جبيل مدينة التاريخ والروح والعيش المشترك

26/09/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: الأستاذ يوسف حيدر أحمد

جبيل: الحضارة والتاريخ

تقع مدينة جبيل على الساحل اللبنانيّ، ترتفع عن سطح البحر 10م، تبتعد عن بيروت العاصمة 37 كلم، وعن مركز المحافظة (بعبدا) 41 كلم، عدد سكانها 40,000 نسمة وعدد الناخبين فيها 7216 (1)، وهي مركز القضاء الذي يضم 58 قرية(2) تبلغ مساحة بلاد جبيل 1,388 كلم2، تقع في الطرف الشمالي من محافظة جبل لبنان، تمتد بمحاذاة الساحل اللبنانيّ من جسر نهر ابراهيم جنوباً حتى جسر المدفون شمالاً، وشرقاً تتصل بحدود قضاء بعلبك في محافظة البقاع، يفصلها عنها سلسلة جبال عالية يصل ارتفاعها حتى 2500م، وجنوباً يحدها نهر ابراهيم بمياهه المتدفقة، وروعة جماله يحاكي منطقة الفتوح (كسروان) المتاخمة لحدوده، وشمالاً قُرى مبعثرة على إمتداد الحدود مع بلاد البترون(3).

إخترقت مدينة جبيل فجر التاريخ بحضارتها. فكانت من أوائل المدن في العالم، التي ورد ذكرها في القرن السادس عشر ق.م. في الرسالات التي إكتشفت في تل العمارنة(4).

إشتهرت بمزايا وخصائص تفرّدت بها عن سواها، فكانت أقدم وأوّل مدينة تعرِف الحرف، وفيها تمَّ إكتشاف ناووس ملك جبيل(احيرام 1250 ق.م.) الذي صنعه له إبنه إيتوبعل وعليه أقدم ابجديّة في التاريخ(5)، بينما عَثر المستشرق الفرنسي إرنست رينان في قلعة جبيل القديمة على نقش للحروف الهجائيّة. تتألف من خمسة أسطر محفورة على حجر كلسي، إعتبر هذا المستشرق بأنّها تعود للقرن السابع عشر، وبأنّها أقدم عهداً من الحروف التي خُطَّ بها على نقش الملك أحيرام، والتي عثر عليها المستشرق الفرنسي بيبر مونته عام 1923 في أحد المدافن الملكيّة في جبيل(6).

ومهما يكن من أمر تفاوت بسيط في نظريتي التقدير الزمني في إكتشاف الحروف الهجائيّة بين هذين المستشرقين الفرنسيين، إلاَّ أن المؤكد هو تقاطع النظرة، والقناعة عندهما، وبأن زمن إبتكار هذه الأبجديّة مُوغلٌ في أعماق التاريخ.

أطلق الإغريق على جبيل إسم بيبلوس (Byblos) على إسم ورق بردى الذي كان ينقله تجار جبيل في مراكبهم من مصر إلى بلاد اليونان(7). وما زالت المدينة تُعرف بهذا الإسم إلى جانب إسمها العربي(جبيل)(8). وتُعتبر جبيل ذات الإسم السامي القديم، إو جُبال كما وردت في التوراة أو كبنه (Kpni) كما سمّاها المصريون، أو جبلة كما كانت تُعرف في بداية وجودها كأقدم بلدة لبنانيّة ذات تاريخ مُدوّن(9).

سُمِّيت بالسريانيّة Gebel وتعني مصنع الخزف الذي برع فينيقيو جبيل في صناعته وزخرفته، وسُميِّت بالأشوريّة Gubli، وأطلق عليها الصليبيون إسم Gibelet أو Giblet، وقد يكون إسم جبيل في العربيّة تصغيراً لجبل... ويرى البعض أنّ إسم جبيل مؤلف من مقطعين: جب وإيل أي أرض الإله(10).

يقول وزير الثقافة اللبنانيّ كابي ليُّون في معرض حديثه عن حضارة جبيل، وعن فضلها اللغوي والثقافيّ على العالم القديم، بمناسبة عيد الأبجديّة الذي صادف تاريخه في الثامن من آذار. يقول ليون: «مدارس الحقوق في العصر الروماني (64 ق. م. 635م) مدينة لإبجدية فينيقيا، وملاحم الإغريق (الإلياذة والأوذيسه لهوميروس 333 ق. م ـ 64 ق. م.) ألهمت الآداب والفنون الكلاسيكيّة في أوروبا، لم تبصر النور لولا أبجديّة جبيل».

ولم ينكر اليونان هذا الفضل الذي أُنجز على يد الرحالة الجُبيلي المُثقف قدموس الذي قام برحلاته البحريّة من مرفأ جبيل على مركبه الشراعي حول اليونان والعالم، حاملاً معه حروف الأبجديّة، وكنوز فينيقيا ومنتجاتها. فاعتبره اليونانيون معلمهم الأوّل، وحامل صورة الفينيقي الذي نقل المعرفة من الشرق إلى بلاد الإغريق(11).

ولشدّة إعجاب وإفتخار اليونانيين بقدموس، والفيلسوف الفينيقي زينون (333 ـ 262 ق. م.) الذي علَّم الفلسفة في أثينا، فقد أقاموا لهذا الأخير تمثالاً برونزياً بعد مماته، وحفروا على قبره هذه العبارة: «أمّا كفاك فخراً أن فينيقيا موطنك، ألم تُنجب فينيقيّة قدموس الذي جاء بلاد الإغريق وعلم الحرف»(12).

وتمايزت مدينة جبيل بأساطيرها ومراكز عبادتها، فتفاخرت بمعبودها أدونيس(تموز) الذي كان لأعياده السنويّة شهرة كبيرة(13)، وبعشتروت معبودة جبيل، وإلهة والحب والجمال(14).

وكما أصبحت صخور نهر الكلب، متحفاً في الهواء الطلق تروي أخبار الّذين مروا على سواحلنا وذهبوا على حد تعبير المؤرخ وهيب أبي فاضل.(15) كذلك أضحت مدينة جبيل، التي كانت مطمعاً لغزوات الدول المجاورة الكبرى، بسبب شهرتها، وعراقتها الدينيّة واللغويّة، وازدهارها الإقتصاديّ والتجاري، وتبعاً لذلك أصبحت جبيل غنيّة بالآثار المتنوعة بحسب جنسيات وحضارة الّذين استعمروها وتأسيساً على ذلك فقد عُثر في بيبلوس على آثار الإنسان الانيولتي Neolthique (إنسان العصر الحجري الحديث أو المصقول 8 آلاف سنة ق. م. حتى 4 آلاف سنة ق. م.)(16)، والفينيقي والأموري، وآثار الهكسوس، ومصر، والآشوريين، والبابليين والفرس واليونان، والرومان، والبيزنطيين، والعرب، والصليبيين، والأتراك، وآثار لبنان عبر عصره، حتى أصبحت جبيل متحفاً يجمع آثار البشر عبر العصور(17)، واستمرت جبيل لقرون طويلة غارقة في تقديس الأوثان، إلى أن دخلت المسيحيّة لبنان مع تكريس السيّد المسيح بشارته في أورشليم وبيت لحم، فتكرّست الوحدانيّة في بيبلوس للخالق الواحد وإنْ بخطى بطيئة ولكن بثبات وعزم.

 

دخول المسيحيّة إلى جبيل

وكانت بداية دخول المسيحيّة لبنان. عندما دخل السيّد المسيحQ، الجنوب اللبنانيّ، وترك نواحي صور، ومرَّ بصيدا راجعاً إلى بحر الجليل عبر أراضي المدن العشر»(18).

وأعقبت هذه الزيارة المباركة، ولإكثر من مرَّة، إنتقال القديس بطرس أحد حواريي المسيح من أورشليم إلى انطاكيا عبر بيروت(19)، كما أوفد هذا القديس تلميذه يوحنا مرقص إلى جبيل، وعيّنه أسقفاً عليها(20)، وتشير بعض الروايات المؤكدة إلى أن الرسول القديس يوحنا مرقص الذي قام برحلات تبشيريّة في أسيا الصغرى، وأسس في بيبلوس أولى الرعايا المسيحيّة، هو الذي شيّد كنيسة فيها وأطلق عليها إسمه(21)، وتأسيساً على ذلك، تُعتبر أسقفيّة مار يوحنا مرقص في جبيل بأنّها كانت الركيزة الأولى لدخول النصرانيّة إلى لبنان(22)، وإنسحب الأمر لاحقاً، على نهج مدينة جبيل في إرسال الدعاة، ونشر الدين المسيحيّ في المدن الساحليّة اللبنانيّة(23).

دخول الإسلام إلى جبيل

وبعد ما ينيف على ستة قرون من الزمن على وجود المسيحيّة في جبيل تعانق الإسلام والمسيحيّة في هذه المدينة بدخول الدين الإسلاميّ إليها مواكباً الفتح العربيّ للساحل اللبنانيّ (صور، صيدا، جبيل، عرقا) على يد القائد العربيّ يزيد بن أبي سفيان بمعاونة شقيقه معاوية، حيث وصل إلى ساحل جبيل عام 15 هـ، الموافق لعام 636م،(24). وشيّد مسجداً(25) فيها(26).

وكان في عداد المشاركين في هذه الفتوحات لمدينة جبيل، قبيلة خزاعة المعروفة بتشيّعها لبني هاشم في الجاهليّة والإسلام، كما شارك أيضاً من صحابة رسول الله(ص)، والمعروفين بتشيّعهم كل من هاشم بن عتبة المرقال، وحجر بن عُدي الكندي، ومالك بن الأشتر النخعيّ وبلال بن رباح(27).

بالمقابل، وعلى الضفة الأخرى للشريعة المسيحيّة، كانت المعلومات التاريخيّة الإسلاميّة تنقل إلينا عن فجر جبيل الإسلاميّ بأنّ جبيل بعد دخول الإسلام إليها أضحت ثغراً يرتاده الزهّاد والعبّاد أمثال ابراهيم بن أدهم، وخلف الدارمي وابن ابي الحواري، وعيسى بن عبيد الجبيلي وغيرهم(28).

وكان الزهّاد يرتادون مسجد جبيل للعبادة، وطلب العلم والإستماع إلى رجال الحديث والمحدِّثين أمثال إسماعيل بن حصن الجبيلي وتمام بن كثير الجبيلي وعبيد بن حيان الجبيلي وآخرين(29).

وكان محمد بن ياسر أبو بكر الحذّاء في بعض فترات العصر العباسي: إماماً لمسجد جبيل إستوطنها وروى عنه قيس بن بشر الجبيلي وأحمد بن عامر الدمشقي وجعفر بن محمد الكندي، والحافظ الطبراني، وقد سمع منه بجبيل أثناء طلبه العلم(30).

كما كان العابد الزاهد إبراهيم بن أدهم، يعقد في مسجد جبيل مجالس للحديث، فكان يقصده الطلبة ويسمعونه(31).

وقد أثرى كثير من المحدثين الجبيليين حركة الحديث في جبيل وغيرها من المدن اللبنانيّة، وكانوا مقصد الحفظة والرواة من أنحاء بلاد الشام وغيرها(32).

وأمّا مسجد الخضر والذي بُني منذ مئات السنين جنوبي مدينة جبيل، فقد كان المسلمون قديماً، وما زالوا يفدون إليه ليتبرَّكوا منه، وكان يرتاده أيضاً الكثير من أبناء جبيل على إختلاف مذاهبهم لإضاءة الشموع، ووفاء نذورهم بعد الشفاء من بعض أمراضهم(33).

كذلك كنسية سيّدة مارتين التاريخيّة التي تقع على الساحل الجنوبيّ لمدينة جبيل، والمجاورة للأوتوستراد الدولي الذي يربط بيروت بالشمال، والتي تُعرف اليوم بكنيسة سيّدة البحار فقد كان الزوَّار القدماء يلتمسون شفاعتها خصوصاً في موسم قطاف دودة الحرير، إضافة إلى أنّها كانت شفيعة السائقين(34).

والرَّحالة العربيّ الأندلسي إبن جبير(ت 1219م.) ومن خلال رحلته إلى المشرق العربي ومروره بجبل لبنان وصور ما بين(1182 ـ 1185) يصف جغرافيّة وجمال جبل لبنان بأنّه من أطيب جبال الدنيا، فيه أنواع الفاكهة وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة، ثُُمَّ يعرِّج على ذكر الجو الروحي لأهل هذه البلاد بقوله عن جبل لبنان:«قلّما يخلو من التبتل والزهادة»(35).

وبعد التمدد الديموغرافي، الذي اصاب مدينة جبيل والزحف السكاني من قراها الجبيليّة إلى ساحلها، طلباً للعلم والإرتزاق والسكن، ناهيك عن التطور الثقافيّ، وإنتشار الوعي الدينيّ، ازاء كل ذلك، إستدعي عفواً بناء الكثير من بيوت العبادة المسيحيّة والإسلاميّة في كل قرية ودسكرة من مدينة جبيل وضواحيها، تقرباً لله. وطلباً للإطمئنان النفسي ولملء الفراغ الروحي، والشفاعة وهذا الأمر يدلُّ دلالة واضحة. على أن الجبيلي قديماً أو حديثاً ـ وإن غزته الحضارة الحديثة الصاخبة بكل تقنياتها وتداعياتها فقد بقي عامراً بالخشوع والإيمان، والإرتباط بخالقه السماوي بحكم الوراثة التاريخيّة وبحكم إرتباط فكره ووعيه بإله الكون.

العيش المشترك نصاً وروحاً

واكبت ميزة الإيمان التي لازمت أبناء جبيل في شتى مراحل حياتهم وأزمانهم ميزة أخرى. لا تقل عنها أهميّةً واستحساناً ونبلاً ألا وهي نعمة المحبة والتواصل الإجتماعي والعيش المشترك المسيحيّ ـ الإسلاميّ والتي تجلّت على مدى الأزمان والتي لم تستطع النكبات ولا العواصف الإجتماعيّة والسياسيّة التي حلّت باللبنانيين من أن تقتلعها من صدور الجبيليين، لأنّها كانت لصيقة في جذورهم وأعماق وعيهم الإجتماعيّ ورؤياهم الإنسانيّة والأخلاقيّة والدينيّة، فإذا ما واكبنا المسار التاريخيّ لهذا التعايش عند أبناء هذه المدينة المُقدّسة لوجدنا أن ما سنتحدّث عنه كان ناصعاً مُشرِّفاً بكل ما تتسم به الكلمة من شفافيّة وصفاء ووضوح.

يُخبرنا الرحالة إبن جُبير عن شعور المسيحيين اللبنانيين الرحيم والودود نحو زهاد المسلمين وعُبّادهم في مناطق جبل لبنان بقوله:«ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به بعض المنقطعين (إلى الله) من المسلمين، جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، ويقولون هؤلاء ممن إنقطع إلى الله عزّ وجل فتجب مشاركتهم(36).

مقابل هذا الشعور الروحيّ والإجتماعيّ والوجدانيّ، كان المسلمون يتعاطفون ويُدافعون عن المسيحيين الذين تعرَّضوا للظلم والإضطهاد. كما حدث لنصارى المنيطرة(جرود جبيل) الذين قاموا خلال سنتي(759 ـ 760م) بأوّل ثورة في لبنان ضد تعسُّف العباسيين وظلمهم لهم بفرض الضرائب عليهم. فما كان من العامل العباسيّ صالح بن علي إلاَّ أن هاجم القرى الثائرة وشتّت سكانها في أنحاء البلاد، الأمر الذي أثار حفيظة الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي(ت 157هـ) في حينه، وجعله يرفع الصوت إحتجاجاً امام الخليفة العباسي المنصور على معاملته النصارى دون تمييز باجلائهم عن قراهم(37).

كما بعث برسالة شديدة اللهجة إلى عامل الخليفة صالح بن عليّ يستنكر فيها ظلمه وتهجيره النصارى قائلاً له ناصحاً. «أحقُّ الوصايا بأن نحفظ وصية رسول اللهPوقوله:(من ظلم معاهداً أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه [ يوم القيامة). من كانت له حرمة في دمه، فله في ماله والعدل عليه مثلها، فإنهم ليسوا بعبيد فتكونوا من تحويلهم من بلد إلى بلد في سعة ولكنهم احرار أهل ذمة...»(38).

وما كان يُعزز هذه اللحمة المسيحيّة ـ الإسلاميّة، هو أن الجبيليين كانوا يحبون بعضهم ويتمسكون بالسلم الأهلي، بدليل أن الجبال اللبنانيّة في عهد الصليبيين كانت موطن تبتل وزهادة وكان الوفاق مسيطراً بين المسلمين والنصارى من سكان لبنان، ولم يكن إختلاف في ما بينهم، بالرغم من الحروب التي كانت قائمة بين المسلمين والصليبيين(39).

ويشير المؤرخون إلى أن بلاد جبيل نُعمت بنسيج الوحدة الوطنيّة، وأن الأزمات ووحدة المصير كانت تجمعهم مثلما وقف الشيعة في منطقة جبيل في عامية لحفد (1821م) إلى جانب مواطنيهم المسيحيين ضد الإقطاع في فرض الضرائب المرهقة، كما كان نفوذ هؤلاء الشيعة بزعامة سعيد حماده ومن بعده إبنه سعد الله قد إقترن بحسن الإدارة وطيب المعاملة، بينما كان التفاهم قائماً بصورة مستمرة بين أبناء المنطقة(40).

أمّا الحرب الأهليّة التي عصفت بجبل لبنان في أيار 1860 (عام الهيجان) لم تكن من تخطيط اللبنانيين ولا صنيعتهم، وكانوا هم أدواتها ووقودها.. لم تكن مجرد حادث محلي بين الدروز والموارنة، بل كانت جزءاً من المسألة الشرقيّة (صراع إستعماري فرنسي، انكليزي، روسي لاستلاب ثروات الشرق، ولبسط نفوذهم وسياستهم الخبيثة على شعوبه)، والمسؤوليّة النهائيّة توزع على جميع الدول المعنيّة بهذه المسألة(41).

وكان من تداعيات هذه الحرب القذرة هجوم يوسف بك كرم (الأهدني) على جرود جبيل وتدميره 284 منزلاً شيعياً(42). وهجوم طانيوس شاهين (الكسرواني) على شيعة جبيل وكسروان ونهبهم، وسرقة ممتلكاتهم التي تعرّضت للهجوم، لم يكن من فعل موارنة جبيل، بل كان من طانيوس شاهين وعصاباته حيث لم يراع في ذلك جانب أحد، ولم يحترم أحداً لأنّ غرضه بذلك كان تغطيّة فشله في حربه مع دروز الشوف(43).

وكان الموارنة كالشيعة في بلاد جبيل، مغلوباً على أمرهم، وقد فعلوا ما باستطاعتهم للدفاع عن جيرانهم الشيعة، كما فعل المسيحيون في فتوح كسروان بقيادة الخوري جرجس زوين عندما منعوا طانيوس شاهين وجماعاته من إحراق منزل الحاج علي يحيى عمرو والد النائب الحاج كاظم عمرو في المعيصرة، وحافظوا على حياة من بقي في المعيصرة(44). وكان إنجاز الشيخ حسن همدر (ت 1881) مُهمّاً بإعادته الشيعة في جبيل وكسروان إلى قراهم بعد فتنة 1860 بالتفاهم والتنسيق مع البطريركيّة المارونيّة(45).

وللتدليل والتأكيد على المحبة وحسن الجوار والتعايش بين الشيعة والموارنة في بلاد جبيل وكسروان، فإنّ البطريرك الماروني بولس مسعد عندما قابل السلطان العثماني في اسلامبول طلب منه إنصاف الموارنة والشيعة في حكومة المتصرفيّة (1861 ـ 1914)، فتعجّب السلطان من ذلك ومن محبة البطريرك للبنان وللإنسان فيه(46)،

وعندما جاءت أحداث 1958 حدثت إضطرابات وتظاهرات عمَّت لبنان، وقسَّمت الشعب بين مؤيد للوحدة العربيّة ولسياسة عبد الناصر، وبين مُتطلع إلى الغرب، وإلى تمييز لبنان عن أشقائه، وحصلت في جبيل بعض الإستفزازات الكلاميّة بين المسلمين والمسيحيين إلاّ أن العلاقة الجيدة التي ربطت بين سليم عبد الحميد اللقيس، وبين رئيس بلدية جبيل إبراهيم زعرور آنذاك هدّأت النفوس وابقت على روح التعايش بين ابناء المدينة(47).

وثمّة حادثة أو طرفة لطيفة تدُّلك على الحب والإيثار والتقدير والعيش الأصيل عند الجُبيليين، لا سيما لدى الزعماء والوجهاء منهم وتتلخص القصة بأنّ أهل جبيل قرَّروا في أربعينيات القرن الماضي إنتخاب مختارين للمدينة، على أن تفصل بين موقعهما قناة المياه، فيكون المختار غربي القناة مسيحياً وشرقي القناة مُسلماً، إلاَّ أن سليم عبد الحميد اللقيس فاجأ الجميع بحماسته وحكمته وانتفض قائلاً مُوجهاً حديثه إلى مختار جبيل المسيحيّ كليمنصو كُميد:«أنت يا كلمنصو تُمثِّل أهالي جبيل فوق القناة وتحتها(48).

وعلّق فضيلة الشيخ غسان اللقيس على هذه الحادثة بقوله «رفض مسلمو جبيل أن يكون لهم مختار خاص بهم، وطلبوا أن يكون لمدينة جبيل مُختار واحد للمسلمين والمسيحيين وانتُخب مختار مسيحيّ لكل مدينة جبيل. نرفض أن نعتبر فئة منفصلة عن باقي المواطنين في جبيل فنحن نعتبر أنفسنا مع المسيحيين مواطنين لمدينة واحدة(49).

مع أحداث عام 1975م.

وعاش لبنان أحداث 1975 الداميّة التي شلّت البلاد والعباد وعاثت فيهما قتلاً ودماراً وتهجيراً. لكن جبيل وحدها صمدت بوجه الفرز الدينيّ والسياسيّ، بسبب صلات المودة والتآخي والإلفة التي ربطت عائلاتها المختلفة والمُتعدِّدة المذاهب، وبفضل وعي قياداتها والقيميّن على شؤونها الذين كان همهم الأوّل الحفاظ على السلم الأهلي، وعلى رأسهم المهندس كمال القرداحيّ