نشر مفاهيم المودة والتلاقي بين الديانتين هو واجب

15/11/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

             لسيادة مطران أبرشيّة جبيل المارونيّة د. ميشال عون

مقدّمة سيادته لكتاب \\\\\\\"محطات مُشرقة في التراث المسيحيّ الإسلاميّ\\\\\\\" لفضيلة الدكتور الشيخ أحمد محمد قيس:

يُسعدُني أن أخط مقدّمة لهذا الكتاب \\\\\\\"مَحطات مُشرقة في التراث المسيحيّ الإسلاميّ ـ دراسة إسلاميّة لحياة بعض القديسين في المسيحيّة\\\\\\\" للدكتور أحمد محمد قيس. لما يتضمنه من دعوة لإبراز أهمية المعرفة المتبادلة بين الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة كوسيلة لتوطيد العيش المشترك، وللتغلّب على التطرّف والتعصّب ثمرة الجهل والتخلّف الفكريّ.

إنّ نشر مفاهيم المودّة والإحترام والتلاقي من خلال التركيز على النقاط المشتركة والإيجابيّة بين الديانتين هو واجبٌ على المسيحيين والمسلمين المثقفين. هذا ما قام به الدكتور أحمد قيس عندما قدّم لنا هذه الدراسة التي تُساعد المُسلم والمسيحيّ على التعرّف إلى ما يقوله القرآن الكريم عن حياة بعض القدّيسين.

هذا الإنفتاح الذي نشهده في كتاب الدكتور قيس، والذي يُعبّر عن احترام الكاتب للديانة المسيحيّة، سوف يُساعد الكثير من إخوتنا المُسلمين على قبول الآخر، وسوف يحثّهم على المعرفة كسبيل لتثبيت العلاقة المشتركة بين المسيحيّة والإسلام، هذا الإنفتاح الذي هو أيضاً من ثوابت المسيحيّة عبّر عنه آباء المجمع الفاتيكانيّ الثاني في التصريح حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيّة، ففي المقطع المُخصّص للديانة الإسلاميّة يقول: وتنظر الكنيسة بعين الإعتبار أيضاً إلى المسلمين الّذين يعبدون الإله الواحد الحيّ القيوم الرحيم الضابط الكل خالق السماء والأرض الموحي للبشر، ويجتهدون في أن يخضعوا بكلّيتهم لأوامر الله الخفيّة، كما يخضع له ابراهيم الذي يُسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلاميّ، إنّ الحقيقة التي كانت مُنطلقاً لتفكير آباء المجمع المذكور هي أنّ البشر عائلة واحدة، لذلك أرادوا أن يبيّنوا أولاً العقائد المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة من ناحية الإيمان ومن ناحية الأخلاق، ثُمّ نظروا بعين موضوعيّة إلى الماضي الذي ساد العلاقات بين أتباع الديانتين ودعوهم إلى تناسي العداوات والمنازعات، لكي ينصرفوا إلى \\\\\\\"التفاهم المتبادل وإلى صون العدالة والأخلاق والسلام والحرية\\\\\\\" فتعمّ فائدة تعاونهم جميع النّاس.

إنّ الإضاءة على هذه المحطات المشرقة في التراث المسيحيّ الإسلاميّ تُشكّل دعوةٌ إلى الّذين يقبعون في ظلمة التعصُب والتشدُد ليعوا أنّ الحرية الدينيّة تتجذَّر في كرامة الشخص البشريّ. ومن غير المقبول أن يَتِمّ تجاهُلُ طبيعته المتسامية، لأنّ الله خلق الرجلَ والمرأة على صورته ومثاله، وبالتالي لكلّ شخصٍ بشريّ الحق المُقدّس بحياة كاملة على المستوى الروحيّ. فإذا ما مُنِعَ من الانفتاح بكيانه الروحيّ على ما هو سامٍ، ينغلقُ الإنسان في ذاته، ويصبحُ عاجزاً عن إيجادِ الأجوبةِ على تساؤلات قلبه، عن معنى الحياة وامتلاكِ القيم والمبادئ الأخلاقيّة الثابتة.

إنّ الكتب المقدّسة تُظهر القيمة العميقة لكرامة الإنسان، وهذا ما نقرأهُ في المزمور الثامن عندما يقول: \\\\\\\"ما الإنسان حتّى تذكُرَه وابنُ آدَمَ حتَّى تفتَقِدَه؟ دون الإلهِ حَطَطتَّه قليلاً، بِالَجدِ والكَرامةِ كلَّلتَه. على صُنعِ يَدَيكَ وَلْيتَه، وجعلتَ كلّ شَيءً تحتَ قَدَميه\\\\\\\". هذه الكرامةُ المتسامية، التي تُعطي الشخصَ البشريّ القدرة على تخطّي مادّية الأمور والبحث عن الحقيقة، هي قيمةٌ أساسيّة لكل إنسان، ويجب أن تُعتبر خيراً عالمياً لا يمكن الإستغناءُ عنه لبناء مجتمعٍ موجَّهٍ لتحقيق كمالٍ الإنسان.

إنّ النظرة المسيحيّة إلى الآخر تنطلق من الإحترام العميق لكل إنسانٍ في قناعاته وخياراته لا سيما عندما تُبنى على الخير وتسعى إليه. كما تنظر باحترام إلى كل إنسانٍ في بحثه عن الله في الديانة التي يختار، ايماناً منها أن لدياناتِ العالم الكبرى مساهمةً جُلّى في نموّ الحضارة. هذا لأنّ البحثَّ الصادق عن الله قادَ الشعوبَ إلى احترامِ أكبر لكرامةٍ الإنسان.

وجواباً على التعصبِ الدينيّ والعدوانيّة تجاه المؤمنين اللذين يسيئون إلى حرية الإنسان العميقة وإلى المجتمع المدنيّ، نقول أن التدّين الصحيح الذي يربُطُ الإنسان بخالقه بالإيمان، هو غنيُّ للشعوب ولأخلاقياتهم، لأنّه يحتوي على مبادئ وقيمٍ تُعتَبر إرثاً لا غِنىً عنه. وهذا الإرثُ يُكلّم مباشرةً عند الرجال والنساء العقل والضمير، ويذكّرُهم بمتطلّبات التوبة الأخلاقيّة، ويحثُّهم على تنمية ممارسة الفضائل، وأن يقترب الواحد من الآخر بمحبة تحت علامةِ الاخوة، بكونِهم أعضاءً في العائلة البشريّة الكبيرة.

فأمام عولمةِ هذا الكون الذي يحتوي على مجتمعاتٍ متعدّدةٍ الإتنّيات ومتعدّدة الطوائف، وأمام التطرّف الذي يشوّهُ جوهرَ الديانة وَيُسيُّ إلى الإنسان في كرامته، يمكن للديانات الكبرى أن تُشكّلّ عاملاً مُهماً للوحدة والسلام للعائلة البشريّة. فالمؤمنون، انطلاقاً من قناعاتهم الدينيّة الخاصة، ومن البحث العقلانيّ للخير العام، هم مدعوون إلى أن يعيشوا بطريقة مسؤولة التزامَهم الخاص في إطارٍ من الحرية الدينيّة، لأنّ الإيمان العميق والصادق يساعدُ الإنسان، في وسط ثقافاتٍ دينيّة متنوّعة، على أن يُبعدَ ما هو مخالفٌ لكرامة كل رجلٍ وامرأة ويستقبلَ ككنزٍ ثمين كلَّ ما يؤولُ إلى التعايش الأخوي.

شكراً للكاتب على هذه الدراسة القيّمة التي في إبرازها هذا التراث الثمين، تزيدُنا قناعةً بأن التربيّة الدينيّة الصحيحة والبعيدة عن التعصّب وجهل الآخر هي طريقٌ مميز يعطيَ الأجيالَ الجديدة إمكانيةً أن يعتبروا الآخرَ أخاً وأختاً، يمكنهم السيرَ معاً والتعاون في ما بينهم، ليشعرَ الجميعُ أنّهم أعضاءً في العائلة البشريّة الواحدة. وهذا ما يرسّخ ويقوّي العيش معاً، مسيحيين ومسلمين في لبنان وفي بلدان الشرق الأوسط.