ثمن الإنتظار

09/04/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

عدت بعد غربة دامت عشرين عاماً، وقفت أمام بيتنا في القرية وصور الأيام الغابرة تتدافع وتتلاحق في مخيلتي، والشوق يعتصر قلبيّ، رحت اقترب رويداً رويدا حتى وصلت باب بيتنا، فمددت يدي برهبة الخائف من مفاجآت الزمن وبحنين المشتاق إلى صفاء الروح وصدق المحبة. طرقته طرقات خفيفة يقابلها الآلاف في قلبي، تسارعت الكلمات في خاطري وتهيأت لملاقاة أمّي ولكن سرعان ما اندثرت وتلاشت مع سماع صرير الباب وفتح مصراعيه، لحظة لن أنساها ما حييت امرأة غريبة في مقتبل العمر انتصبت أماميّ سألتني:ماذا تريد؟ تلعثمت وأحسست بأن الحياة ستختصر إقامتها في جسدي تمالكت نفسي وسألتها:مَنْ تكونين؟ وأين صاحبة هذا البيت؟ عندها عادت مسرعة إلى الداخل وأحضرت بطاقة صغيرة ودفعتها إليّ قائلة: ستجدها هناك في مأوى العجزة، والعنوان على البطاقة التي بين يديك ثمّ أغلقت الباب بعد أن إعتذرت عن عدم إستقبالي.

حملت حقيبتي وركبت أوّل سيارة أجرة مرّت أمامي وأنا أشعر بعظيم جرمي وتقصيري. لا أعلم متى وصلت وكيف دخلت بهو دار العجزة، ولكن كُلّ ما أذكره أنني وجدت نفسي أمام المسؤولة هناك فسألتها عن أُمي فأرشدتني إلى غرفتها  مشيت في ممر طويل أشبه بليال الآلام والأوجاع حتى وصلت إلى باب غرفتها فطرقته وكان في كُلِّ طرقة خنجر يغمد قلبي فيدميه، ويحدث فيه جراحاً لن تلتئم مدى العمر.

فُتِحَ الباب بهدوء وأطلت أماميّ بوجهها الشاحب شحوب ليالي الغربة وقد خُطّت فيه سنوات الإنتظار والعذاب ما تشاء من تجاعيد لتبرز لكل من يراها أثار عقوق الأبناء وفداحة أخطائهم، تأملت وجهي مطولاً بنظرها الشحيح فعرفتني بالرغم من تغير شكلي وحجمي، فإحساسها بي لم يتمكن منه الزمن عانقتها وارتميت على صدرها ورحت أَشمُّ رائحة تعبها وإنتظارها تلك الرائحة التي سرت في روحي فأنعشتها.

بكيت وبكيت على صدرها وكأنني طفل صغير أغوته تجارب الحياة، وعندما أخطأ عاد بدموع التوبة والندم.

لم تتفوّه أمي بكلمة واحدة بل رفعت وجهي بين يديها وراحت تتلمّسه وكأنّها تقرأ في ملامحه ما سطّرت أيام الغربة ولياليها.

نظرت إلى عينيّ بحنان دافئ سرى في دمي وجوارحي فأذاب صقيع جفاء النّاس والخلان وكأنّها تبحث عن بقايا تاريخ فقدته منذ زمن.

برقة أمسكت يدي وراحت تتحسّس في راحتها آثار التجارب لتضمدها ببلسمها الشافي قُبلةً فيها كل الحبِّ والحنان.

أجلستني على السرير بجانبها ومن دون أن أَدري توسدت حضنها كما كنت وأنا صغير وألتحفت بدفء حنانها، وراحت دموعي تروي لها حكايا الغربة الطويلة.

ولأوّل مرة منذ عشرين عاماً شعرت بالأمان وراحة البال وبأنني أستطيع أن أغمض جفنيّ على أحلام وزعتها في جنبات الدار وعلى المصطبة وفوق شجرة الجوز وتحت شجرة التوت حيث بنيت قصوري ودفنت كنوزي وكنت الملك الفارس والبطل الهمام فتمّنيت لو ينساني الزمن وأنا بهذه الحال.

بعد نشوة اللقاء قمت من على السرير وجثوت على ركبتي أمامها وطلبت منها أن تسامحني وتغفر لي بعدي عنها كل هذه السنين. طلبت منها أن تعود معي لأعوّْضها عن كل الحرمان ولحظات الاسى، ولأمسح من روحها لوعة الإنتظار. فتحتُ حقيبتي وأخرجت منها غَلَّة سنين التعب والشقاء، ووضعتها تحت قدميها، وكم كانت دهشتي عظيمة عندما نظرت إليّ وقالت بصوتها الهادئ: إذهب يا بُني وخذ معك غلَّة تعبك وثمرة انتظاري وألمي، إنّ ما فات لا يعوّض بمال الدُنيا، دعني أسير في طريق أشرف على نهايته، إذهب وابحر في يَمِّ الحياة على متن مركبك الذي صنعته بنفسك ولا يتسع إلا لشخص واحد هو أنت، ولكن كل ما أرجوه منك أن تذكر ولو في أحلامك أًماً باعت عمرها للتعب والآلم من أجل وحيدها الرضيع بعد موت زوجها، تركت كل مُتعِ الحياة ومغرياتها لتربيته، وعندما لمعت أَمامهُ أَنوارَ الحياة هجرها ورماها في عالم النسيان دون علم أو خبر.

ولدي أنا أُحبك ولم أنسك يوماً رغم ما فعلته، ولكن تذكر يا ولدي أن الحبُّ الذي يترجم في حياتنا سلوكاً وعملاً يبقى ناقصاً ولا يسمو لدائرة المحبّة الخالصة وصفاء الروح.

بعد هذه الكلمات نامت أمي في سريرها ولم تستيقظ حتى اليوم.

 هي إبنة بلدة كفرسالا ـ عمشيت، أكملت دراستها الثانوية في ثانوية جبيل الرسميّة، ونالت إجازة الأداب من الجامعة اللبنانيّة، دخلت عالم التربيّة والتعليم منذ عشرين سنة، في مدارس المبرّات الخيريّة، تُعرف بالحاجة أم مصطفى نمرة حسين حيدر أحمد، شاركت في تأليف كتب التربيّة التكامليّة، لها عدّة مشاركات في التأليف الحر.