سليم عبد الحميد اللقيس فارس من زمن البطولات

16/2/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم المحامي الأستاذ نديم بهيج اللقيس

عندما طلب مني حضرة رئيس تحرير مجلة «إطلالة جُبيليّة» سماحة الشيخ يوسف عمرو إعداد كلمة تنويه وتذكير بجدي المرحوم سليم عبد الحميد اللقيس، استشعرت في الحنايا والوجدان فخراً دون مباهاة وبأساً دون خوف وشموخاً دون مكابرة أو إستعلاء، كيف لا والمعني بالموضوع هو سيّد القرار وفيصل المواقف وصيدح المنابر والمنافح المقدام عن حقوق مدينة جبيل ومكتسبات أهلها التي احتضنها ودافع عنها بحزم وعزم وغرادة صلبة لا تلين حتى الرمق الأخير من حياته، إنّه البطل الجبيلي  الصنديد سليم عبد الحميد اللقيس (أبو بهيج) المعروف من قبل معارفه ومواطنيه بالسيّد.

 

ونستعرض أهم المفاصل الحياتيّة العابرة لهذا الرجل المقدام تبعاً لما يلي:

أ ـ في مولده ونشأته:

ولد السيّد سليم اللقيس في مدينة بيبلوس ـ جبيل للعام 1887 من أب جبيلي يدعى «عبد الحميد»  ووالدة جبيليّة أيضاً هي شريفة اللقيس.

تزوج من السيدة سميّا (أم بهيج) من جبيل أيضاً (وكان والدها حسين بدرا اللقيس من أعيان مدينة جبيل ويشغل منصب سفير الدولة العثمانيّة في البرازيل).

ورزقه الله تعالى:

ـ لميس متزوجة من محمد فضل منصور.

ـ سينيا متزوجة من ناجي حسين اللقيس.

ـ مي متزوجة من علي حسن زين الدين.

(رحمهم الله تعالى جميعاً).

ـ سوهار متزوجة من المرحوم منير خالد اللقيس.

ـ بهيج متزوج من السيدة أميمة بليق.

في الثلاثينيات من القرن الماضي، سافر السيّد سليم اللقيس إلى البرازيل كسواه من اللبنانيين، حيث اشتغل هناك في التجارة وكان يعرف في تلك  البلاد بإسم «ألفردو».

وبعد غياب خمس سنوات رجع إلى موطنه الأم ومدينته التي أحبها واقترن إسمه بإسمها «جبيل».

وبالإضافة إلى ممارسته التجارة في محله الكائن في السوق القديم ملك وقف جامع إسلام جبيل وانصرافه إلى تربية أسرته وتنشئتها على تعاليم الفضيلة والإستقامة والأمانة والتمسك بمبادئ الشرع الحنيف، إنخرط السيّد سليم في الشأن العام مكرساً وقته وتعبه لخدمة أبناء مدينته وتلبية احتياجاتهم ومطالبهم قاضياً بالصلح والعدل والقسطاس فيما بينهم حتى صار إسمه مرادفاً لمعاني الخير والتسامح والسلام والوئام ونبذ الخلافات والضغائن والأحقاد.

كما عمل في الوقت ذاته على إرساء دعائم وقف جامع إسلام جبيل والنهوض بمؤسساته ومرافقه وقطاعاته بعزم وجد وإصرار لا يعرف الكلل أو الملل.

ب ـ السيد سليم اللقيس، رجل الإنجازات العملاقة ومؤسس «وقف جامع إسلام جبيل» وقائد مسيرة إعماره ونهضته واستقلاله:

لم يكتفِ «السيد سليم» بالإضطلاع بشؤون عائلته الصغيرة ومتابعة احتياجاتها ومتطلباتها المعيشيّة اليوميّة، بل شمل إهتمامه أيضاً تطلعات وأماني أبناء مدينة جبيل عامة وأهاليها المسلمين بشكل خاص، وسعى جاهداً لتأمين العيش اللائق والمستقبل الكريم لإسلام جبيل وإقامة  المشاريع البينويّة والحيويّة الشاهدة على أصالتهم وعراقتهم وتجذرهم الأصيل في أرض مدينة التاريخ والحضارة والتراث «جبيل».

وتحقيقاً لهذا الهدف السامي والمراد  النبيل، شرع «ابو بهيج» في وضع حجر الأساس لمسيرة بناء «وقف جامع إسلام جبيل» والمساهمة في مشروع نهضته وتطويره، وبدأ يشرف بنفسه على أعمال بناء محلات هذا الوقف وينفق من وقته وماله الخاص لإنجاز هذا المرفق الحيوي الكبير وبناء مجتمع جبيليّ متكامل يؤمن الإكتفاء الذاتي والمورد الدائم ويكون منبع خير وسبيل تقدم واستقرار وازدهار لمدينة جبيل ومواطنيها إلى أي مذهب انتموا أو عقيدة احتكموا.

كما شرع ببناء محال تجاريّة جديدة على العقارين 708 و 709 خاصة «وقف جامع إسلام جبيل» وتوسيع مجمل مرافق وقطاعات هذا الوقف  التراثي الجبيليّ التليد وتحسينها وتطويرها والزيادة عليها.

فعمد إلى تسجيل هذا الوقف في الدوائر العقاريّة المختصة تحت اسم «وقف جامع إسلام جبيل» وتوثيق قيوده العقاريّة وتنظيمها وفقاً للأصول وأحكام القانون، مستنداً في مسعاه الكريم هذا إلى سجلات ومدونات دفتر لبنان القديم التي يعود تاريخها إلى أيام الحقبة  العثمانيّة والتي تثبت بما لا يرقى إليه الشك أو الجدل أنّ وقف إسلام جبيل كان قائماً منذ ذلك الحين بكيانه وخصوصيته وذاتيته، وكان يملك مجموعة متعددة ومتنوعة من العقارات بموجب أرقام ونمر وقيود نظاميّة وأصوليّة، وهذه الممتلكات هي عبارة عن أفران ومقاهٍ ودكاكين مدرجة في متن هذه المستندات، ونبرز لمجلتكم الغراء صوراً طبق الأصل عنها.

وبالفعل، وسنداً لهذه القيود العقاريّة والمدونات الرسميّة في دفتر لبنان القديم، قام السيّد سليم اللقيس بنقل هذه القيود وتوثيقها وتسجيلها من جديد بموجب حكم قضائي صادر عن حضرة القاضي العقاريّ في بيروت بتاريخ 5 تشرين ثاني 1949 على اسم « وقف جامع إسلام جبيل» بعدما كانت في دفاتر لبنان القديم مسجلة على اسم «وقف جامع المحل»، كما يتبيّن جلياً من ظاهر مضمون هذه المستندات المبرزة.

بحيث  صارت القيود العقاريّة للوقف تفيد بما حرفيته:

«وقف جامع إسلام جبيل ـ وقف خيري عائد ريعه لصالح جامع إسلام جبيل تحت تولية لجنة محليّة يدير شؤونها سليم عبد الحميد اللقيس وحسين عبد الله اللقيس المقيمان في جبيل»

وبذلك يكون للسيّد سليم اللقيس اليد الفضلى والسبق المعلى في تأسيس هذا الوقف الجبيلي الزاهر وإبراز معالم شخصيته المعنويّة والقانونيّة المستقلة تماماً عن الأوقاف العامّة المتواجدة في العاصمة بيروت وسواها من المناطق اللبنانيّة، كونه يستمد شرعيته واستقلاليته ولامركزيته وخصوصيته وطابعه الجبيليّ الحلي للبحث من إرادة الواقف وشروطه الصريحة والعلنيّة المدرجة في وثيقة الوقت وسندات الملكيّة والإفادات العقاريّة ومحاضر التحديد والتحرير خاصة أملاك وعقارات هذا الوقف.

وحين توفاه الله في أوّل شباط 1971م، نعت الإذاعة اللبنانيّة الرسميّة في ذلك الوقت السيّد سليم عبد الحميد اللقيس بصفته «مؤسس وقف جامع إسلام جبيل».

ج ـ السيّد سليم اللقيس، رجل الوحدة الوطنيّة والتفاعل الحضاريّ المعطاء وصرخة الحق بوجه سلطان جائر:

سطّر السيّد سليم اللقيس صفحة مشرقة ومضيئة في تاريخ مدينة جبيل فشغل مركز عضويّة بلديتها لما يناهز الثلاثين عاماً متتاليّة من الزمن، كما كان ذا عقل نيّر وفكر متسامح  ينبذ التعصب والتطرف وينشد  الحوار والتواصل مع مختلف التيارات والإتجاهات، وقد نسج صداقات متينة وعلاقات وطيدة مع عدد كبير من المسؤولين في الدولة اللبنانيّة وقادة الرأي في ذلك الوقت، نذكر منهم الرئيس رشيد كرامي والوزراء أحمد الحسينيّ وعبد الله المشنوق وإدوار نون والدكتور محمد خالد والشيخ أحمد العجوز (رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم) والزعيم جميل الحساميّ (رئيس المحكمة العسكريّة والمدير العام لقوى الأمن الداخليّ في ذلك الوقت) والقاضيان الرئيسان أديب علاّم وعبد الله ناصر والمحامون الأساتذة عبد الله لحود وجان قيصر لحود وسامي شاوول الخوري ورؤساء بلدية مدينة جبيل إدوار الصياد وإبراهيم زعرور وانطوان الشامي ومختار جبيل سابقاً كليمنصو كميد وسواهم من المرجعيات والفعاليات وأصحاب القرار في بلاد جبيل والمناطق اللبنانيّة كافة.

كما كانت تجمعه علاقات مودة وصداقة متينة وحسن جوار وتواصل دائم مع آل الحوّاط، نذكر منهم: الراحلان نسيب الحوّاط وتوفيق الحوّاط وآل الخوري من بلدة إهمج وفي طليعتهم الشيخ سعيد الخوري وعقيلته الشيخة ماريا الخازن، وآل بيلان من جبيل وفي مقدمتهم نخلة وأسعد وبطرس بيلان، وآل الحساميّ ونخصُّ بالذكر منهم الشيخ حسين الحساميّ وعبد الله قاسم الحساميّ وصبحي علي رجب الحسامي(أبو سميح) والمرحوم سمعان ملكان باسيل مؤسس بنك بيبلوس وولده الدكتور فرنسوا.

كما كان صديقاً حميماً للراحلين حيدر الحاج(من بلدة المغيري) ومحمود ناصر الدين(من بلدة بزيون) وطانيوس الحداد(من بلدة عين كفاع) والحاج مرشد حسن حمزة شمص(من بلدة مشّان) وفائز بلوط وسعيد ومرشد زين الدين(من جبيل) وحنا غاريوس من عمشيت ومختار بشتليدا وفدار المرحوم الحاج خليل برق والمرحوم الحاج كامل حسن كنعان من بشتليدا.

ومن المحطات المفصليّة التي تؤكد أهميّة دور السيّد سليم وموقعه ومكانته الرفيعة بإعتباره موئلاً للوحدة الوطنيّة والتعايش اللبنانيّ الأخوي الصميم ما نابه ذات يوم في الستينيات من القرن الماضي، إذ سقط من أعلى سطح منزلنا الكائن في مدينة جبيل ولم يصب بأي أذى ولا حتى بأي خدش أو رضوض، فعاده لتهنئته بالسلامة كل من نائب بلاد جبيل الدكتور شهيد الخوري والزعيم جميل الحساميّ، وعندما حبكت النكتة العفويّة والطيبة مع الدكتور شهيد، فقال ممازحاً جدي سليم:

«لو كنت يا سيّد سليم مارونياً لطوبناك قديساً»، ولا تزال ضحكات جدي سليم والحاضرين تتردد في أذني حتى اليوم.

كما أذكر من عبق تلك الأيام الجميلة وذكرياتها المفعمة بالصفاء والمودة والمحبة والأمان والسلام، الراحل الشيخ سعيد الخوري من بلدة إهمج ومن المقدمين فيها (وكان يقيم مع عائلته في المنزل عينه الذي يقيم فيه شقيقي الأستاذ عُمر الآن مع عائلته)، عندما كان يزورنا بقامته المديدة خلال شهر رمضان المبارك وهو يعتمر الطربوش ويرتدي العباءة ليذكرنا بوجوب الإستيقاظ والنهوض باكراً لتناول وجبة السحور صائحاً بصوته الجهوري:

«قوموا على سحوركم جايي سعيد يزوركم».

وهذه الوقائع تشكل النموذج الحيّ والنبض الصادق لما كان يسود ذلك الزمان من إلفة ووداعة وطمأنينة وانسجام ووئام بين مختلف القيادات والمرجعيات ومكونات المجتمع الجبيليّ وشرائحه الإجتماعيّة والوطنيّة والسياسيّة كافة، وكان جدي «أبو بهيج» من أبرز دعائمها ومقوماتها وأقطابها الميامين، لا بل كان حصن الدفاع الأوّل عن التعايش الأخوي البناء والتفاعل الحضاريّ المعطاء والتسامح الإنسانيّ النبيل الذي يحترم الرأي الآخر ويحاوره ويناظره بهدوء ووقار واحترام وإتزان دون تعصب أو تزمت أو إنفعال.

كما كان رحمه الله يمقت الظلم ويكره الظالمين ويروي لي دائماً حادثة ملازم في قوى الأمن الداخلي تولى مسؤوليّة الحفاظ على الأمن في مدينة جبيل وقضائها في الأربعينيات من القرن الماضي، وكان متعسفاً وجائراً بتدابيره وإجراءاته مما إستثار إستياء أهالي بلاد جبيل ونقمتهم واحتجاجهم، ولم يسكت جدي سليم على سلوك هذا الضابط وكان من عائلة معروفة في الشوف. وصار يعاتبه ويلومه ويوبخه على ما يلحقه بأبناء قضاء جبيل من ظُلم وجور وتعسف مردداً على مسامعه هذه الأبيات من الشعر:

لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدراً

فالظلم آخره يأتيك بالندمِ

نامت عيونك والمظلوم منتبه

يدعو عليك وَعَينُ الله لم تَنمِ

تلك هي اهم مميزات السيّد سليم وبعضاً من مناقبه وخصاله الحميدة سردتها بإختصار وإيجاز في هذه العجالة لعلي بذلك أفيه بعضاً من حقه. وأذكر أن جنازته في أوائل شباط من العام 1971م. كانت كما حياته موكباً للإتحاد الوطنيّ والإنصهار الإجتماعيّ، ومشى فيها عدد كبير من المشيعين من رجالات البلاد وأعلامها الميامين في ذلك الزمان، يتقدمهم سماحة الإمام الشيخ أحمد حمود والنائب عن بلاد جبيل العقيد نجيب الخوري والعقيد في قوى الأمن الداخلي فؤاد كيوان وقد تجلّت في جنازة الراحل الكبير معالم الوحدة الوطنيّة اللبنانيّة بأبهى معانيها واروع صورها، إذ اختلطت إبان موكب التشييع أصوات المؤذنين بأجراس الكنائس تقرع احتراماً وتقديراً وأسى وحزناً على هذا الركن الجبيليّ الأصيل، كما ألقى جارنا الشاعر عصام حداد كلمة رثاء بالمناسبة.

وأذكر أنّه على مدى سنتين من الزمن تلتا رحيل جدي سليم ظلت الوفود الشعبيّة من مختلف المناطق اللبنانيّة تؤم منزلنا في جبيل لتقديم واجب العزاء، وأذكر من المعزين الدكتور الجراح فيليب متى والشاعر الأستاذ نعيم يزبك والأديب الخوري طانيوس منعم.

كما زارنا في حينه وفد كبير من مشايخ صليما في المتن الأعلى من آل المصري يتقدمهم الشيخ شاهين المصري الذي قال لي بالحرف الواحد:

«لقد كان جدك رمزاً للتعايش والتواصل. ونأمل أن تستمر علاقتنا بكم وتنتقل من الآباء إلى الآبناء والأحفاد».

لقد كان السيّد سليم فعلاً رجل الوحدة الوطنيّة بكل مكوناتها وأطيافها، عنيداً بالحق، قوياً بالصدق والإيمان، جريئاً في محاربة الظلم والعدوان، طلائعياً في معارج البذل والتضحيّة والثواب ونكران الذات، وكان أولاً وأخيراً رجل المكرمات والعطاءات التي لا ينضب لها معين ويسطرها التاريخ بأحرف من ذهب في لوحه المكين، حتى ليصدق «بأبي بهيج»ومآثره وعطاءاته وإنجازاته النوافل، ما قاله المتنبيّ في سالف الأيام:

ولا تحسبنّ المجد زقاً وقينة

فما المجد إلاّ السيف والفتكة البكرُ

وتركك في الدُنيا دوياً كأنما

  تداول سمع المرء أنمله العشرُ