على ضفاف العمر

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الحاجة نمرة حيدر أحمد

 

وأنا صغيرة، كنت أنتظر أميّ لتروي لي قصصاً عن طفولتها وعن الماضي، وكانت هذه القصص تحمل في طياتها عبق هذه الحقبة من الزمن بكلّ ما فيها من قيم راقية حكمت سلوك النّاس والعلاقات في ما بينهم. لقد حلّقت روحي في دائرة تلك الحقبة من دون أن أدري، وعندما كبرتُ عشت صراعًا عنيفاً مع نفسي حتى تمكّنت من التأقلم مع واقع هذا الزمن وتغيراته المتمثلة في تغييب القيم وتحويلها عن مسارها أحياناً، وفي كسر مفهوم التقاليد والأعراف الّتي طالما سمعنا عنها وعشنا في رحابها فترة قصيرة قبل الحرب.

وبطل قصتي اليوم شخص نشأ في جوّ أسريّ زاخر بالقيم الّتي أثرت حياته، وتأصّلت في نفسه، بالرّغم من كلّ مظاهرالعصرنة الفارغة، الّتي تعتبر الأصالة وصمة تخلّف في مجتمعنا.

رامز هو جارنا، بيته مقابل بيتنا، كنت في الثامنة من عمري بينما كان في ريعان الشّباب. نشأ في أسرة متواضعة في معيشتها، ثريّة بالقيم وعزّة النّفس، بين أختين إحداهما تكبره سناً وتعاني من تشوّه خلقي في وجهها ولكن منّ الله عليها برجاحة العقل وحسن الخلق.

كأيّ شابٍ وحيد، كان محطّ اهتمام أفراد أسرته. الكلمة الفصل له في البيت، وأطيب المأكولات من نصيبه، والغرفة التي تزورها الشمس ويصول فيها الهواء ويجول هي له. ولكن كلّ ذلك لم يؤثر على دماثة أخلاقه وحسن تواصله مع الآخرين، ولا غرابة في ذلك لأنّ الّقيم الّتي غرست في نفسه أثمرت وأينعت رقيًّا في علاقاته.

شاءت الظّروف ألاّ يكمل رامز دراسته بسبب الحرب وخوف والديه عليه. فانصرف لزراعة أرضهم والعناية بها، وفتح محلّ بقالة  لمساعدتهما، لأنّ معاناتهما أيام الحرب أنعكست على صحتهما أمراضًا فتكت بحياة الأب أولاٌ ومن ثمّ بحياة الأمّ.

تأثّرت الأسرة كثيراً بهذه الفاجعة ولكن الله أسبغ عليها نعمة الصّبر، وتمكنت من الاستمرار ومتابعة المسير. زوّج رامز أخته الصّغرى من شاب تحبه، أما أخته الكبرى فبقيت أسيرة تشوّهها، لازمت المنزل تلافياً لنظرات الشّفقة في عيون الجيران والأقارب. فالحياة الّتي لم تنصفها بشكلها، أنصفتها بمحبّة أخيها ورعايته، حيث عوّضها عن عطف الأب وحنان الأمّ معًا.

ها هو رامز قد ناهز الخامسة والثلاثين من عمره،  وهو من دون زواج ولكن الى متى سيصمد أمام الحاح أخته التي تحلم أن تحمل أطفاله، ونصائح الجيران والأقارب.

وأخيرًا خفق قلب رامز وقرّر أن يتزوّج فتاة من قريته، فتقدّم لخطبتها وكم كانت صدمته كبيرة عندما سمع طلبات أهلها (منزل جديد بعيداً عن أخته، عقار باسمها يكون مهرها، ذهب يليق بها وتطول اللائحة)  مرت برهة من الصّمت، راح رامز يتذكّر كيف كانت والدته تعمل مع والده بصبر لتحافظ على كرامة الأسرة وتصون أولادها من العوز أيام الحرب. وتذكّر أخته الصّغرى الّتي لم يتمكن زوجها من تأمين مسكن مستقل بسبب وضعه الماديّ، فسكنت مع أهله في منزل واحد وباتت كابنتهم، يؤلمها وجعهم ويفرحها فرحهم، ولكنّ الصّورة الّتي هزّته وجعلته يقف معتذرًا كابحًا حبّه، هي صورة شقيقته الكبرىٍ الّتي تقوم بأعمال المنزل، وتساعده في الارض والدّكان من دون تذمّر وتؤمّن له ما يحتاج، وتحنو عليه كوالدته. كيف يقابل ذلك بتركها فريسة الوحدة. اعتذر رامز من أهل الفتاة  قائلاً: أنتم ترغبون بأمير لابنتكم لا بفلاح مثلي، أتمنى لها السّعادة ومن ثمّ خرج ولم يعد الى منزلهم.

هذه الصّدمة جعلت رامزاً يصرف النّظر عن فكرة الزواج والارتباط، ولكنّ إصرار أخته مجدداً جعله يرضخ لطلبها، ويتقدّم لخطبة قريبة له ظناً منه أنّ صلة القربى شجرة وارفة تفيء بالمحبة والعطف على أفراد العائلة الواحدة، وتقيهم من التّشتت وفساد هذا العصر.

ولكنّ ظنّ رامز لم يكن في محلّه، فلائحة الطّلبات الّتي سمعها كانت بحلّة جديدة ظاهرها المحبة ومضمونها الطمع، وتوّجت بفكرة ارسال أخته لتعمل في مركز للمعوّقين وتعيش هناك.

    حمل رامز جرحه في قلبه ولم يخبر أخته بما حصل، ولكنّ أحساسها به جعلها تدرك حقيقة ما جرى، لم تستطع المسكينة أن تتحمّل ما يحصل لأخيها، وشعرت بأنها هي العقبة في طريق زواجه، راح جسدها يذوي ويضعف دون أن تشعر نتيجة الحصر وكثرة التفكير. فأصيبت بمرض خطير جعلها أسيرة الفراش لأشهر تحت رعاية وعناية أخيها قبل أن تفارق الحياة.

      دفن رامز أخته، ودفن معها رغبته في البقاء بين أناس لم يروا فيه إلاّ بيته وأرضه وما معه من نقود، حزم حقيبته وسلّم مفتاح البيت والدّكان لأخته الصّغرى وهاجر الى كندا.

   عاد رامز الى القرية بعد 20 سنة ومعه أسرته أربعة فتيان وفتاة، أما زوجته فهي عربيّة تعيش في كندا تفوق كلّ فتيات القرية جمالاً وعلماً وتواضعاَ.

زارنا بعد عودته، فاستقبله والدي بحفاوة سأل عن الجميع، فعلم أن قريبته لم تتزوج لأن العمر غافلها، والغرور أعمى بصيرتها، فلم تعد محطّ اعجاب أحد، وهي تعيش مع أبويها بانتظار من يطرق بابها ولو بعد ذبول زهرة شبابها.

   أما الفتاة الأولى التي صرف النّظر عن خطبتها بسبب طلبات أهلها، فتزوجت ولكن سرعان ما انفصلت عن زوجها نتيجة خلافاتها الدائمة مع أهله.

   فتح رامز بيته من جديد، واسثمر ماله في مشاريع صغيرة في القرية، واعتمد في تربيته لأولاده على مخزون القيم الذي ورثه عن والديه.

     رامز واحد من الشبّان الّذين عاشوا مرارة فقدان القيم الأخلاقية لصالح طغيان حبّ المادة والمظاهر الفارغة. ولكنّه مع ذلك لم ييأس وينحرف، واستطاع أن يتجاوز محنته بعد سفره،  وأن يتصالح مع زمنه ونفسه ولو بعد حين، ولكن هناك من شبابنا من تأثّر بما رأى من سلبيات هذا الواقع ففضل أن يعيش حالة الوحدة والعزوبيّة عوض الزواج والارتباط، وذلك إما نتيجة إحباط أو صدمة عاشها، أو هربًا من تحمّل مسوؤلية أسرة في زمن يصارع فيه المرء ليحفظ  ماء وجهه من الاستجداء وطلب العون، أو خوفاً من الارتباط بزوجة وجهها ملائكي، وروحها منغمسة بالمظاهر الفارغة وقد أصيبت بلعنة هذا الزمن   وبانحراف قيمه ومبادئه. فتراه يعيش  مكتفياً برعاية أهله إن كانوا أحياء أو برعاية من بقي من أخواته في منزل الأسرة، ومنهم من يعيش حياته متعصرناً من دون وازع ديني أو أخلاقي، ضارباً بعرض الحائط كلّ القيم والتقاليد، فمثله كمثل الذي يعيش في بيت جميل لفترة قصيرة ليعود بعد ذلك الى الكوخ الذي يملكه. ففرحه قصير الأمد، وعاقبة تصرفه وخيمة من المؤسف أن نرى بعض شبابنا قد اعتكف عن الزواج، وتأقلم مع واقع  وحدته من دون أن يراجع نفسه. وفاته ذكر أن الزواج نصف الدّين في الإسلام وله حيّز كبير في الأحاديث النبوية الشّريفة وأحاديث الأئمة عليهم السلام. فمن الضّعف أن يعيش الرجل على ضفاف العمر متفرّجاً يمرّ في هذه الحياة مرور الكرام من دون أن يترك أي أثر.  

فمهما كانت الأوضاع المادية صعبة وظروف الحياة قاسية، فعليه ألاّ يستسلم، ويرمي حمله على الله فسيجعل له مخرجاً من حيث لا يدري. وإن كان خائفاً من الفشل في اختياره فهناك الكثير من الحلول التي تحفظ كرامة الزّوجين، وستكون تجربة تصقل حياته ولا تكسرها.

عزيزي القارئ إن في الدنيا ألواناً رائعة من المشاعر لا يمكنك أن تحسّها إلاّ مع شريك تألفه وتسكن اليه ومع أطفال من صلبك يرسمون ملامح حياتك، ويشكّلون استمرارية وجودك. خذ عبرًا من تجارب غيرك وتذكّر أنّك جئت الى هذه  الحياة لتكون مجاهداً بحسب موقعك ودورك تجني زاد دنياك وآخرتك.                    

هي إبنة بلدة كفرسالا ـ عمشيت، أكملت دراستها الثانوية في ثانوية جبيل الرسميّة، ونالت إجازة الأداب من الجامعة اللبنانيّة، دخلت عالم التربيّة والتعليم منذ عشرين سنة، في مدارس المبرّات الخيريّة، تُعرف بالحاجة «أم مصطفى» نمرة حسين حيدر أحمد، شاركت في تأليف كتب التربيّة التكامليّة، لها عدّة مشاركات في التأليف الحر.