من ذكريات الأستاذ حيدر علي حيدر

16/2/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

ردحٌ من الزمن إمتدّ إلى ما يقارب الأربعين ربيعاً، كنت خلالها موظفاً في المحاكم الشرعيّة الجعفريّة في لبنان. توزعت هذه السنوات المديدة على محطات عديدة، من أهم هذه المحطات ست سنوات ما بين 1986 ـ 1992م. كنت فيها رئيساً لقلم المحكمة الشرعيّة الجعفريّة في منطقة جبيل إنسلخت هذه الأيام من عُمري، ولكن لن تنتزع من خاطري لأنّها كانت أحلى أيامي وأغناها لعمري وفكري، وأكثرها إستقراراً واطمئناناً لنفسي إنسانياً وإجتماعياً ودينياً لأنّها يسرت لي أن أتعرّف وأتواصل مع كوكبة من العلماء الأجلاء ومن المواطنين الطيبين المؤمنين الصالحين الخيرين الأتقياء ومن الأعيان البارزين المستنيرين وفي مقدمة هؤلاء جميعهم سماحة القاضي الجليل الشيخ الدكتور يوسف محمد عمرو الذي كان لي شرف العمل معه في فترة من الفترات. وأن أواكبه وأتحرك معه في معظم الأوقات وفي مختلف المجالات وشتى النشاطات. وكان له نشاطات مكثفة، ثقافيّة واجتماعيّة ودينيّة وتنمويّة في لبنان عامّة وفي بلاد جبيل وكسروان خاصّة. [ لم يكن في هذه المنطقة مسعى خير إلا وكان له خطوة قدم وقد تكون الخطوة الأولى، ولم يقم مشروع من العمران أو في التنمية إلاّ وله لمسة مباركة، وأكثر المشاريع كانت له المبادرة في الإعداد لها واقتراح والتحضير والاعداد، ولم يحصل إجتماع إلاّ وله حضور فاعل فيه ولم يحدث لقاء إلاّ وكان محوره ومحركه. كان يوزِّع وقت نهاره قبل الظهر مداوماً في مركز عمله على رأس المحكمة الشرعيّة الجعفريّة يصرف حاجات النّاس فيها ويعالج قضاياهم ويجري المصالحات أكثر الأحيان بين المتخاصمين منهم إذا تمكن من ذلك. لينصرف في ما بعد الظهر للمناسبات العامّة وللنشاطات الإجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة، ولتأمين بعض الخدمات التي تحتاجها منطقته وأبناؤها بلاد جبيل وكسروان فكان يكثر لقاءاته مع المعنيين وتوفير هذه الخدمات. فبمسعاه ومتابعته أَمنَّ لهذه المنطقة وخاصة لأبناء الطائفة الشيعيّة بناء الكثير من الحسينيات والمساجد والبنى التحتيّة وكان لا يوفّر فُرصةً يمكنه الإفادة منها إلاّ ويشغلها لصالح أبناء منطقته وطائفته.

هذا العمل الدؤوب والنشاطات المكثفة لم تصرفه عن المطالعة والكتابة فكان يستغل معظم ليله في هذا المجال. فكان له أكثر من مؤلف بالإضافة إلى مشاركاته المستمرة في الكثير من الحلقات الثقافيّة والدينيّة وإطلالاته المتكررة على المنابر في أكثر المناسبات الدينيّة والإجتماعيّة قد إنبثق عن هذه النشاطات وهذه الإطلالات بإطلاق مجلة الإطلالة التي يطلُّ علينا من خلالها بأكثر من مقال وهو المشرف عليها والمهتمُّ بكل تفاصيلها.

هذا العالم الجليل كان لي شرف مواكبته ومرافقته والتعاون معه ومن خلال هذه المواكبة والمرافقة تعرّفت على وجوه كثيرة بارزة وخيّرة ومستنيرة.

من أبناء هذه المنطقة في طليعتهم المرحوم سعادة الأستاذ عبد العزيز أبي حيدر الذي تدرَّج في سلك الوظيفة العامّة إلى أن أصبح قائمقاماً أولاً ثُمّ أميناً لسر المحافظة ثُمّ محافظاً بالوكالة. وكان تاريخه في الوظيفة ناصعاً بالنزاهة والكفاءة والإخلاص فمشاغل الوظيفة والسكن لفترة طويلة خارج بلدته الحصون لم تنسه بلدته ومنطقته وأقرباءه من أبنائها المقيمين فيها ولم تمنعه من الإهتمام بقضاياهم ولم تحل دون التواصل معهم في كل المناسبات والمساهمة معهم في تنمية المنطقة بشكل عام وبلدته الحصون بشكل خاص. إذ ساهم في بناء حسينيّة ومسجد في سقي فرحت التابعة لبلدة الحصون بالتعاون مع ابن شقيقه الأستاذ محمد حمد أبي حيدر وجمعية المبرّات الخيريّة.. وشارك بالتعاون مع أشقائه في تأسيس مبرّة بإسم أخيه المرحوم الحاج حسين أبي حيدر. ورابطة ثقافيّة لبلاد جبيل بالتعاون مع ابن عمه القاضي الدكتور عمرو وفضيلة الشيخ محمد حسين عمرو وجمع من الأساتذة الكرام. وكان بيته وقلبه مشرعين لكل أبناء منطقته في جميع الأوقات والظروف لاستقبالهم وتوفير الخدمات التي يتمكن من تأديتها لهم.

إنّ وجودي خلال هذه السنوات المعدودة في بلاد جبيل ومخالطتي بهذه النماذج من النّاس الخيريّن والمستنيرين علّماني نمطاً في الحياة يجب أن يتّبعه كل مؤمن وهو التّحلي بفضيلة الإيثار التي تعني أن يلغي الإنسان من نفسه حساب نفسه ليدخل في حسابه التعاون مع إخوانه على البّر والتقوى الذي هو الوجه العملي لعبادته للخالق جلّ جلاله. 

ـ أرسل لنا الأستاذ حيدر علي حيدر هذه الرسالة عن ذكرياته... وهو(حفظه الله تعالى): من مواليد بلدة راشكيدا قضاء البترون عام 1940م. وهو ابن علي بن نايف ابن الشيخ أحمد حيدر شيخ صلح بلدة راشكيدا في أواخر عهد متصرفيّة جبل لبنان. والدته هي: السيدة زينب حمادة. وبسبب علاقة المصاهرة بينه وبين الأستاذ يوسف نجل سماحة مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة المرحوم الشيخ محمد علايا إذ أنّ الأخير هو زوج شقيقته السيدة وجيهة علي حيدر، أرسله سماحة المفتي الشيخ علايا ببعثة دراسيّة إلى جامعة الأزهر الشريف في القاهرة عام 1956م. وتخرّج منها في عام 1959م. وبعد عودته إلى لبنان درَّس في ثانويّة أزهر لبنان لمدة ثلاث سنوات كما توّظف لمدة عام في البنك العربيّ. وفي عام 1965 توّظف في ملاك المحاكم الشرعيّة الجعفريّة كمساعد قضائيّ تنقل فيها ما بين محكمة طرابلس الجعفريّة ومحكمة بيروت البدائيّة الجعفريّة ومحكمة بيروت الشرعيّة الجعفريّة العليا. كما إنتدب لمدة ست سنوات للعمل في محكمة جبيل الشرعيّة الجعفريّة من عام 1986م. ولنهاية عام 1992م. وقد تقاعد عام 2004م. وهو يعمل الان كخبير محلّف شرعيّ لدى المحاكم الشرعيّة الجعفريّة في لبنان. وهو مأذون شرعي من قبل آية الله الشيخ عبد الله نعمه(قده). وقد شارك في أعمال المؤسسة الخيريّة الإسلاميّة لأبناء جبيل وكسروان عن قضاء البترون لمدَّة ست سنوات الآنفة الذكر. كان ذلك في أصعب الظروف المصيريّة التي مرّت على الوطن العزيز لبنان. حيث كان يمارس عمله كل يوم سبت في قلم المحكمة الشرعيّة الجعفريّة في علمات ـ جبيل دون غياب أو إعتذار.