بلدة رأس أسطا بين ماضيها وحاضرها

20/1/2017
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الحلقة الأولى

بقلم الأستاذ يوسف علي حيدر أحمد

توثيق التاريخ وأحداثه، أمر في غاية الأهميّة، لأنّه مرآة الأمم يعكس ماضيها، ويُترجم حاضرها، ونستلهم من خلاله مستقبلها (1). (يوسف خالد مرزوق)

لماذا الغموض والضياع في تاريخ لبنان؟

إنّي لأعجب حقاً، كيف أنّ الغموض قد اكتنف تاريخ لبنان في مُختلف أزمنته، وإن بنسب واشكال مختلفة، ففي الغوص في جذور أعماق التاريخ اللبنانيّ، لا سيما في العصر الفينيقي منه. نجد أن التفكك الإجتماعيّ، وفقدان الحسِّ الوطني، وتفشي العقليّة المركنتيليّة (التجاريّة) كانت كلها مفاهيم وعوامل ساهمت في تهميش وتفكيك لحمة النسيج اللبنانيّ الإجتماعيّ والوطنيّ، وإضعاف مصداقية تاريخه العامّة.

وللكشف عن بعض صفات هذا العصر الفينيقي، يُسلِّط المؤرّخ جورج رولنسون الضوء على سيرة ومسيرة هذا العصر «ما تأسس مرّة واحدة حلفٌ من الولايات الفينيقيّة كلّها، حتى ولا حلف مؤقت. وما كان يرد الى الولاية المهدّدة أي نجدةٍ من الولايات الأخرى شقيقاتها. الإنطواء، وتضارب المصالح الخاصة، وضعف الحسّ القومي كانت كلها تحول دون توحيد الكلمة، والعمل في أيام الخطرِ والشدّة. فكانت كل ولاية تسقط وحدها، فتتبعها الولايات الأُخر واحدة واحدة (2)». وبتعاقب الأزمنة المختلفة، تلوَّنت عوامل التهميش والغموض في التاريخ اللبنانيّ، مواكبة لتطور الوعي والزمن والمصالح، وبسبب تلاقح حضارة هذا البلد وحضارات البلدان التي غزته واحتلته، فأثَّرت وتأثَّرت بتقاليد وعادات وثقافة شعبه، وخلقت على خلفية هذا التداخل، مزيجاً حضارياً بين الغازي والشعب اللبنانيّ.

ومن البداهة بمكان القول، بأنّ ثُمّة اعتبارات ومبررات وخلفيات، ساعدت على خلق هذا الغموض، الذي تصدّى لتفسيره كوكبة من المؤرخين اللبنانيين، الباحثين عن الحقيقة للوصول إلى أسباب هذا التقصير والإهمال والضياع في كتابة تاريخ لبنان.

من هؤلاء المؤرخين الدكتور محمد علي مكي في حديثه عن حقبة لبنان التاريخيّة الممتدّة من الفتح الإسلاميّ إلى الفتح العثمانيّ (635 م ـ 1516 م) والذي ردَّ فيه هذا التقصير والغموض إلى صعوبة الكتابة والتفتيش عن أخبار المناطق اللبنانيّة المبثوثة في بطون الأصول التاريخيّة، وشدَّد في الوقت عينه مستغرباً بأن تلك الصعوبة لا تُبرِّر هذا الإهمال الذي يؤدي إلى منع توضيح الترابط التاريخي بين حاضر لبنان وماضيه القريب، لأنّ في ذلك قفزاً فوق حقبة زمنية ضخمة زمنها تسعة قرون، وفي ذلك مسخاً للتدرج التاريخي، ولحقيقة التكوين الإجتماعيّ والدينيّ للشعب اللبناني (3).

ويتماهى هذا الموقف ويتقاطع مع رأي الدكتور كمال الصليبي في عين تلك الحقبة التاريخيّة التي تحدّث عنها الدكتور مكي. ويُعلّل الدكتور الصليبي هذا الغموض في كتابة هذا التاريخ، وبُعده أحياناً عن الواقع، كون هذه الحقبة من تاريخ لبنان كانت من أكثر الفترات غموضاً وذلك بسبب ضآلة المعلومات الثابتة المتوافرة لدينا عنها، ممّا جعل أصحاب الخيال ينسجون حولها من القصص ما لا يمتَّ إلى الواقع بصلة (4).

كما يؤكد المؤرخ محمد جابر آل صفا على ما تقدَّم ويُرجع تعثر كتابة تاريخ لبنان عامة، وجبل عامل خاصة، إلى فقدان أدوات كتابة التاريخ الضرورية من وثائق ومستندات بسبب كثرة الحروب والإهمال فيقول:«إنَّ البحث في تاريخ جبل عامل بوجه خاص عسير جداً، وعمل شاق، يكتنفه الغموض. ويحيط به الإبهام لقلة المستندات. وضياع الوثائق التي يرجع إليها الباحث لتحليل الحوادث واستنباط الأدلة والبراهين ومعرفة أوضاع البلاد وما طرأ عليها من صعود وهبوط» (5).

أمّا شيخ المؤرخين الدكتور عادل إسماعيل وبعد تمحيصه وتدقيقه في تاريخ لبنان بالوثائق الأجنبيّة واللبنانيّة من خلال موسوعته التاريخيّة اللبنانيّة القيّمة «الوثائق الدبلوماسيّة والقنصليّة»، فلم تَغِبْ عن باله وعن رؤيته الإكاديميّة، إضافة إلى أسباب الإهمال والتقصير، التلميح إلى أسباب دينيّة وسياسيّة نخرت في جسد لبنان وجعلت منه بيتاً بمنازل كثيرة (6). والتي كانت حجر عثرة على طريق كتابة تاريخ وطني موحَّد لم يُجمع عليه اللبنانيون لأكثر من سبب وسبب.

يقول هذا المؤرخ الأكاديمي! «الكتابة في تاريخ لبنان تتطلب بالإضافة إلى معرفة كاملة بدقائق أحداثه الكثير من التبصُّر والحيطة، وهي ما تزال اليوم (1997) كما كانت في السابق من أصعب المهمات على الرغم من أن الأوضاع العامّة في البلاد عادت إلى حالتها الطبيعيّة» (7).

وما لم يصرّح به الدكتور عادل اسماعيل بأسلوبه الدبلوماسي صرّح عنه المؤرخ اللبنانيّ سعدون حماده عندما قال عن عدم المصداقيّة وإخفاء الحقيقة في كتابه عن «تاريخ لبنان» بدا لبنان خصوصاً في الفترة المعاصرة وكأنّه بلد بلا تاريخ مُوثَق ومُوحَّد ومُعتمد. واللبنانيون مٌنقسمون حول واقعيته ومصداقيته وشموله. يتنازعون حياله وفي خضم أحداثه خصائص الأُسس والهوية والكيان. إنّ عدداً من المستحيل حصره. من أهم الأحداث المفصليّة وربما أعمقها أثراً وأوضحها دلالة قد حُذفت من التاريخ الكلاسيكي اللبنانيّ عن جهل وتقصير حيناً، وعن عمد وتجاهل في أكثر الأحيان (8).

وطبيعي أن صورة هذا الواقع التاريخي اللبنانيّ القاتم والمأزوم سينعكس سلباً وغموضاً ونقصاً على مرآة هذا الوطن الجميل بطبيعته ومناخه في كتابة تاريخه. وهذا ما سينسحب قطعاً على تاريخيّة مدنه وقراه وبلداته بجغرافيتها وديمغرافيتها ومهما يكن من أمر، فلا بُدَّ من إضاءة شمعة بدل لعنة الظلام، ولا بُدَّ من إظهار وجه حقيقة تاريخ المدن والبلدات اللبنانيّة أو مقاربتها قدر المستطاع، وأضعف الإيمان الإعتماد على الذاكرة الشعبيّة بأخبارها المعنعنة إذا لم تسعفنا الوثائق والمستندات. وهذا ما سنعمل على ابرازه في حديثنا عن بلدة رأس أسطا هذه العروس المتواضعة والمتربعة على عرش جمال الطبيعة الخضراء في بلاد جبيل كواسطة عقد ما بين ساحل جبيل ببحره اللازوردي وتراثه التاريخي الخالد. وبين جبلها بنسيمه العليل والمطل برأسه الشامخ على امتداد الساحل الجميل.

بلدة رأس أسطا: موقعها حدودها ديموغرافيتها:

أصل كلمة قسطا Qushta أرامي وسرياني ويعني العدل والمساواة. وقد تكون من كلمة Qushta ومعناها القش والقوس، وقد يكون من َQista وهي كلمة اغريقيّة ومعناها ابريق وكوز(9).

تقع في محافظة جبل لبنان قضاء جبيل، ترتفع عن سطح البحر 900م، تبعد عن بيروت 55 كلم وعن مركز المحافظة 59 كلم وعن مركز القضاء 20 كلم (10).

إن جميع أبناء البلدة من المسلمين الشيعة بلغ تعدادهم 2100 نسمة عام 2000 وجميع أبناء البلدة من آل حيدر أحمد. ولقد بلغ عدد منازل البلدة عام 1932م. 28 منزلاً وفي العام 2005م. وصل إلى 40 منزلاً. أمّا اليوم فيتجاوز 70 منزلاً (11).

مساحتها 429 هكتاراً.

احياؤها: الحلزون، كوكدان، زردق، زُمّر، كِلش، مَدْقَر، قَيدُود.

آثارها: مقام الخضر t، كنيسة مار جرجس الأثريّة في حي كوكدان. مغارة قيدود جنوبي البلدة. وكنيسة مار تقلا غربي البلدة التي إندثرت وكان بقربها شجرة سنديان ضخمة ومُعَمِّرة إقتلعتها العاصفة من جذورها منذ بضعة عقود.

حدودها: يحدها شرقاً عنايا وحجولا.

غرباً: البريج وجنجل.

شمالاً: بشتليدا وفدار.

جنوباً: سبرين وطورزيا وكفربعال.

نصل إليها عن طريق جبيل ـ حبوب ـ جنجل والبريج أو عن طريق جبيل ـ بلاط ـ بشلِّي ـ كفربعال. كوع المسبك، أو عن طريق جبيل ـ عمشيت ـ لحفد ـ مشمش ـ عنّايا وعن طريق نهر ابراهيم ـ الصوانة ـ علمات ـ طورزيا كفربعال (12).

 

 

 

الهوامش:

(1) منصور خلف عبدالله الهاجري، «صفحات كويتية بين الماضي والحاضر» إصدار جريدة الإنباء الكويتية، طبعة أولى. 2010م. الكويت، صفحة 5.

(2) أمين الريحاني، «قلب لبنان»، دار الجيل، بيروت ـ طبعة تاسعة لا.ت. صفحة 516.

(3) محمد علي مكي، «لبنان من الفتح العربي إلى الفتح الإسلاميّ (635 ـ 1615م.)». دار النهار للنشر ـ بيروت ـ الطبعة الرابعة 1991م. صفحة 7.

(4) كمال الصليبي، «منطلق تاريخ لبنان» مؤسسة نوفل ـ بيروت، طبعة ثانية 1992م. صفحة 15.

(5) محمد جابر آل صفا، «تاريخ جبل عامل» دار متن اللغة ـ بيروت، لا. ت. صفحة 15.

(6) هذه الجملة بيت بمنازل كثيرة هي نفسها عنوان كتاب المؤرخ كمال الصليبي يشرح فيه عن النظريات المُتعارضة للبنانيين حول تاريخ بلادهم، والتي كانت سبباً رئيسياً لإنقساماتهم ونزاعاتهم... هذا البيت الوطن المدعو «لبنان بمنازله الكثيرة، أي بتعدُّد جماعاته الطائفيّة والمذهبيّة بدا كأنّه بيتٌ يرقُدُ فوق فوهة بركان». مقالة للصحفيّة رفيف صيداوي بعنوان «بيتنا اللبنانيّ في المهجور» جريدة «النهار»السبت 10 أيار 2008م. عدد 23344 في زاوية « بيت بمنازل كثيرة» ص 20.

(7) عادل اسماعيل، «ازمة الفكر اللبناني» في كتابه «تاريخ لبنان» وفي توثيقه، دار النشر للسياسة والتاريخ ـ بيروت ـ طبعة أولى 1997م.، صفحة 26 و76 و 88 و 89 و 90 ومن صفحة 111 لغاية صفحة 128 ضمناً.

(8) سعدون حماده، الثورة الشيعيّة في لبنان (1685 ـ 1710) دار النهار للنشر ـ بيروت، طبعة أولى 2012م. صفحة 11 و 12.

(9) أنيس فريحة، «معجم أسماء المدن والقرى اللبنانيّة» مكتبة لبنان ـ بيروت، طبعة ثانية 1972، صفحة 77.

(10) نخله مرعب، «بلاد جبيل في القرن العشرين ـ مفكرون ومبدعون رسموا تاريخها»، صادر عن مجلة «النديم» جبيل ـ طبعة أولى 2000، صفحة 276.

(11) علي راغب حيدر أحمد، «المسلمون الشيعة في كسروان وجبيل»، دار الهادي ـ بيروت، طبعة أولى 2007م. صفحة 178.

(12) «بلاد جبيل أرضاً وشعباً» إصدار ومنشورات الحركة الانمائيّة لبلاد جبيل، طبعة أولى 1991م. صفحة 400.

 


مسجد الخضرt(ع)