محمد بعلبكي الجرأة والإقدام والسّماحة

18/5/2017
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

في مجمع حزين، تحاشد المحبّون، من أهل المهنة وغيرهم، من رجال القلم والأدب والسّياسة، لوداع النقيب المرحوم محمّد بعلبكي، وفي القلوب حسرة وفي العيون دمعة..

محمّد بعلبكي في محراب صاحبة الجلالة الصِّحافة، أميرُها، وفي حضرة الأدب والسياسة، تاجُها المرصّع بالدُّرر.. تربّع على عرش الكلمة الحرّة خاشعاً، يختال القلم، على بيانه، ويواكب دَفْقَهُ بحنان عينيه ليستقرّ في أمانة الحروف المتلألئة حيث تتراقص صُور اللوحات على صفحات النّور المكلّلة بنبض الحياة وبمداد يراعته الساحرة، فإذا بجبين المهنة المئناف، يُرصَّع بذهب الكلام في مواسم الصّمت...

آمنَ بلبنان وبعروبته.. وكان يقول للأرض المباركة.. أنتِ منبت الأحرار ومنهل الخير والسُّؤْدد، منجم الحقّ والحبّ والجمال.. وكان، رحمه الله يُحلّق في فضاء ليس فيه إلا النّسور والكواكب يرصد كنوز الإشعاع ويملأ الساحات بِسَكب التّوهّج النوّراني وبصبيب اللُجين ورأسه على جيبن الشمس.

محمّد بعلبكي تَوأَم الشموخ بعنفوان شجرة الأرز.. دخل محراب الصحافة مُطهَّراً من أدران الأنانيّة.. همّه الوطن والإنسان.. خاطب العقل والروح.. وتنسّم عبير الفكر بلغة الحس المرهف، كما الشهد، في ضمير المهنة الشريفة..

يقول محمّد بعلبكي، بدأَتْ لوحة الحزب تأخذ حيّزًا في مشاعري ولكن من دون أن أصبحَ جزءًا من ألوانها.

شخصيات عديدة تركت بصماتها في حياته منذ يفاعته وساهمت في تكوُّن هُويّته الإعلاميّة والدينيّة والسّياسيّة، منهم الأستاذ نور الدين المدور، مُدرّس اللغة العربية، الذي اكتشف في تلميذه قوّة التعبير بالعربيّة كتابةً وتحدّثاً، فَرَغِبَ له الصحافة مهنة له، ودعاه إلى العمل في إحدى الصحف وَتَعلُّم تنضيد الأحرف وتصحيح المواد، كما إلى كبريات الصحف آنذاك مثل جريدة اليوم لآل الطيبي، وصوت الشعب، وصولاً إلى رئاسة تحرير العروة الوثقى منبر العقيدة القوميّة العربيّة.. وبعد ذلك فتح له المرحوم الرئيس تقي الدين الصلح أبواب جريدة الدّيار ليتولّى مهمّة سكرتارية التحرير قبل تخرّجه من الجامعة الأميركيّة في بيروت حائزًا شهادة في الأدب العربي بدرجة امتياز.

لم يتخلَّ عن الصحافة فأسّس جريدة كلّ شيء في العام 1974 مع سعيد سربيه.. وهناك ابتكر صحافة الأدب السياسي، وأرسى، بوسع الأساطير، مفاهيم الصمود.. اعتزّ بصولجانها المداد المتدفّق من الحنايا، كلّما هبّت ريح الصّبا تفتن الدّنيا بنسيمها المعطاء..

ما أصفاه وما أنقاه، رحمه الله، حين كنّا نلتقي به فيبادرني بالقول.. أنا منكم وإليكم.. أنا بعلبكي يا دكتور شمص ولست بعيدًا عنكم.. قَوْلٌ يُسعدك جَرسه ويُنمّي حبّك له، ويُقرّبك إليه.

امتدّت صداقتنا من العام1957، بداية عملي الصحفي في مجلةالإثنين المصوّرة وفي جريدةالشعب وفي غيرهما.. وفي مكتبه في مركز النقابة كان يستقبلني عند صدور ديوان شعر لي أو كتاب أدب، ويُلبّي دعواتي لحضور حفلات التّوقيع في مركز النقابة أو في قصر الأونيسكو ويتحدّث ناقدًا ومُشجّعًا.. ألا فنِعمَ الأرومة ونعم الكيان...

من الناس مَن تذهب أجسادُهم، وتبقى آثارهم التي لا تُمحى. محمّد بعلبكي عاد إلى ذكريات الأمس.. إلى عذوبة الأيّام والصّباحات الحانية، سيبقى في أذهان الجميع وفي قلوبهم.. ولن يغيب عن الأحاسيس وعن المشاعر التي وضعها الله في قلب كلّ من عرفه وأخلص له من اللبنانيين والعرب...

ألف ألف سلام لصمت الأمكنة ولعزلة الأعماق ودهشة الوداع وضراوة الفراق وحيرة الألم وخوف النهايات.

لن تقف الآهات ونحن في غروب شمسٍ وعتمة ليل، حيث تتكسّر أمواج وألوان الشمس، وحيث يُلوّح ملح الفراق منارة الوجود، تغازله عناكب الخوف من الآتي في ظلّ أسوأ مرحلة من تاريخ الوطن...

محمد بعلبكي، بُورِكتَ جَسَداً وفكراً وروحاً خالدة.. ويا أيّها السّائرون في دروب الحياة على نَدَبات خواطركم وعلى ضآلة المسافة.. ها هي الأيام وها هو الموت، هادم اللّذات ومُفرّق الجماعات، الوَجع الذي يفتح فُوّهة القلب باتّجاه أعمدة النار.. ويا ابتهال أزيز الصخر، عَلِّمْنا كيف نعيش وكيف نتواضع ونحن نحلم بالبقاء، وبين الحين والآخر ينقص منّا واحد... فلا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

د. عبد الحافظ شمص(1 )

 

الهوامش:

(1) وفق الله تعالى، الدكتور شمص مستشار التحرير في «إطلالة جُبيليّة والعضو الأكبر سناً في هيئة التحرير المحامي الأستاذ الحاج حسن مرعيّ برّو ورئيس التحرير للذهاب إلى نقابة الصحافة اللبنانيّة في بيروت عصر يوم السبت في 25 أذار 2017م. للتعزية بالراحل الكبير . بإسم هيئة تحرير هذه المجلة. أدلى الدكتور شمص بهذه الذكرى كلمة للوكالة الوطنيّة للأنباء وسجل كلمة أخرى تعزية في سجل النقابة بإسم «إطلالة جُبيليّة.