مصر ...ومقام السيدة عائشة رضوان الله عليها

20/1/2017
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الدكتور أحمد محمد قيس

إن التاريخ الديني لشعب مصر تاريخ حافل بالأمجاد والمواقف المميزة منذ عصور الفراعنة، إذ أنهم عرفوا عقيدة التوحيد مُبّكراً بالقياس الى شعوب المنطقة.

ولما جاءهم الإسلام بعدالته ورحمته استقبلوه بالترحيب، ولم يذكر المؤرخون للمصريين أية مقاومة للإسلام.

كما أن مصر وشعبها الذي اعتنق الإسلام وأحبّه، لم ينغمس في ما انغمس فيه الآخرون من فتن وما شاكل، بل بقي بعيداً الى حد ما، ولقد آثر المصريون ذلك عن وعي وإدراك، وحتى لا تتلطخ أيديهم بدماء إخوانهم المسلمين.

وأثناء الفتن المتتالية التي كانت تحيق ببلاد الحجاز والعراق، حيث ضاقت الأرض بأهل البيت النبوي الشريف من خلال قرارات الحكام في دولتي بني أمية وبني العباس، التي كانت تهدف الى تفريق ذريّة النبيّ w في بلاد المسلمين وإبعادهم عن تلكم المناطق الحساسة بالنسبة لهؤلاء الحكام، استقبلت مصر منهم العدد الكبير في ترحيب وإجلال ومودة، بينما تشتت الباقون من هذه الذريّة المباركة في أرجاء المعمورة كاليمن والشام وشمال افريقيا وبلاد فارس.

وعاش مهاجرو أهل البيت في مصر بأمن وأمان، إذ أن جموع الشعب المصري آنذاك ـ وحتى اليوم ـ كانوا يأتون إليهم للتشرّف بزيارة العترة النبوية، وعلى أمل نيل البركة والدعاء وقضاء الحوائج.

وكان كل من مات منهم رضوان الله عليهم، استقبله تراب مصر بمثل ما استقبله به أهلها وهم أحياء، حيث لم ينقطعوا عن زيارة قبورهم ومساجدهم بعد وفاتهم إجلالاً وتكريماً لهم.

ولقد بلغ من عناية المصريين بهم أنهم أقاموا المشاهد على قبورهم، وبنوا حولها مساجد تحمل أسماءهم الشريفة، من أجل الصلاة فيها والتبرّك بأصحابها.

ومن هذه الدوحة النبوية، السيدة عائشة (رضوان الله عليها).

من هي السيدة عائشة؟

قد يبدو هذا السؤال مستهجناً وغريباً لدى بعض المسلمين، إلا أنه طبيعي لدى معظم المسلمين في العالمين العربي والإسلامي ذلك لأنهم لم يتشرفوا بالتعرف الى هذه الزهرة النبوية الشريفة. وللإجابة على هذا السؤال، يكفي أن نعلم بأن للمؤرخين والعلماء رأيين حول هذا الأمر لا ثالث لهما. وهذان الرأيان لا يختلفان في جوهر المسألة، إلا أن الدّقة العلمية التاريخية اقتضت هذا التفاوت بالشكل دون المضمون كما سنعرف ذلك في سياق هذه المقالة.

فأصحاب الرأي الأول يذهبون الى القول: بأن السيدة عائشة هي ابنة الإمام جعفر بن محمد الصادق وأخت الإمام موسى بن جعفر الكاظم رضوان الله عليهم.

أما أصحاب الرأي الثاني فإنهم يذهبون الى القول: بأن السيدة عائشة هي ابنة الإمام موسى بن جعفر الكاظم وحفيدة الإمام جعفر بن محمد الصادق رضوان الله عليهم.

ولمعرفة أي من الرأيين أقرب الى الصواب والدّقة فلا بُدَّ من استعراض أدلتهم حول ذلك ، وهي على الشكل التالي:

أقوال وأدلة أصحاب الرأي الأول :

ينقل الدكتور صلاح عدس في كتابه ( آل بيت النبيّ w (صفحة 121) عن الإمام الشعراني في طبقاته أن السيدة عائشة كانت من أجلّ العابدات الزاهدات، وهي ابنة الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وأخوها الإمام موسى الكاظم رضي الله عنه، وقد توفيت سنة 145 هـ قبل وفاة أبيها بثلاثة أعوام، وكانت وفاته مسموماً مثلما فعل الأمويون والعباسيون بأبيه الباقر وجده زين العابدين رضي الله عنهم، وقد عاشت السيدة عائشة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، أي أنها شهدت سقوط الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية.

وهذا ما أكدته أيضاً الدكتورة سعاد ماهر محمد في موسوعتها الضخمة ( مساجد مصر وأولياؤها الصالحون ) صفحة 107، بالقول: السيدة عائشة هي بنت جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجوههم، وهي أخت الإمام موسى الكاظم رضي الله عنهما.

وأضافت بنقلها عن كتاب ( مشاهد الصفا في المدفونين بمصر من آل المصطفى ): أنّها كانت من العابدات القانتات المجاهدات.

وتقول أيضاً: يجمع المؤرخون ممن تناولوا سيرة أهل البيت بالبحث والدراسة، على أن السيدة عائشة رضوان الله تعالى عليها، شرّفت مصر وتوفيت بها سنة 145 هـ. كما تنقل عن كتاب (تحفة الأحباب) لمؤلفه السخاوي صفحة 119: أنه رأى قبر السيدة عائشة وقد ثُبّت عليه لوح رخامي مكتوب عليه: (هذا قبر السيدة الشريفة عائشة من أولاد جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجوههم ، توفيت سنة خمسة وأربعين ومائة من الهجرة ).

ونقل الشيخ رمضان أحمد عبد ربّه عصفور في كتابه (القول الأنور في حياة السيدة عائشة بنت جعفر ) صفحة 49، عن الإمام الشعراني في كتبه ( مختصر تذكرة القرطبي) و(الطبقات الكبرى) و (لطائف المنن والأخلاق ) نسب السيدة عائشة: هي السيدة عائشة بنت جعفر الصادق رضي الله عنهما.

ويضيف الشيخ رمضان أنَّ صحة هذا النسب الذي قاله الشعراني وافقه عليه كل من: العدوي في (مشارق الأنوار) والشبلنجي في (نور الأبصار) والعلاّمة السخاوي في (تحفة الأحباب وبغية الطلاب) والشيخ محمد زكي ابراهيم في كتابه ( مراقد أهل البيت بالقاهرة) ومحمد طاهر خراشي العدوي في كتابه ( القول الجلي). ونقل الشيخ رمضان هذا المعنى عن شمس الدين محمد بن الزيات في (الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة ). وذكر أحمد زكي باشا بعد تحقيقه ودراسته للمشهد وفي جمع من الناس: ( أن المشهد القائم في جنوب القاهرة باسم السيدة عائشة النبوية هو حقيقة متشرّف بضم جثمانها الطاهر، وفيه مشرق أنوارها ومهبط البركات بسببها).

وقد كتب على باب القبة ما نصّه:

لعائشة نور مضيء وبهجة

وقبّتها فيها الدعاء يجاب

وكلام أحمد زكي باشا نقله العديد العديد مما لا يسع المجال لذكرهم في هذه العُجالة. والمفارقة بالأمر أن أحمد زكي باشا كان مشهوراً بتشكيكه وقوله بعدم صحة العديد من المشاهد الأخرى المنسوبة لآل البيت رضوان الله عليهم.

إنّ كل ما تقدم ذكره من أدلة هي بحسب المصادر الإسلامية السُنيّة مع اختلاف مشاربها الفكرية، أما ما نقلته المصادر الإسلامية الإمامية فهو يعتبر قليلاً بالنسبة الى غيرهم، ولكنه يتوافق بنسبة كبيرة جداً مع ما تمّ عرضه وذكره ، فعلى سبيل المثال: ذكر العلاّمة محمد حسين الأعلمي الحائري في كتابه ( تراجم أعلام النساء ) الجزء 2 صفحة 266 ما نصّه: عائشة النبوية المتوفية سنة 145 هـ والمدفونة بمصر بباب القرافة.

وأيضاً، الخطيب الشيخ محمد رضا الحكيمي في كتابه (أعيان النساء عبر العصور المختلفة) صفحة 321، حيث قال:( عائشة بنت جعفر الصادق، من ربّات العبادة والصلاح... وتوفيت سنة 145 هـ ودفنت بقرافة مصر). وذكر أنه اعتمد في ذلك على كتاب ( لواقح الأنوار في طبقات الأخيار ) للشعراني، وكذلك عن ( نور الأبصار في مناقب آل البيت المختار ) للشبلنجي، وعن (أعلام النساء).

وأشار الى هذا المعنى أيضاً ، الباحث العراقي جعفر خورشيد حيث قال: السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق وحفيده الإمام الباقر، شقيقها إسحاق المؤتمن زوج السيدة نفيسة وأيضاً الإمام الكاظم، وأمها حميدة البربرية، وكنيتها أم فروة، وسميّت بهذا الإسم كنية لها لأن العرب من عاداتهم أن يتسمّوا بأسماء أجدادهم، واسم جدة السيدة عائشة كان أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. وأضاف بأن هذا الكلام مؤكد في كتاب ( آل بيت النبي في مصر ) لمؤلفه أحمد أبو كف.

وإسم ( أم فروة ) هذا، قد تمَّ ذكره في أُمهات المصادر التاريخية الإسلامية الإمامية مثال ذلك، ما ذكره أبو الحسن الإربلي في ( كشف الغمة في معرفة الأئمة ) الجزء 2 صفحة 373، والشيخ المفيد في ( الإرشاد ) صفحة 284، والطبرسي في ( أعلام الورى بأعلام الهدى ) صفحة 294، والعلاّمة حسن لواساني في ( الدروس البهيّة في مجمل أحوال الرسول والعترة النبوية ) صفحة 97، والشيخ أحمد العامري الناصري في ( المراقد الإسلامية في العالم ) صفحة 240، حيث ذكرها بأنها السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق رضوان الله عليهم، وغيرهم الكثير.

وعليه، فإن هذا كان رأي الفريق الأول الذي يقول بأن السيدة عائشة رضوان الله عليها هي ابنة الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه، من كلا الفريقين السُنّة والإمامية.

بقي أن نتعرف الى رأي الفريق الثاني القائل بأن السيدة عائشة هي حفيدة الإمام الصادق وابنة الإمام الكاظم رضي الله عنهم أجمعين .

أقوال وأدلة أصحاب الرأي الثاني:

يعتمد أصحاب هذا الرأي بشكل أساس على عدم ورود إسم عائشة ضمن أسماء أبناء الإمام الصادق وورودها ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فقد تمَّ إيراد إسم ( أم فروة ) ضمن أسماء بنات الإمام الصادق وأيضاً ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم (رضوان الله عليهم أجمعين). ومن الأمثلة على ذلك:

1ـ الشيخ المفيد في ( الإرشاد ) إذ أورد إسم ( أم فروة) وعدّها من أولاد الإمام الصادق صفحة 284 ، كما أورد إسم السيدة ( عائشة ) وعدّها من ضمن أولاد الإمام الكاظم صفحة 303.

2ـ العلاّمة الطبرسي في ( أعلام الورى بأعلام الهدى ) حيث عَدّ ( أم فروة ) من أولاد الإمام الصادق صفحة 294، وذكر السيدة (عائشة) وعدّها ضمن بنات الإمام الكاظم (صفحة 312 ).

3ـ العلامة السيد حسن لواساني في ( الدروس البهية ) حيث ذكر إسم ( أم فروة ) ضمن أبناء الإمام الصادق ( ص 97) ، وإسم السيدة ( العائشة ) ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم، كما أنه أورد اسم ( أم فروة ) وعدّها من بنات الإمام الكاظم أيضاً ( ص 107 ).

وغيرهم الكثير كالسيد هاشم معروف الحسني في ( سيرة الأئمة ) ، ومعظم من استقوا منهم أو من غيرهم حول هذا الأمر .

وبناءً على ما تقدم، ما هو الرأي الأرجح والأقرب للصواب والدّقة العلمية؟

في البداية وقبل الجواب على هذا السؤال الشكلي لجهة الإعتبار الشرعي، والعلمي لجهة الإعتبار التاريخي فإنه يمكننا القول وبكل إطمئنان أن السيدة عائشة رضوان الله عليها ومقامها الشامخ في مصر هي ابنة الإمام الصادق وحفيدة الإمام الباقر رضوان الله عليهم أجمعين، وللأسباب التالية:

1ـ عدم الدقة في ذكر أسماء بنات الإمام الصادق وتحديداً إسم السيدة عائشة عند كل من الفريقين، فمن السُنّة من ذكر ( أم فروة ) ولم يأت على ذكر ( عائشة ) حاله بذلك كحال أصحاب الرأي الثاني، ومنهم على سبيل المثال : أبو عبد الله مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري في كتابه (نسب قريش ).

2ـ إحتمال كبير بأن تكون السيدة (عائشة) هي ( أم فروة) على سبيل الكنية التي اشتهرت بها، وخاصة أن جدّتها تكنى (بأم فروة ) أيضاً.

3ـ ما وجده الأثريون على قبرها من ذكر اسمها ونسبها وتاريخ وفاتها في العام 145 هـ، ومن هؤلاء أحمد زكي باشا المعروف بتشدده في التحقيق حول مسألة المشاهد والمقامات بشكل عام.

4ـ الفارق الزمني بين وفاتها وولادة الإمام الكاظم، فقد ذكر المؤرخون بالإجماع ولادة الإمام الكاظم في العام 128 هـ في حين أنهم أجمعوا أيضاً على تاريخ وفاتها في العام 145 هـ، أي أن عمر الإمام الكاظم عند وفاتها لا يتعدى 17 سنة وهذا ما لا يستقيم مع ما نقل عن ترجمتها بأنها كانت من العابدات القانتات، أي أنها كانت إمرأة ناضجة وعاقلة في الوقت الذي كان فيه الإمام الكاظم شاباً، فمتى تزوج وأنجب إمرأة اشتهرت بالعبادة والتُقى في حين أن أباها شاب؟؟

5ـ ورود إسم (عائشة) و ( أم فروة ) ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم يؤكد أمرين: الأول: أنهن بنات الإمام الكاظم. والثاني: أنهن حملن أسماء عماتهن جرياً على عادة العرب، وبالتالي لا تعارض بينهن.

6ـ بغض النظر عن كل ما تقدم فهي من الشجرة الطيبة الطاهرة.

لأجل كل ذلك، وبعد الثبوت لا مورد للإثبات كما يقال، أي لا حاجة للإطالة بعد التأكد من صحة نسبها الشريف على كلا الرأيين.

فالسلام عليك يا سيدتي ويا مولاتي يا عائشة بنت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين.

وهنيئاً لمن تشرّف بزيارة مشهدك ومقامك، وهنيئاً لأهل مصر لوجودك الكريم والمبارك بينهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


لوحة داخل المقام تشرح سيرة السيدة عائشة (رضوان الله عليها)

مقام السيدة عائشة (رضوان الله عليها) ويظهر الى جانبه صندوق النذورات

لوحة على مدخل المقام من الداخل

مدخل المسجد والمقام

الدكتور أحمد قيس الى جانب الضريح الشريف