الحوار الإسلاميّ ـ المسيحيّ ضرورة وطنيّة

15/11/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

للأستاذ يوسف حيدر أحمد

الحوار هو من الأمور البديهيّة والأساسيّة التي تقرِّب بين قلوب النّاس، وتخلق بينهم مناخاً صالحاً للتعارف والتآلف والتلاقي، وتوثقّ دعائم الثقة بينهم. فمن استبدَّ برأيه هلك، و«من شاور الرجال شاركها في عقولها» كما قال الإمام عليّ(1).

وبالنسبة للحوار بين الأديان، يُشدِّد الإمام محمد مهدي شمس الدين على ضرورة الحِوار الإسلاميّ ـ المسيحيّ، ويعتبره من الأولويات الوطنيّة والكيانيّة، بقولهالحوار بين المسيحيين والمسلمين يُمثل ضرورة كبرى للشعب والكيان اللبنانيين: للشعب اللبنانيّ من حيث السعي إلى تكوين مجتمع سياسي واحد مُتلاحمٍ حول قضاياه الوطنيّة، وبالنسبة إلى لبنان بإعتباره وطناً نهائياً لجميع بنيه(2)».

كما ويَدُلُّ على إشارات دينيّة مُضيئةٍ ومُشتركة تنير بالحوار سُبُل التقاربُ الحضاري بين ديانتين، تنتميان إلى الوحي الإلهيّ وعليهما أن ينطلقا في الحوار من هذا القدر المشترك بينهما، بحيث يؤدي بهما الحوار إلى تكوين نظرة مُوحَّدة إلى قضيّة الإنسان والمجتمع والحضارة في هذا العصر، بترجمتها إلى عمل يتوجهان به نحو العالم، لتصحيح مسار الحضارة(3).

ويدخِلُ الدكتور لويس صليبا الحوار الإسلاميّ ـ المسيحيّ من باب المنطق عندما يعتبر أن من أولى شروط الحوار أن تعرِف من تُحاور، وأن تعرف ممَّن تُحاور موقفه المبدئي والأساسي منك، وإلاَّ غدا النقاش حوار طرشان(4).

وهذا الموقف المبدئي، يَتماهى مع ما ذهب إليه الدكتور سعود المولى الّذي أكدّ على وُجوب أن يكون الحوار عقلانياً ومنطقياً ومُنتجاً، بمعنى أن يبدأ الحوار « من ضرورة قبوُل الآخر كما هو، لا كما نُريدُه نحن أن يكون، أو نتصوره. وقبوُل الآخر يبدأ من فهمه ومعرفة حقيقته(5)»].

ويُعَرِّي الإمام شمس الدين الحقيقة بين الأديان بكل موضوعيّة وصدق وعفويّة، ويتحدّث عنها بشفافيّة قائلاً بصراحةالمفروض أنّه يُوجد إسلام، ويُوجد مسيحيّة، وإنهما دينانٍ مُتميّزان، فلا معنى للمطالبة بوحدتهما في كل شيء، وإلاَّ لكانا ديناً واحداً.

إنّ الحوار ينبغي أن يستهدف اكتشاف المبادئ الكبرى التي تجمعهما المبادئ الكبرى في السلوك، وفي احترام الإنسان، وفي تيسير حركة التقدّم الإنسانيّ، والتعايش بين الأمم والجماعات الثقافيّة والدينيّة المختلفة»(6).

ويُبسِّطُ الإمام شمس الدين لغة الحوار بآليّةٍ علميّةٍ إيجابيّة، وهي أن يتناول الكتابُ الموحَّدُ بين المسيحيّة والإسلام «قضايا الوحدانيّة، والنبوة العّامة» والإيمان باليوم الآخر، والعدل الإلهيّ، وقضايا إيمانيّة أخرى من دون الدخول في التفاصيل والخصوصيات. أمّا ما يتعلّق بخصوصيات كل فئة، فيمكن أن تُعطى وتُلقَّن في أُطُرٍ تعليميّة منفصلة، مُعتبراً في الوقت عينه بأنّ الرؤيّة الإيمانيّة في لبنان هي واحدة في خطوطها الكبرى وفي منطلقها الإبراهيمي(7)، كما وينفتحُ الإمام شمس الدين على سائر الأديان، مؤكداً ما قاله الإمام موسى الصدر من أنّ الطائفة نعمة، والطائفيّة نقمة، وقائلاً بحزم وثقة من وجهة نظر القيادة الدينيّة الشيعيّة، وبلغة المحبَّة والإنفتاح على الآخرلن يُستدرج الشيعة إلى المواجهة مع إخوانهم في الدين، ولا مع إخوانهم في القوميّة، ولا مع شركائهم في المواطنيّة (8)».

ولفت الدكتور لويس صليبا المتخصص في علم الأديان إلى ضرورة فتح باب الإجتهاد الدينيّ بإستمرار لأنّ إقفاله إعاقة مُهمَّة بوجه تطوّر الحوار، كما طلب التجديد في الفكر الدينيّ والموقف من الآخر عند الطرفين(9).

وتشجيعاً للحوار الإسلاميّ المسيحيّ، شخَّصَ العلاّمة الشيخ محمد جواد مغنيّة داء الطائفيّة ومكامن الخلل فيها، ومُميِّزاً بين دُعاة وتجار الطائفيّة، الّذين يعملون على إثارة الفتن والقلاقل وبين من يعملون على وحدة الوطن، وحماية شعبه، فيقول بكلّ ثقة وصراحةإنَّ الروابط بين المسلمين والمسيحيين روابط إلهيّة، يمتدُ تاريخها إلى عهد الرسول، لكن تجَّار الطائفيّة يتجاهلون هذه الحقيقة، ويأبون إلاّ النفاق والشقاق، أمّا المُخلصون في هذا البلد الطيِّب، بلد الحريّة والخير. فيرون أنفسهم أبناء طائفة واحدة هي الطائفة اللبنانيّة، ولا شيء سواها، لها يَتعصَّبون، ومن أجلها يعملون، لأنّها الطائفة الواحدة المحبوبة، يُبارِكُها اللهُ ومُحمّد والمسيح. أمَّا من ينشر الفتن ويبثُّ النعرات. ويعمل للتفرقة بين اللبنانيين فملعون على لسان الله، وملائكته ورُسُلِهِ والنّاس أجمعين(10)».

ولطالما كان الإمام السيد موسى الصدر يدعُو إلى المُصارحة والمُصالحة والعمل الجاد المُنتج بين الفئات والطوائف اللبنانيّة بكل محبة وانفتاح وتلاقٍ وإرادة صادقة، ويقولالمُصالحة ليست مصافحة أيْدٍ» بل مُصافحةُ قلوب، واللقاء ليس لقاء أجسادٍ بل لقاءُ إراداتٍ لصنع الأُسس الجديدة للمجتمع الأمثل. إنَّ البُعد خلق التجاهل، ثُمّ عمَّق الأثر حتى أوْرَثَ البغض، ولا تُبنى الأوطان بغير المحبة(11)».

ويُركزّ السيّد الصدر على العلاقة الجدلية بين الإنسان والوطن وضرورة الحفاظ عليهما وصونهما بقولهوإذا أردنا أن نصون لبنان. وأن نمارس شعورنا الوطنيّ وإحساسنا الدينيّ، فعلينا أن نحفظ إنسان لبنان، كُلَّ إنسانه وطاقاته لا بعضها... إلى أن قال: بل يجب أن يُحفظ وطننا للإنسانيّة جمعاء(12)».

ولتدعيم الوحدة الوطنيّة والعيش المشترك والحوار اليومي المفتوح والدائم، يقول الإمام شمس الدين مُتميِّزاً بين التنوّع الدينيّ والإنتماء السياسيّ... نحن لا نُشجِّع إطلاقاً أن يُؤثِّر التنوّع الدينيّ في الإنتماء السياسيّ. نحن نُركِّزُ على أن يكون الإنتماء السياسيّ إنتماءً مُجرَّداً، ولكن هذا يتوقف على العيش المشترك، وعلى أن يكون الحوار الإسلاميّ ـ المسيحيّ حواراً مفتوحاً ودائماً ويومياً ولا ينحصر في إطار كنيسة أو مسجد أو كاهن أو شيخ، هذا حوارُ حياةٍ، ويجب أن تكون العمليّة الحواريّة مُنطلقة من حياة النّاس اليوميّة، بحيث يألفون بعضهم بعضاً، ويقبلون بعضهم بعضاً كما هم ومن دون شروط(13)».

وفي وصايا الإمام شمس الدين قُبيل وفاته يُركِّزُ على صيانة الوحدة الوطنيّة، والعيش المشترك تجنُّباً للخلاف والانقسام، ومُحذِّراً الشيعة في الوقت نفسه من التفرُّدِ بأخذ القرارات واختراع مشاريع خاصة بهم فيقولأُوصي أبنائي واخواني الشيعة الإماميّة في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، وفي أوطانهم، وأن لا يُميِّزوا أنفسهم بأي تمييز خاص، وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم، لأنَّ المبدأ الأساس في الإسلام هو المبدأ الذي أقرَّهُ أهل البيت المعصومون i، هو وحدة الأُمّة التي تلازم وحدة المصالحة، ووحدة الأُمّة تقتضي الإندماج وعدم التمايُز(14).

ومن الحلول الناجعة، لتدعيم وترسيخ الوحدة الوطنيّة إصرارُ الإمام شمس الدين على تشكيل هيئة قانونيّة مُعترف بها من قبل المرجعيات الطائفيّة في لبنان، تكون بمثابة «أمانة عامّة»التي ترصد وتراقب وتواكب التقلبات السياسيّة العامّة ذات الشأن الوطنيّ العام. وتتلقَّى من مرجعياتها التوجيهات في هذا الشأن لتكون مجالاً للمراجعة وللمشاورة في ما بينهما وتكون هي وسيلة المُشاورة في ما بين القيادات لأجل تكوين رؤية مُشتركة يُمكن أن يُوَجَّه من خلالها خطاب وطنيّ واحد جامع، أو إذا لم يتسنَّ ذلك يتمَّ الإمتناع عن اتخاذ مواقف تُسبب الإنقسام الوطنيّ وتخلق توترت طائفيّة داخل المجتمع(15)».

وختاماً نقول إنَّ الأوطان لا تُبنى إلاَّ بعقولِ أبنائها وبسواعدهم وبإرادتهم وعزمهم وخُبراتهم.

وعظمة لبنان الجميل، وتمايُزُهُ عن غيره، كما قال قداسة البابا بولس السادس في إرشاده الرسوليّ عام 1997م. هو أنّه أكثر من وطن إنّه رسالة.

وللمحافظة على هذه الدُرَّة، أو هذه الرسالة، يجب بالحوار الهادئ البنَّاء، دعوة المسيحيين إلى عدم الشعور بأنّهم أقليَّة، وعلى المسلمين المساعدة على أن «تستعيد المسيحيّة في الشرق كامل حضورها وفاعليتها ودورها في صنع القرارت وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون شراكةً كاملةً في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين(16). والحوار هو الكفيل بتحقيق هذه الأُمنيات، وتذليل التحديات التي تعترضها، شريطة أن يواكبه (هذا الحوار)، الوعي والحكمة وقبول الآخر، والنية الصادقة والعمل الجاد المُثمر، وأن تُدبّر هذا الحوار عقول نيِّرة. وفاعلة ومُصمِّمة على الإنفتاح والنجاح، الوطنيّ والاجتماعيّ.

ولنا من القادة العظام، السيّد المسيح والنبيّ محمّد الأسوة والقدوة والمثال لتحقيق تلك المفاهيم والمبادئ الخالدة فالسيّد المسيح، وهو في طريقه من اليهوديّة إلى الجليل، مَرَّ بقريّة سوخار في السامرة، فوجد امرأة سامريّة قرب بئر ماء طلب منها شربة ماء فتعجبت كيف أنّه يتحدّث معها، لأنَّ اليهود لا يُخالطون السامريين (يوحنا 4/9) ففي حواره مع هذه المرأة. هدم حاجز العزل العنصريّ والشقاق بين اليهود، والسامريين، وعندما طلب منها شربة ماءٍ قال لها بأنّه سيعوَّض عليها بشربة لا تعطش بعدها أبداً، لأنّ هذا الماء يفيض بالحياة الأبديّة (يوحنا 4 (13 ـ 14).

لقد استطاع السيّد المسيح بهذا الحوار الهادئ، والمفعم بالإيمان وبالعمل العجائبيّ (يوحنا 4/25 و 40) استطاع أنّ يجذبَ هذه المرأة ومعظم أهل قريتها من السامريين ويُدْخِلَهُم في حنايا رسالته الخالدة (يوحنا 4/39 ـ 40 ـ 41).

كذلك الرسول العربيّ، عندما جاءَه نصارى نجران، أكرم وفادتهم، وفرش لهم السجَّاد الأحمر في المسجد (البساط الأحمدي) وسمح لهم بالصلاة فيه نحو المشرق. حاورهم بالحسنى والكلمة الطيبة، وأبقاهم في المعاهدات التي أُجريت بينه على ما كانوا عليه من المعتقد والتقاليد والرأي وما كان ذلك إلاّ ليقرِّب ما بين الإسلام والمسيحيّة الّلذين يشتركان في أكثر من مفصل أساس من مفاصل المحبة والإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر... وما أجمل حديث السيّد موسى الصدر عن الحوار وعن تعايش الأديان والمذاهب في مجتمع واحد. وذلك حين ذكر صيغة العيش الفريدة في لبنان فقالوقد وُجد في لبنان نظامٌ فريدٌ في العالم. ومجتمع متنوع الطوائف مُنفتح على العالم، ويمكن اعتباره ضرورة دينيّة تُثبت إمكان تعايش الأديان والمذاهب بعضها مع بعض في مجتمع واحد. وفي نفس الوقت ضرورة حضاريّة حيث أنّ العلاقات الدينيّة بين الطوائف المختلفة وبين أبناء مذاهبهم في الخارج، تجعل الطوائف نوافذ حضاريّة على جميع العالم. وحضاراته وثقافاته ويصبح لبنان بذلك مكاناً للتلاقي وصلة للتفاهم(17)».

وبناءً على ما تقدم يُعتبر الحوار ضرورة لازمة في لبنان وليس ترفاً فكرياً. إنّما ضرورة تستحق المغامرة والاهتمام.

 

 

الهوامش:

(1) «نهج البلاغة، عليّ بن أبي طالب» دار المرتضى، بيروت، طبعة أولى 2003م. الجزء الرابع، ص. 672.

(2) «تأملات في صيغة الحوار الإسلاميّ المسيحيّ» محمد مهدي شمس الدين، في تقديمه لكتاب د. سعدون المولى الذي يحمل عنوان الحوار الإسلاميّ المسيحيّ ضرورة المغامرة، دار المنهل، بيروت، طبعة 1996م. ص 21 و 22.

(3) المصدر نفسه، ص 18.

(4) «نحو الحوار المسيحيّ الإماميّ»، د. لويس صليبا، دار ومكتبة بيبليون، جبيل، طبعة أولى 2015م. ص 98.

(5) «الحوار الإسلاميّ المسيحي ضرورة المُغامرة» د. سعدون المولى، دار المنهل اللبنانيّ ـ بيروت، طبعة أولى 1996م. ص 220.

(6) «مطارحات في الفكر المادي والفكر الدينيّ»، محمد مهدي شمس الدين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، طبعة 1986م. ص 124.

(7) «لبنان الكيان والمعنى»، محمد مهدي شمس الدين، مؤسسة الإمام شمس الدين، بيروت، طبعة أولى 2005م. ص 103.

(8) «التجديد في الفكر الإسلاميّ» محمد مهدي شمس الدين، دار المنهل اللبنانيّ ـ بيروت ـ طبعة أولى، 1997م. ص 8.

(9) مصدر سابق، د. لويس صليبا، ص 106.

(10) «صفحات لوقت الفراغ» محمد جواد مغنية، دار الكتاب الإسلاميّ ـ بيروت، طبعة 1979م. ص 153.

(11) «الحوار الإسلاميّ المسيحي» د. سعدون المولى، مصدر سابق ص 72.

(12) المصدر نفسه.

(13) المصدر نفسه، ص 75.

(14) «الوصايا» محمد مهدي شمس الدين، دار النهار ـ بيروت، طبعة 2008م. ص 17.

(15) المصدر نفسه، ص 36 و 37.

(16) «الوصايا» محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق ص 55.

(17) «الحوار الإسلاميّ المسيحي» د. سعدون المولى،