طول الإنتظار

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 

عَرَفْتُها إنسانة نبيلة وأماً مضحيّة أراها كل يوم وهي مارة من أمام منزلي لتذهب إلى عملها الشاق لتؤمن لقمة العيش لولدها الوحيد، بعد أن أصبحت أرملة وهي في الخمسين من عمرها، إنّها جارتي أم توفيق تلك الأم التي ربّت وضحّت ولم تلق نتيجة تضحيتها سوى الإهانة من ولدها الذي كان يخجل من ذكرها لكونها عاملة تنظيفات في مدرسته لأنّها شبه ضريرة تبصر بعينٍ واحدة. كان ينزعج كلما يراها ويغضب عندما يسأله رفاقه في الملعب، من تكون هذه المرأة؟ هل هي أمك؟ وكان يصرخ بوجهها كلّما عاد إلى البيت رافضاً عملها، ولم يفهم يوماً ما هذه التضحيّة، وازداد كرهه لها يوماً بعد يومٍ، وكانت المسكينة تجلس وتبكي على زوجها الذي فقدته منذ أن وضعت طفلها الوحيد. وبقدر ما كانت الأيام تمضي بقدر ما كان اليأس يتملك نفسها، فكانت تستسلم للواقع وتقتنع أنّ بكاءها لن يُغير شيئاً، تُكفكف دموعها تُهدئُ من توترها وتتظاهر أمام ولدها وأمام النّاس بالطمأنينة والهدوء، أمّا الحقيقة فهي معاناتها الطويلة وأرقها طوال الليالي ساهرة حزينة ترى الماضي بعيني زوجها اللّتين تُذكرانها بأيامها الجميلة. وترى المستقبل بصورة مؤلمة كانت تضع رأسها المتعب بين يديها وتغرق في بحر من التأملات والذكريات، إستمرت على هذا الوضع سنوات عدّة، تتعب وتشقى لتُربّي وتُعلّم. إلى أن أصبح ولدها شاباً في ربيع عمره، دخل الجامعة وتخصص بالهندسة لقد إختاره عميد الجامعة من بين المئات من المتخرجين للسفر إلى فرنسا للعمل بشركته هناك كونه الأفضل بينهم، سافر بعيداً دون أن يودّع والدته أو يتكلم معها ببنت شفه.

عمل بفرنسا بجدٍ ونشاط، أسس لنفسه عملاً محترماً وتزوج وأنجب أطفالاً.. وأمّا والدته في لبنان فكانت تعيش بقلقٍ دائم وبالها مشغول عليه، فهي لا تعرف إن كان ولدها حياً أو ميتاً، كانت تحبس نفسها في غرفتها الصغيرة منزوية عن النّاس وهي عجوز ضعيفة ليست قادرة على العمل. وفي ليلة من الليالي الموحشة وبعد أن عدتُ من سفري قرعت بابها لأسأل وأطمئن عن حالها، وجدتها منزوية بغرفتها حزينة باكية أخبرتني ما حصل معها وأنّ ولدها غادر المنزل وسافر وإنقطعت أخباره كأن الأرض فتحت فاها وابتلعته أو قذفته في لجّة بعيدة النور تنتهي عند حدود المجهول تألمتُ لحالها ووعدتها أنني سأجعلها تراه قريباً مهما كلفني ذلك من ثمن.

خرجتُ من منزلها والدموع في عيني وأنا أفكر: هل هكذا تكافأ الأم؟؟ ذهبت إلى عميد الجامعة وأخذت منه عنوان المكتب الذي يعمل فيه توفيق وعنوان المنزل وحجزت تذكرة لي وتذكرة لها للسفر عند توفيق وأخبرتها بذلك! كان الخبر لها من شدّة الفرح غير منتظر. كانت الفرحة لم تسعها. لم أرها سعيدة يوماً كما هي سعيدة الآن ونحن في المطار، لم تصدّق بأنّها ستراه من جديد، وصلنا فرنسا أخذتنا سيارة الأجرة إلى منزل توفيق... قرعنا الجرس وإذا بتوفيق يفتح الباب ويرى أمّه التي غيرَّ الدهر ملامح وجهها. عجوزاً ضعيفة لا تقوى على الوقوف طويلاً بسبب المرض الذي تملّكها. فوجئ كثيراً بمنظرها وبدأ يتلّفت إلى الداخل حتى لا تلاحظ زوجته وأولاده من الّذي يقف على الباب، طردها بسرعة دون أن يسأل عن حالها ووبّخها لقدومها إلى فرنسا دون سابق إنذار وقال لها: كنتُ أنزعج من وجودكِ عندما كنت صغيراً، وأخاف من منظر عينيكِ. الآن تريدين أن يخاف أولادي منكِ، هيا إرحلي لا أريد رؤية وجهك إطلاقاً أنتِ ميتة بنظري، وأنبنيّ كثيراً لإنني سعيت لسفرها وجئت برفقتها، لم أرَ يوماً بحياتي ولداً بهذه القسوة!! تُرى ما سبب هذه القسوة؟ هل لإن المسكينة بعين واحدة؟ وهل من لديه أيّ تشوه بوجهه أو جسده يُصبح منبوذاً من النّاس ومن أحبّ الأشخاص إلى قلبه. لم أجد إجابات على أسئلتي...عدنا إلى بيروت عدنا إلى البيت المليء بالذكريات الأليمة إلى الحزن إلى الكآبة... ساءت حالة أم توفيق كثيراً بسبب ما حصل معها طلبت مني أن أكتب رسالة لتوفيق وأتركها معي وأسلمه إياها بعد موتها في حال عاد يوماً إلى وطنه، أملت عليّ الرسالة التي قطعت عباراتها نياط قلبي وبعد بضعة أيام جاء أجلها ورحلت عن هذه الدُنيا القاسيّة إرتاحت من أوجاعها وآلامها.. إتصلتُ بتوفيق لأخبره موعد دفنها حتى يأتي ويتسامح منها، لكنّه رفض رفضاً قاطعاً تلك المكالمة.

مرّ شهران على وفاتها، وذات يوم إتصلت به إدارة مدرسته التي درس فيها صغيراً لتبلغه بأن هناك محاضرة ستُعقد بعد أسبوعين وهم بحاجة لكلمة أحد التلامذة القدامى وقد اختارته الإدارة لكونه من تلامذتها المتفوقين! فرح بهذه الدعوة وعاد إلى وطنه من أجل المحاضرة.

علمتُ من الجيران بأنّه آتٍ لهذه الغاية ذهبتُ من فوري إلى المدرسة لأسلمه رسالة أمّه الأخيرة.

فتح توفيق الرسالة فإذا بعبارات الأم النابعة من صميم قلبها تخرج من الرسالة لتطلب السماح من إبنها لإنّها سببّت له يوماً من الأيام إحراجاً أمام رفاقه في المدرسة وتعتذر منه عن الإزعاج الذي سببته له عندما قرعت جرس بيته في فرنسا وذكرت له عبر رسالتها الحادثة التي أدّت إلى فقدان عينها وتشوهها . عندما كان طفلاً لم يبلغ السنة من عمره، تعرّض لحادث أدّى إلى فقدان أحد عينيه الجميلتين، فمن حبِّها لإبنها قدّمت له إحدى عينيها عبر عملية جراحيّة حتى لا يعيش هذا الولد بعين واحدة وحتى لا يرى عالمه الجميل من زاوية واحدة وليكمل حياته بشكل طبيعي دون أن يسخر منه أحدٌ.

نعم. هذا ما كتبته لإبنها، لم تكتب له أي عتاب أو لوم. بل كتبت الإعتذار والسماح.

نعم أيها القارئ هذه قصّة جارتي أم توفيق التي نأخذ منها الكثير من العبر والتي ما زال ذكرها يدمع عيني كلما تكلّمت عن القصة لأحد أو كتبتها على ورق.

أتساءل أحياناً تُرى هل رقّ قلب توفيق على أمّه بعد أن عرف حقيقة هذا التشوه بعينيها. ولكن هل ينفعه الندم الآن؟ وهل يعيش بحسرة  وعذاب الضمير طيلة حياته. أم أن قلبه قد زاد قساوة على قساوة بسبب الغربة؟.

خديجة سمير عمرو

مُدّرسة في ثانوية المعيصرة النموذجيّة الحديثة.