في الطريق الى الله

14/7/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الحاجة نمرة حيدر أحمد(1)

من قال أنّ الكبار دائماً أكثر إدراكاً ووعياً من الشباب ؟من قال أنّ تقدّم عمر المرء يرافقه نضج في العقل ونموٌّ في المعرفة ؟

كم من انسان عاش ردحاً من الزّمن ولم يحصّل في حياته إلاّ ما يشبع هوى نفسه وجسده. وكم من شاب في مقتبل العمر صهرته تجارب الحياة فزادته وعياً وحكمة وإيماناً، فكان في هذه الدّنيا كقبس من نور أوقده الله ليضيء به عتمة العقول والألباب من حوله، وكبرعم  يقظة في عالم خبت قيمه وغطّت في سبات عميق .

طبعاً ستسألون عن سبب هذه المقدّمة ومغزاها ولكن بعد قراءتكم لهذه القصة ستحصلون على الجواب.

كان يوم سبت وقت فرصة الطعام في المدرسة، سمعت طرقاً خفيفاً على باب مكتبي، فأذنت للطارق بالدّخول، إنّها تلميذتنا رشا من الصف التّاسع الأساسي، استأذنتني لتجلس، فأومأت لها بيدي، فجلست ،اختلست نظرة الى وجهها فرأيتها مرتبكة وفي عينيها كلام يحتاج الى شرارة تطلق عنانه، سألتها وأنا أتابع تدقيق بعض الأوراق بين يديّ: هل لديك ما تقولينه يا رشا ؟

نظرت إليّ وقالت: أنا أثق بكلامك وأعرف أنّك صريحة وتصدقين  القول ثمّ توقفت عن الكلام هنيهة فسألتها: ما سبب هذه  المقدّمة يا عزيزتي؟ ردّت بحياء: أنظري إليّ بإمعان، أيعجبك شكلي ومظهري وأنا أرتدي الحجاب؟ تعجّبت من سؤالها فأجبتها قائلة: أجل يا حبيبتي أنك جميلة الشكل ولطيفة وما يزيد من جمالك حسن تصرفك وأخلاقك وما أقوله لك لا مجاملة فيه .

إذاً لمَ تقول لي أميّ دائماً «انزعي هذا الحجاب عن رأسك خارج المدرسة فإنك تبدين كالعجائز وأنت ترتدينه ولن ينظر اليك أحد».

وأنت يا عزيزتي هل أقنعك كلام والدتك ؟

طبعاً لا،ولكن عندما يساندها أبي وتسلط عليّ أخي وأختي أشعر بالضيق وبأنني وحيدة .

ما سرّ اقتناعك بالحجاب مع العلم أنّ المحيط من حولك لا يشجعك على ذلك ؟

لقد جرّبت يا معلّمتي الحياة مع الحجاب والصلاة وجرّبتها من دونهما وعرفت الفرق بينهما وزادت قناعتي بما أنا عليه الآن.

سألتها باستغراب: وما كان الفرق يا رشا ؟

أجابتني باندفاع: عندما كنت من دون حجاب وصلاة، كانت رحلتي في الحياة كسباً لرضى الناس ونيل استحسانهم وإشباعاً لغروري وحبيّ لنفسي وشعوري بأني الأفضل والأحسن والأجمل بين أهلي وأقاربي.                             

شدّني كلامها فاندفعت قائلة: وما الّذي غيّرك ؟

الّذي غيّرني كتاب قرأته بالصدفة بعد أن شدّتني المقدّمة فيه عن سير نساء اشتهرن في التاريخ وكان من بينها سيرة السيّدة فاطمة، والسيدة مريم، والسيدة زينب (عليهن السلام)، وغيرهن من النساء اللواتي ناضلن وتركن للأجيال نهجاً لن يمحوه الزّمن ولن تقوى عليه أعاصير التغيير والفساد. إنّ هذا الكتاب جعلني أقف مع نفسي لأسأل من أنا؟ ومن نحن مقارنة بهؤلاء؟ ماذا قدّمنا للحياة وللتاريخ بالرّغم من توفر كلّ وسائل الراحة والرّفاهية؟ فلم أجد جواباً ناجعاً، فقرّرت أن أحضّر نفسي لأسير على نهجهن في المستقبل، إنّ السير الى الله على خطى من يحبونه يجعلني أقوى وأصلب ويحضّرني لمواجهة الحياة وتحمل مصاعبها بصبر وأيمان. لقد وصلت الى قناعة راسخة أنّ كلّ ما لدينا في هذه الدّنيا من مال وجاه لا يحمينا من قدرنا ومن لحظات الألم والحزن والخيبة، ولا يبعد عنا شبح الموت. فهذا خالي شاب في ربيع العمر ورث الكثير من المال عن جدّي ولكن كل ذلك لم يحمه من لحظة يأس أودت بحياته، وأورثتنا الحزن والأسى. فبعده عن الله جعله يصل الى اليأس ويخسر حياته.

وهذه أمّي يحسدها الجيران والاقارب على الرفاهية التي حظيت بها وعلى السعادة التي تحياها مع أبي ولكن كم من الليالي كنت أراها تجلس لوحدها والحزن يكتنفها والدموع تنهمر من عينيها، وعندما كنت أسألها عن السبب كانت تطلب لنفسها الموت لترتاح. انّ انشغال أمّي بأمور الدنيا وابتعادها عن الله جعلاها تشعر باليأس عند كلّ مشكلة.

في جعبتي الكثير من القصص التي تثبت لي أنّ ابتعاد الانسان عن الطريق المرسوم له نتيجته الضياع والهلاك، إنّ من يرى ويقرأ ويجرّب ولا يتعلّم  يعتبر أعمى العين والبصيرة وأنا لا أريد أن أكون كذلك.

سكتت رشا وأطرقت رأسها واغرورقت عيناها بالدموع، فقمت من وراء مكتبي وجلست قبالتها، أمسكت يديها وسألتها: بمَ تشعرين الآن؟

أجابتني وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة شاحبة بلون هذا الزّمن: لقد ألقيت حملاً كان يثقل كاهلي وأحمله لوحدي بصمت، أما الآن فأنا أشعر بأنّ هناك من يشاركني أفكاري وأحلامي. الى الآن يا معلمتي لم أسمع رأيك بصراحة بما قلت.

أجبتها والفرحة تغمر قلبي لسماعها: إنّ ما سمعته منك جعلني أكبر فيك رجاحة عقلك وحكمتك بالرغم من صغر سنّك، وأنا أفخر بأنّ علاقتي بك أثمرت ثقة وصداقة مع فارق العمر بيننا. إن من سار مع الله لم يندم وجعله عزيزاً ومستغنياً عن الناس محبوباً منهم. وأنت هكذا يا عزيزتي وردة بين رفاقك يعبق شذاك في نفوسهم حُبّاً واحتراماً.

إنّ الله يأمرنا بطاعة الوالدين إلاّ في معصيته فحاولي أن تكوني برعم هداية في حياة أسرتك وليكن الدّعاء، والعمل الصالح، والكلمة الطيبة سلاحك.

نهضت رشا من مكانها، أمسكت قلمي وكتبت على ورقة بيضاء كانت على مكتبي» يكفيني لأكون سعيدة ومرتاحة أن أجد في حياتي من يحبّني لذاتي لا لشكلي ومظهري ويشاركني قناعاتي ويكون حاضراً عند طلب النصيحة» ثمّ طبعت قبلة على خدّي وخرجت من المكتب.

رشا اليوم ستتخرج طبيبة أطفال، ما زال الحجاب تاجاً تكلل به رأسها، والصلاة رفيقة دربها. وقد استطاعت ان تكون برعم الهداية لأسرتها التي ستتابع معها رحلتها في الطريق الى الله.

 

هي إبنة بلدة كفرسالا ـ عمشيت، أكملت دراستها الثانوية في ثانوية جبيل الرسميّة، ونالت إجازة الأداب من الجامعة اللبنانيّة، دخلت عالم التربيّة والتعليم منذ عشرين سنة، في مدارس المبرّات الخيريّة، تُعرف بالحاجة «أم مصطفى» نمرة حسين حيدر أحمد، شاركت في تأليف كتب التربيّة التكامليّة، لها عدّة مشاركات في التأليف الحر.