مشهد ومسجد رأس الإمام الحسين (ع) في بعلبك

09/04/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

د. حيدر خير الدين.

 يقع المشهد عند مرجة رأس العين مقابل مبنى دار المعلمين، ويعرف أيضاً بالمسجد المعلّق لوقوعه وسط برك رأس العين أو البيّاضة، وقيل مسجد رأس العين بتحريف العامة، وبإزائه وليس تحته للجهة الشرقية يوجد أنقاض معبد وثني قديم، وكان السبب الظاهر في بناء المشهد والمسجد وحسب رواية لإبن شهر آشوب(ع)، أنّ الجند الأمويين لمّا حملوا رأس الإمام الحسين بعد مجزرة كربلاء الى دمشق، مرّ موكبهم ببعلبك. فاستقبلهم سكّانها مهلّلين فرحين بقتل الخوارج، حيث أقام الجند عند مرجة النبع للإستراحة، وقد إحتشد أهالي المدينة لرؤية الأسارى بعدما كتب قادة الجند الى والي بعلبك بوجوب إستقبالهم وتزيين المدينة لإنتصارهم على الخوارج، لكنّ السيّدة زينب بنت علي بن أبي طالب كشفت الحقيقة لإهل بعلبك، وأخبرتهم أن الأمويين يحملون رؤوس القتلى من آل بيت الرسول (ص).

فثار البعلبكيون على جند يزيد بن معاوية لإستخلاص رأس الإمام، ولتحرير السبايا من أهل بيته، لكنّهم فشلوا في ذلك، لذا عمدوا الى تخليد الحادثة بتشّرف أرضهم ملامسة رأس سبط النبي (ص) وحلول عترته عندها، فقاموا لبناء مشهد للرأس وبإزائه مسجد كان متواضعاً في حجمه، وذلك كان ديدن محبي أهل البيت (ع)، إذ عمدوا الى تعمير وبناء وتشيّيد كل المنازل التي حلّوا فيها خصوصاً موكب رأس الإمام وسبايا أهل بيته تخليداً لذكراهم العطرة(ع).

لذا قاموا ببنائه بإسلوب هندسي جاء مغايرا بشكل كلي عن باقي الجوامع والمساجد التي أقيمت في بعلبك ممّا يؤكّد أنه مزار وليس بمسجدٍ. إذ أنه خلا من وجود أية مآذن كما تمّ نحت حجارة خاصة به دون الإستعانة بالخرائب الرومانية التي كانت منتشرة في محيطه، وكأنّهم بذلك أرادوا إستبعاد كافة الحجارة المغصوبة، أو المستخدمة في بناء المعابد الوثنية، كما أن المسجد جاء موقعه خارج أسوار المدينة في بقعة غير مأهولة، هي عبارة عن سهل منبسط تتخلله الحدائق، وتنساب حوله الينابيع بعكس باقي المساجد التي كانت تقام عادة لا سيّما في صدر الإسلام في مركز المدينة ووسطها.

فقد ذكر أبو الخطيب أن المنصور العباسي بنى مدينة بغداد في الجانب الغربي ووضع اللبنة الأولى بيده وجعل داره والجامع في وسطها. لأنّ الجامع يكون عادة قطب الدائرة الذي تتلاقى فيه عبادة المسلمين، وفي إطاره تتركّز الآداب والإلتزام. فلا غرو أن توسّط المسجد المكاني كان رغبة جامحة لكل المنازل في جواره، فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله (ص): فضّل الله الدار القريبة من المسجد على الدار الشاسعة (البعيدة) كفضّل الغازي على القاعد. وبالتالي فإن حادثة بنائه إستهوت كثيراً من الحكام والخلفاء الذين آثروا على أنفسهم توسيعه وتجديد معالمه، قيل أن السلطان الظاهر بيبرس البندقداري (658 هـ - 676 هـ) قام بتوسيعه وعمارته، وقد تمّ ذلك على يد بلبان الرومي الدوادار الظاهري السعيدي عام 676 هـ 1277 م. ولكن لم يرد ذكر بنائه في جملة العمائر التي أنشأها الظاهر بيبرس لأوّل مرة في البقاع حسبما جاء في تاريخ إبن سباط(ع)، عن الظاهر بالقول: وجدّد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك، وجدّد بابها والدركاه، وجدّد قبر نوح (ع) بقرية الكرك، وعمل الضريح داربزينا.

زار المسجد والمشهد الرحالة عبد الغني النابلسي عام 1100 هـ، وقال عنهما: عند تلك العين في ذلك المسجد المعلّق، وهو الأن خرب يدور به الماء من جميع جوانبه بكرة وعشيّة،  ويقال أنَّه كان فيما مضى تكيّة للمولوية، وقد وصف الأمير حسن الخالدي المشهد بقوله:

لكعبة لرأس العين حجّوا تشاهدوا

مقاماً ومن أهل الصفاء صفوف

 بـمرجتها لله بيـت مـعلّـق محواليها

 يسعى ماءُ هـذا ويطوف

للمسجد مدخل كبير يبلغ إرتفاعه ستة أمتار يحمل عقداً كحدوة الحصان تناسقت حجارته بإسلوب هندسي رائع، وقد نقشت على الـساكف العلوي كتابة غائرة بالخط الثلثي تمثّل آية قرآنية:

بسم الله الرحمن الرحيم إنمّا يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الإ الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين(ع).

ويوجد كتابة اخرى على يسار المدخل، وهي تتألف من خمسة أسطر عسرة القراءة ومتشابكة الكلمات، ويعود تاريخها الى عام 908 هـ، وتنص على منع التطاول على المسجد وأوقافه وإعفائه أيضاً من الزكاة بأمر من الأمير قانصو بن أحمد.

1 - بسم الله الرحمن الرحيم بتاريخ ثامن المحرم سنة ثمان وتسعماية أخذ الزكاة المتعينة لعمل الأوقاف مولانا أمير الأمراء.

2 - قانصو بن أحمد. أعزّ الله أنصاره بمنع.. من الجامع  الوقف المراسيم الشريفة

3 - برزت بإعفائه من مغرم كشف الأوقاف فرسم إعتماده الى المحكمة الشريفة وعدم التعرّض الى جهات وقفه إلا بعمارة.

4 - ولا مغرم كشف ولا طرح وإعفائه من زكاة جبابة كشف الأوقاف وأن ينقش ذلك على بلاطة (فمن بدّله.

5 - بعدما سمعه فإنّما إثمه (على الذين يبدلونه) وعليه لعنة (الله والملائكة والناس أجمعين) وصلى الله على سيدنا محمد والحمد له  وحده.

يبلغ طول المسجد خمسين متراً، وعرضه ثمانية وثلاثين متراً، ويقسم الى ثلاثة أروقة لكلّ منها محراب، لكنّ المسجد الرئيس هو الأمامي الذي يقع في الوسط، وقد فصل بجدار فيه ست قناطر، ويتصدر الجدار الجنوبي محراب كبير عملت الطبيعة على تعريتّه، والى جانبه الأيمن تشاهد أساسات لقاعدة صخرية للمنبر الذي لم يعد له وجود.

وتتوسط المسجد فسحة مربعة غير مسقوفة، طول ضلعها أربعة وعشرون متراً، وعلى جانبيها الشرقي والغربي رواقان كانت تحملهما أعمدة حجرية لم يبق منها سوى القواعد، يتقدم الرواقين محرابان، لا يزال المحراب الأيسر على مكانه وقد علته كتابة مهشّمة مطلعها:   

لا إله الإ الله محمد رسول الله        ويعتقد الأهالي أن رأس الإمام الحسين (ع) قد نصب عند هذا المحراب(ع)، لذلك فإنهم يعظّمونه ويكرّمونه ويتباركون به، ويشير عدد أبواب المسجد الخمسة الى أنه كان عامراً بالمصلّين والزوّار ولا يزال ساكف أحد الأبواب يحمل عبارة علي بشكل هندسي، ويشير تكرارها فوق أكثر من باب الى تعظيم شأنه، وقد عمد الحرافشة فيما بعد الى نسخ هذا الشكل الهندسي نفسه في بنائهم لمسجد النهر.

ويرجّح البعض خلوه من المئذنة بأنه بناء مشهدي ليس الإّ، فيما يعتقد البعض الأخر تهدم المئذنة وتبعثر حجارتها هنا وهناك مع أن للموقع أحداثاً تاريخية مهمة  فإنّه لا يزال خراباً، وأن المديرية العامة للآثار عملت في السبعينيات على تكحيل بعض جدرانه منعاً لسقوطها. الى جانب محاولات بعض الأهالي لإعادة بنائه بطريقة بسيطة جداً.

ويشهد المسجد أيام الجمعات والأعياد حركة لافتة، لكنّها تزداد إرتفاعاً في شهر محرم عموماً، وفي ليالي عاشوراء خصوصاً. إذ يتهافت الناس على زيارته والمشاركة في كافة مراسيم الإحتفالية بذكرى الرأس الشريف حتى أعتبر مشهداً مباركاً يتقاطر إليه المؤمنون الحسينيون بعد زيارة السيدة خولة بنت الحسين (ع).

وفي لقاء مع إمام المسجد في أيامنا هذه حجة الإسلام العلاّمة الشيخ عليّ العفيِّ أفادنا بما يلي:

المعروف من بعض كُتب السيرة، والمشهور عند النّاس أنّ موكب الأسرى من آل البيت(ع)، عبر بعلبك في طريقه إلى دمشق الشام. ومن الطبيعيّ أن يكون مكان نزولهم ومحلَّ إِقامتهم في منطقة - مرجة رأس العين- لسعتها ووجود المياه بها إذ أنّها أوسع منطقة في مدينة بعلبك. وحيث أنَّ هذه الأرض تبركت بنزول آل البيت(ع)، قام بعض المؤمنين ببناء هذا الأثر تبركاً بآثارهم الشريفة. وقام بعض الملوك بعد ذلك بتجديد هذا الأثر حيث أصبح معروفاً ومشهوراً بإسم الإمام الحسين(ع).