسانية، ليحيا الإنسان كلٌ على قدر حبه ومحبته للآخر الإنسان، ولنُسمِع بعضنا بعضاً، ونعقل بعضنا بعضاً، ونعلم يقيناً أن صوت الأذان الذي ينبعث فجراً من بيوت الله، وكذلك صوت أجراس الكنائس الذي ينبعث صباحاً من بيوت الله، كلاهما واحد، يدعو وما زال الى الإيمان بالله أولاً، ونشر المحبة بين الناس ثانياً.

هذه الرمزية في العيش المشترك يرجعها الكاتب الى أن أصل المحنة اللبنانية طوال استمراريتها في جغرافية لبنان، وعقول أبنائه، ما كانت لولا تدخل دول الجوار، التي لم يسّمها حتى لا يخدش لطفاً من أثارها مؤثراً، ولا من تلقاها متأثراً، حتى يعلم من تلقّفها من الداخل وطمع في مناصب مختلفة، ان ذلك وهمٌ من السحرة شبه لهم، رغم ما كان يبذل من وعود أن أبنيتها تشيّد ومراكزها قريبة الطول، لكنها في الواقع كانت سراباً ظنّه الجاهل ماءً، وأنّه من جملة الغباء الذي ساد من تلطخت يداه بغبار آتونها، الذي سطّر الويلات على الجميع، بقصد من القلّة ومن غير عَمْدٍ من الكثرة، لكنّه بعونه تعالى كان كالضوء الذي ما لاح حتى باد.

ومن جملة القول: إن هذا السِفْر الراجح عقلاً ، جاء تعبيراً لمرور أحداث أليمة ألمّت بالوطن ثمّ ولّت، وبمنطقة ينتمي اليها المؤلّف ولادة (برغان) ومسكناً (صوفر) ونسباً جغرافياً (قضاء عاليه)، على مدار النصف الثاني من القرن الماضي (العشرين)، وبالتحديد لخمسين سنة منه، كانت ولادته في العام 1950، وما سجلته ذاكرته التي نطمح منها بعد الكثير في شتى أنواع المعرفة الحكميّة وما طبعته من آثار جمّة متعددة الألوان، على نفسيته فعاشها في الحاضر كما هي في ماضيها، مستفيداً من كل نفس تنشَّقه تحت صنوبراتها وليداً وراشداً، ومن ذلك تكونت رؤاه مع ما حصّله من علوم على مدار العلم، وما تبوأه من مراكز. سجّل بعضها بقلمه على صفحات كتابه هذا، وترك الكثير محتفظاً به لنفسه، حتى لا يؤسس لما هو غير مرغوب فيه، ولا مركون اليه، حتى تندمل الجراحات نهائياً.

وهو ان تطرّق لما فيه بعض الجديد، أو لنقل الجديد نفسه، إلا أنه أبقى واستثنى المُضرَّ منه بعيداً، لعلمه أن الزمن متحرك لما هو أفضل مع التقدّم التكنولوجي، وما عادت الذكريات تنفع في تذكّرَها، في حلاوة الحلو منها، ولا مرارة المرّ منها بشيء، وأصبحا كلاهما في خبر كان المفقود، وإن باح ببعضها لطفاً، فما المقصود منه إلا الحيطة من تجدّد قديم جديد لا سمح الله، هذا من ناحية، وإدانة كل من تسوّل له نفسه مسّ الحياة الإجتماعية بضررٍ ماديّ ومعنوي، رافضاً كل مبدأ للقتال والتقاتل مهما كانت المقدمات والأسباب الداعية إليه، ومهما كانت نتائجه من جهة أخرى.

وما يلفت في هذا السِفْر، أنه للمرة الأولى التي أصادف فيها مفهوماً جديداً نقضياً للحياة، أورده الكاتب في مقدمته، وهو الحرب (بدل الموت)، الذي اعتبر أنه الشر المطلق، إن لم يكن تحريراً للنفس من ربقة الإحتلال وباطله، من أي غاصب لحقوق الآخرين بالإطلاق، وفي أي طريقة يمارس، صابّاً جمّ غضبه على الأدوات المستعملة في غير ذلك ما بين أهل البلد الواحد أو الوطن الواحد أو العالم الذي أضحى اليوم واحداً. وهنا تتجلّى النظرة الإنسانية ، لأنه يدرك قبلاً، أنه لا غايات سامية أو خيّرة تكمن جرّاء أي تدخلات في شؤون الآخرين مهما كانت البواعث والدوافع، وهذا ما يجسّد البعد الحقيقي للمؤلف، من رفض الحروب منذ قيامها، وخاصةً في ما سمّي الحرب اللبنانية العام 1975، حتى انطفاء أثرها في المجتمع اللبناني (لا أعادها)، التي خطّط لها كما يقول الدكتور شيّا الأذكياء واستفادوا منها، وخاضها الشجعان دون إدراك منهم.

 

الهوامش:

 

(1) أستاذ في الجامعة اللبنانيّة