الحديث عن علماء الشيعة في كسروان

15/12/2015
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 

بقلم: السيّد محمد يوسف الموسويّ

 

تمهيد:

 

الحديث عن علماء الشيعة، حديث طويل وشيّق، وذو شجون. يحمل في طوايا الأخبار عنهم، وقوفاً على قمم شامخة شمّاء، بقي أثرها وعفى بفعل الزمن وجودها، إلا أن الوقوف على هذه الآثار، يعد إحياءً لتراثٍ قيّم قائم بحد ذاته، يشكل ويمثل تفاعلاً حضارياً فذاً، تبعاً للدور الذي أنيط به أمثال هؤلاء الأعلام من العلماء، وما تركوه في تشكيل من تشكيلات الوطن وأي وطن هو؟ إنّه لبنان ـ ذو التعدد الفكري والحضاري، والذي أريد طمسه بقصد أو بغير قصد. عموماً، هو الإهمال يفعل فعله، ويترك ردة الفعل، التي لا تكون طيبة ولا مستساغة ونتائج هذا تكون عقيمة الأثر.

 

إذن. لا بُدّ من فتح الباب، وهذا الباب ليس كغيره من الأبواب، إنّه باب له رنة وصدى وإيقاع.

 

مما مضى، نعلم أهمية الدور الذي إضطلع به هؤلاء العلماء كونهم يمثلون تشكيلاً منطقياً وموضوعياً. فأي دور. وما كان من ثمرات ما جهدوا لتكوينه. إنّه الدور الخاص بعلماء الشيعة الإماميّة الإثني عشريّة.

 

الثابت، تاريخياً قِدَم رسوخ التشيع في بلادنا، ولكلٍ من المؤرخين والباحثين آراؤهم. والرأي السديد في هذا الجانب، أنّ التشيع متعدد المراحل أحد أقدمها في عموم بلاد الشام، وهو التعريف القديم في صدر الإسلام لعدّة بلدان وهو تشكيل من عدّة بلدان ودول في عصرنا الحاضر، وهي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وأجزاء من جنوب تركيا كمثل نصيبين وماردين وآمد (ديار بكر) وخليج إسكندرونة، إستطاعت تركيا أن تقضمها رويداً رويداً وبشكل منهجي. ووجود التشيع في هذه البلاد راسخ في حاضرات مُهمّة منها كمثل حلب وإمارة بني حمدان وحمص وحتى دمشق(1). والرملة وطبرية ونابلس من فلسطين ونحوها من المناطق والبلاد كعمان في الأردن ناهيك عن التشيع المتجذر في بلادنا من جبل عامل ـ وحديثه ذو شجون ـ وإمارة طرابلس أيام بني عمار وكسروان وأسباب فتوحاتها.

 

الأمر الذي نُجلي البحث لسبره في هذه الحلقة ولن أطيل في سرد ما لعلماء الشيعة من أنماط وأدوار وبواعث على النهضة ولا ننسى في ديار أخرى من لبنان كمثل بعلبك الهرمل ونهضة علماء كرك نوح وآثارهم المضطردة في رفد النهضة العلميّة. لكن ماذا عن التاريخ الغابر لعلماء الشيعة في كسروان وربوع من ديارنا كانوا بشكل أو بآخر من تشكيلات علماء كسروان سواء بشكل مباشر أو مباغتة.

 

1ـ القاضي أبو الفضل أسعد بن أحمد بن أبي روح الطرابلسي

 

نوهت في ما مضى عن أدوار علماء الشيعة الإماميّة وآثارهم ولا بُدّ من فتح الباب الذي له بساط طويل وممتد سأبوح بنوع وكم الصدى الذي يحدثه هذا الدوي الذي لا بُدّ لأي طرقٍ له من دوي لهذا الصدى.

 

في مطلع الكلام، مع مرحلة صعبة من مراحل التاريخ بالنسبة للتاريخ الشيعيّ، لا بُدّ من إلتقاط حلقة من حلقات الإتصال التاريخيّ والجغرافي مع حاضرة طرابلس زمن بني عمّار، إنّه شخصيّة متألقة فذة ولامعة، عنيت به الشيخ أبي الفضل أسعد بن أحمد بن أبي روح القاضي العالم أبو الفضل الطرابلسي، رأس الشيعة بالشام، تلميذ القاضي إبن البّراج، إنّه من الشخصيات الرائدة في سعة علومه وتعددها جلس بعد إبن البرّاج لتدريس الرفض (التشيع) وصنّف التصانيف، وولاه إبن عمّار قضاء طرابلس، وله كتاب «عيون الأدلة في معرفة الله»، وكتاب «التبصرة في خلاف الشافعي للإماميّة» وكتاب «البيان في حقيقة الإنسان» وكتاب «المفتيين في الخلاف بيننا وبين مالك بن أنس» وكتاب «المناسك» وكتاب «البراهين» وأشياء غير هذه.

 

وكان عظيم الصلاة والتهجد لا ينام إلا بعض الليل جمع إبن عمّار بينه وبين مالكي فناظره في تحريم الفقاع، فانزعج وقال المالكي منه وقال له: كُلني! فقال له: ما أنا على مذهبك! يعني أنهم يجوزون أكل الكلب.

 

توفي M في حدود العشرين والخمسمائة. رواه الصفدي(2).

 

وليس القاضي ابن أبي روح الطرابلسي هو أوّل علماء شيعة في ديارنا المنوه عنها في بحثنا ومعلوم حالة شيعة طرابلس بعد أفول زمن بني عمّار وهجرتهم إلى كسروان فالقاضي هو من أوائل من وضع مداميك التشيع فيها، لكنه ليس أولهم، قطعاً.

 

2ـ وبديهي ليس مبدأ تاريخ الشيعة وعلمائهم في كسروان مع سطوع نجم الشيخ أحمد بن علي بن معقل أبو العباس الأزدي المهلبي الحمصي العز الأديب، رواه الذهبي وأفرد له باباً ومجالاً ووصفه بوافر العقل غالى في التشيع، ديّناً متزهداً، مات في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل سنة أربع وأربعين وستمائة. وكذا نقله الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي(3). يُطلعنا إبن شداد وسواه كالصفدي الأوّل في كتابه «تاريخ الملك الناصر» والثاني في الوافي عن شخصيّة لامعة ألقت ظلالها، وأشع نورها على عناوين وصحائف العلماء وأثبتت وجودها بين قوائم هؤلاء العلماء.

 

3ـ إنّه الشيخ أحمد بن الشيخ الإمام الفقيه العالم جمال الدين عبدالله بن عبد الملك بن أبي أسامة الحلبي، الشيخ الإمام العالم الفاضل، مفيد الدين توفي في مستهل جمادى الأولى بقرية حراجل من جبل لبنان، من أعمال بعلبك، ومولده في العاشر من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وستمائة، كان علامة في علم الأصول على والده وفي علم المنطق على الشيخ شمس الدين خسرو شاهي العجمي والشيخ فخر الدين بن البديع البندهي، إشتغل في ذلك في شهور ستة خمس وخمسين وعمره إذ ذاك ثماني عشرة سنة خمس وخمسين (وستمائة) M. إنتهى(4).

 

قلت: بملاحظة ومقارنة عمره القصير والصغير إستطاع بجاه علمه الواسع إكتساب السمعة العلميّة وحاز السمعة العالية. فللّه دره وعليه أجره.

 

وهو من سلسلة العلماء الأجلاء الفضلاء الكرام بيت الأضواحي ـ علماء الشيعة آنذاك. كما صرح الصفدي في كتابه «الوافي بالوفيات».

 

ووقفة متأملة فاحصة مع بيت جليل شاد صرحاً فقهياً لامعاً وترك ومضة من أثر أبى وهجها إلاّ أن يلمع وينبعث نورها على مر الزمن ويصلنا ومضة هذا الأثر لقوة نجمه إنّهم علماؤنا الأجلاء الأبرار من آل العود وهم جماعة جابت وأجادت بما جابت به من مخاض وخضم، جابت في بحر متلاطم الأمواج من العلوم وأثرت وبلغت أعلى مدارج الكمال.

 

4ـ كان منهم الفقيه الجليل شيخنا الحسين بن موسى إبن العود، كان حياً سنة 761هـ، 1359م. والمعلومات القليلة النادرة قد إنبثت في جزئياتها إلينا.

 

فقد أورد الشيخ عبدالله أفندي مصنف «رياض العلماء» أنّه شاهد في تبريز إجازة كتبت له بقلم أحد أقاربه ربما أخاه هو محمد بن موسى بن الحسين بن العود.

 

قرأ عليه كتاب السرائر لإبن إدريس الحلّي قراءة أتمها بتاريخ 16 رجب سنة 761هـ. وعلّق عليها معاصرنا الفاضل الشيخ جعفر المهاجر بالقول: أهمية هذه المعلومة، أنّها قد تكون إحدى الإشارات النادرة إلى واحد من فقهاء الشيعة في كسروان من لبنان الّذين طوّحت النكبة بذكرهم ولم نعرف عنهم إلاّ بعض الإشارات إلى بني العود مشايخ الشيعة في كسروان.

 

5 ـ 6ـ وينقل الشيخ آقا بزرك الطهراني في الحقائق الراهنة في المائة الثامنة من موسوعته «طبقات أعلام الشيعة» ص 207 أن محمد بن موسى بن الحسين بن العود كتب الإجازة بخطه لشرف الدين حسين بن نصير الدين موسى بن العود في 16 رجب سنة 761هـ.

 

7ـ ووقفة أخرى مع علم برز من وراء الحجب وسطع بنجمه وأشَّع وأنار دروب من حوله واقتبست منه أجيال من الرواد إنّه شيخ الشيعة بحسب عبارة إبن العماد الحنبلي في شذرات الذهب(5).هو الزين جعفر بن ابي الغيث البعلبكي الكاتب روى عن إبن علان وتفقه للشافعي وترفض ومات عن اثنتي وسبعين سنة. وقد روى عدد من الأعلام أنّه كان له أخ كبير بين الفقهاء من علماء جبل عامل.

 

8 ـ وليس مبدأ تاريخ الشيعة في بلادنا اللبنانيّة من نهضة العلماء، وأدوارهم مع بروز مولانا محمد بن المبارك بن مقبل بن الحسن الأدبي الرئيس جمال الدين الغسّاني الحمصي الشاعر صاحب النظم والنثر المترجم عند الشيخ شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ(6) المتوفى 748هـ. 1374م. يطلعنا على شخصيّته فيقول: كان أبوه وزيراً من أجلاد الشيعة وغلاتهم( زمن بني عمار) ولد محمد في يوم عيد الفطر سنة سبع وست مئة. وأجاز في سنة ثمان وسبعين. ولم يشأ الذهبي أن يتوسع أكثر في ترجمته. الأمر الذي كان لو فعل ألقى الضوء عليه أكثر.

 

9ـ وليس مبدأ تاريخ شيعة كسروان أو عموم جبل لبنان مع بزوغ وولادة الشيخ أحمد بن محسّن (مشددة) بن ملّي بن حسن بن عبق ابن ملي العالم الكبير البارع نجم الدين الأنصاري البعلبكي ترجمه الذهبي وكذا ابن العماد ووصفه أحدهم بالشافعي المتكلم واطراه الذهبي ونقتطف منه يقول: ولد سنة سبع عشرة ببعلبك، وسمع من البهاء عبد الرحمن وابي المجد القزويني وابن الزبيدي وابن رواحة واشتغل بدمشق و... و... و... وكان متبحراً في العلوم، كثير الفضائل، أسداً في المناظرة، فصيح العبارة، ذكياً، متيقظاً، فارهاً، حاضر الحجة، حاد القريحة. ومن جملته قوله عنه والفلسفة والرفض عن جماعة. وكانت وفاته في جمادى الأولى بقرية بخعون من جبل الضنيي (الضنية ـ بلدة بخعون إلى تاريخنا). وبلغني عنه عظائم يختم الذهبي(7).

 

وكانت وفاته سنة تسع وتسعين وستمائة(رحمه الله تعالى(8)، ووقفة أخرى فأحصته مع علم من أوتاد العلماء وركن كبير له باعه وصيته العلمي وبديهي ليس مبتدأ نهضة العلماء وغني أنّه من ضمن سلسلة علمية من أسرة كريمة، وكبيرة في تعدد أشخاصها التي برزت وآلت على نفسها النهوض ووضع حجر أساس في مسبك من مسابك صناعة القوام الكبير.

 

10ـ هو الشيخ الحسن ابن العشرة الكسرواني. فمن هو هذا الفقيه العالم الكبير هو الحسن بن أحمد بن يوسف الملقب بإبن العشرة الكسرواني وقول آخر في نسبه مع زيادة حلقة أخرى على النحو التالي: الحسن بن عليّ بن أحمد بن يوسف عز الدين أبو المكارم وابو علي الكسرواني ثمّ الكركي المعروف بإبن العشرة

 

كان من أجلة علماء الإماميّة فقيهاً متكلماً، ذا زهد وتأله. ومشايخه جماعة لا يحصرون كثرة وحسبك منهم:

 

السيد حسن بن نجم الدين ابن الأعرج الحسينيّ الأطراوي العاملي.

 

شمس الدين محمد بن عبد العلي بن نجدة الكركي المتوفى سنة 808هـ.

 

السيد شمس الدين محمد بن محمد بن عبدالله العريضي

 

ضياء الدين أبو القاسم علي بن الشهيد الأوّل محمد بن مكي العاملي

 

نظام الدين علي بن عبد الحميد النيلي(9)

 

وطلابه جماعة من الأركان، إنتشروا في الربوع والأصقاع وكانت لهم أدوارهم في صناعة رجالٍ زرعوا في النّاس شتول الخير.

 

وكان منهم:

 

محمد بن أحمد بن محمد الصهيوني «نسبة إلى موضع جبل في فلسطين»

 

شمس الدين محمد بن محمد بن داوود المعروف بإبن المؤذن الجزينيّ

 

محمد بن إسكاف الكركي

 

محمود العاملي الشهير بإبن أمير الحاج

 

زين الدين علي بن هلال الجزائريّ ثم الكركي

 

شمس الدين محمد بن علي الجبعي(10)

 

... عالم شمسطار أحمد بن محمد السميطاري والصواب هو (الشمسطاري)

 

وغير خفي أنّه إنتماء لبلدة شمسطار.

 

وقرأ عليه ابو القاسم علي ابن طيّ ـ وهو في طبعته «كتاب القواعد» و «الفوائد في الفقه» للشهيد الأوّل، وقرأ عليه بعضهم «شرح الفصول النصيريّة» للمقداد بن عبدالله السيوري الحلّي، وخوطب من أرباب التراجم بعبارات الإشادة والثناء المنبثة عن سعيد سعده وبلوغ مجده بالقول: وكان من العلماء العقلاء (وأولاد المشائخ الأجلاء)، حجّ بيت الله كثيراً نحواً من أربعين حجة وكان له على النّاس مبّار ومنافع(11).

 

لم يشأ الحظ ـ مع التوسع في ترجمته ـ إلى الوقوف على مكمن الصواب في تراجم آبائه، لكن عبارة خاطفة، نلتقطها من دلالة العبارة آنفي الذكر تقول في وصفه: من أولاد المشائخ الأجلاء.. إنّما هي دلالة وإشارة مُهمّة في تاريخ هذا البيت، لو يسع الحظ في إقتفاء آثاره، لعلنا نفعل في قادم الأيام... ونوّفق إلى السعي في تدليل معناه.

 

دوّن عنه تلميذه الشيخ محمد بن علي الجباعي مجموعة خطيّة من نسخة هي بخط الشهيد وزاد عليه زيادات واشتهر بمجموعة الشهيد..(12).

 

وفاته: إنصدع العلم بوفاته وخسر هذا الطود الشامخ، واندك أهل العلم بغيابه فقد نعاه الزمن وجاء خبر وفاته ووافته المنية ملبياً ومجيباً داعي الله في بلدة كرك نوح بعد أن حفر لنفسه قبراً.

 

وكانت وفاته (رحمه الله ورضوانه عليه) في قريب سنة إثنين وستين وثمانمائة.