بعد فوات الأوان

16/2/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

لحاجة نمرة حيدر أحمد

 

من الأمور الّتي تثير العجب، أن تختزن في داخلك كماً من التّجارب والخبرات، وفي فكرك الكثير من العلم والمعارف وتفوتك أحياناً أمور صغيرة، كانت لتغير حياتك وتجعلك أكثر رضى وتسامحاً مع نفسك ومع غيرك لو أعرتها اهتمامك.

 لأول مرة، وقف أبو شادي أمام مرآة ذاته ورأى فيها ما لم يره أو تحاشى أن يراه طوال مسيرة حياته، ترى ما الذي جعله ينظر الى ذاته كلّ هذا العمر بمنظار الرضى ولم يلتفت الى كلّ عيوبها وشوائبها إلا بعد فوات الأوان؟ لِمَ لم يقرأ في خباياها ويعرف مسار انحرافها إلا بعد فقدانه أغلى ما لديه؟

 ارتمى على الكرسي مترنحاً وقد غزا عذاب الضّمير والألم آخر حصن في روحه. أخرج من جيب سترته رسالة قد تركها له ولده قبل أن يختار الهجرة من دون عودة كانت يداه ترتجفان بشدة وهما تحملان وثيقة تثبت ما جناه ولو عن غير قصد.  

فهو أب ومشاعر الأبوة مختزنة في أعماقه وإن لم يترجمها يوماً بتصرفاته، لاعتقاده ان التّعبير عنها وابرازها يجعلانه في موقع ضعف أمام أفراد أسرته لا سيما أمام ولده شادي الذي يطمح أن يراه صورة عنه حاصداً لكل مظاهر النجاح والتفوّق، ولكن من أين له ذلك وشادي لا يستطيع أن  يترجم له أحلامه وطموحاته ولا يسير في الدرب الذي خطّه له. وهذا ما جعله يخمد جذوة الأبوة في داخله، ويطلق يد الموجه الحازم ليعدّل ميولاً وقدرات غرست في نفس ولده منذ الولادة ، وهل بإمكانه أن يغيّر ما خطّ الله في نفس ولده منذ أن أبصر النور ووعى الحياة ؟

لقد تسللت نظراته من بين الدموع لتقرأ كلمات كانت خناجر تدمي روحه، وتزيل غشاوة عن عينيه دامت لسنوات طويلة.

والدي العزيز.

عذراً لأنني لم اسمعك صوتي لآخر مرّة، وإنما ستقرأ كلماتي، وتلامس مشاعري، وتتنشق عبق أحزاني. سأحدّثك عن شادي ولدك الذي لم تعرفه يوماً وأضعت الطريق للوصول الى قلبه وروحه.

 كم مرة يا أبي كنت أنتظرعودتك من العمل  قرب الباب لأرتمي بين أحضانك وأشتم شذا أنفاسك وأنعم بدفء حنانك وأنت تقبّلني، ولكن كل ذلك كان يتلاشى من على عتبة الباب عندما كنت أسمع صراخك وتأنيبك لي ولأميّ لأنني لا أحمل الكتاب، ففي رأيك  يجب أن أكون الأول في صفي وإلاّ بقيت محروماً من كلّ شيء حتى ابتسامتك، ورضاك، وهذا ما كان يحصل .... تصوّر يا أبي عندما كانت أمّي تصرّ لتأخذنا في نزهة للترويح عن النفس كنت تلزمني بأخذ كتابي معي لأدرس، وطوال الطريق كنت ترسم لي مستقبلأ على قياسك وبمستوى أحلامك وطموحاتك.  ثمانية عشر عاماً عشتها في كنفك، ما جلسنا على مائدة طعام أو في غرفة الجلوس للراحة، إلاّ وكنت واعظاً أو محذّراً أو منذراً بالعقاب إذا لم أكن من الأوائل. وأنا حرمتك من هذا الحلم لأن الله قد منّ عليّ بقدرات وميول ليست بمستوى قدراتك ومغايرة لميولك فكيف لي أن أكون في المراتب الأولى، وأنا أكره مادة الحساب منذ طفولتي ولا أحب مادة الفيزياء وأدرسها على مضض كي لا أرسب. .

 إنّ حلمك بأن أكون ضابطاً مثلك، جعل عاطفة الأبوة لديك سجينة أوامرك وتحذيراتك لسنوات طويلة، وجعلني سجين الحرمان، فلولا العاطفة التي أحاطتني بها أمي لكنت اليوم أسير الاكتئاب أو مشروع تمرّد وانحراف، ولكن ما حماني من ذلك صبرها وحكمتها وتحمّلها لطباعك الصّعبة ولبعدك عنّا.

أتعلم؟  كنت أغار من ابن جارنا رامي عند رؤيته  يلعب مع والده كرة السّلة في حديقة المنزل، أو يتمشى معه ويتبادلان الحديث ويعلو ضحكهما. كانت الحسرة تتآكلني وتدفعني للبكاء. لقد حرمتني من التواصل الحميم معك، ومنعتني من الخروج لمقابلة رفاقي والتواصل معهم للتعبير عن ذاتي وممارسة هواياتي. لماذا ألم تر أنني كبرت وأصبحت شاباً ؟ ألم تفكّر يوماً بأن تسألني عن  أحلامي وتطلعاتي؟ لماذا أتيت بي الى هذه الدنيا ما دمت لا ترى إلا نفسك؟

أنا لم أقرر الرحيل يا أبي إلا بعد أن يئست من محاورتك وبعد أن تعبت من صراخك وتأنيبك في ذهابك وإيابك. لقد أصبح بيتنا سجناً مريرًا ارتضيته لنا وبات الخروج منه حرية. لقد رحلت لأفتش في هذا العالم عن عاطفة أبوية تشعرني بالأمان، وتجعلني أرى الحياة بمنظار جديد. وثق إنني سأقرن هذه العاطفة التي سأجدها يوماً ما بصورتك التي حملتها معي كي أراك كما تمنيتك وكي لا أنساك فأغضب رّبي.

سامحني إن كنت أقسى منك في قرار رحيلي، ولكنك لم تترك لي أي باب لألج منه إلى ذاتك

وأشعرك بمدى عذابي وقهري. إنّ ما أطلبه منك الا تعامل أخي كما عاملتني، وكن له الحضن الدافئ لينمو ويترعرع بعيداً عن الخوف والقهر فتجده في عجزك كالشجرة الوارفة يظللك بفيء حبّه وحنانه.

كما أوصيك بمن تتحمل كلّ شيء من أجل إرضائك وإصلاح أخطائك من دون أن تجرحك أو تمسّ عنفوانك، فكم من مرة حاولت أن تلفت نظرك وتفتح باب الحوار معك، فكنت تغلقه بحزم وكأنها انتقصت من دورك وهزّت عنفوان رجولتك، حافظ عليها يا أبي إنها شريكة عمرك لن تجد غيرها بجانبك يوم ينتهي عملك ويخفت تأثير كلمتك وموقعك على الناس.

 أنا ساطمئن عليكم باستمرار ولكن سأحتاج إلى بعض الوقت لأبني نفسي من جديد، وأشكل ملامح شخصيتي التي حرمتني منها في طفولتي، وعندما يتحقق لي ذلك، أعود لمراسلتكم من جديد علّني أجدك كما أردتك حتى ولو بعد فوات الأوان.

دمت لابنك الذي لن ينساك لأن ما غرسته في نفسه في الصغر كان كالنقش في الحجر  .

طوى أبو شادي الرسالة ودخل الى غرفته وأغلق الباب وراءه ليشرب من كأس سقاه لمن يحب من دون أن يدري.

هي إبنة بلدة كفرسالا ـ عمشيت، أكملت دراستها الثانوية في ثانوية جبيل الرسميّة، ونالت إجازة الآداب من الجامعة اللبنانيّة، دخلت عالم التربيّة والتعليم منذ عشرين سنة، في مدارس المبرّات الخيريّة، تُعرف بالحاجة أم مصطفى نمرة حسين حيدر أحمد، شاركت في تأليف كتب التربيّة التكامليّة، لها عدّة مشاركات في التأليف الحر.