قصة العدد: رحلة عُمر

24/5/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: الحاجة أم مصطفى حيدر أحمد

لقد مضى عمرها سريعاً كسحب تشرين ولم يبق منه الكثير ومع ذلك  فهي تشعر بالسكينة والاطمئنان الداخلي. تعيش بين جدران بيتها الجبلي التي شهدت كلّ مراحل حياتها ولو تسنى لحجارتها ان تنطق لروت حكايتها للزمن. ها هي أم هاني تخرج كعادتها عند العصر لتجلس على مقعدها الهزاز بين احواض الحبق والورد والمردكوش والعطر  التي ترعرعت على يديها وكانت سلوتها بعد سفر ولدها هاني ليعمل في مجال اختصاصه في الخارج وزواج ابنتها رنا وسكنها في بيروت.

كان لغروب الشمس وقع خاص عندها فالغيوم البيضاء عند الافق كانت تشكل لها عالماً جميلاً  تضفي عليه من خيالها شيئاً من الحياة فيؤنسها  لغاية انكفاء آخر شعاع للشمس.

بعد ان أرخى الليل سدوله، وأحست برطوبة الهواء وبرودته، نهضت عن مقعدها الهزاز ولملمت ما بقي من أحلامها، ودخلت بيتها لتكمل رحلتها مع ذكرياتها المؤنسة ككل يوم. ولكن هذا اليوم ليس كباقي الأيام  ففيه ذكرى ولادة ابنها هاني فرحتها الأولى، الذي أنار لياليها باشراقة وجهه، وبعث في برودة أيامها دفء الحب وضجيج الحياة.

طلبت من خادمتها ان تحضر لها قالب الحلوى الذي اعدته خلال النهار، فوضعت عليه ثلاث شمعات، كلّ شمعة تجسّد عقداً من الزمن. أضاءت الشمعات وانشدت لولدها الغائب أنشودته المفضلة منذ طفولته، ومن ثمّ أطفأتها وقامت عن الكنبة لتتناول ألبوم صور من خزانة أثرية وضعتها في زاوية البيت حفظت داخلها أغلى مقتنياتها. عادت إلى مكانها وراحت تقلّب في صفحاته لتستعيد مسيرة عمر ولديها هاني ورنا.

طرقات خفيفة على الباب انتشلتها من عالم ذكرياتها، فتحت الباب، تفرّست في وجه الطارق ملياً، الملامح تعرفها، وهاتان العينان اللتان خبا بريقهما ونظرتهما منكسرة ليستا غريبتين عنها، انّه زوجها أبو هاني، تُرى ما الّذي ذكّره بهم؟ لقد سافر منذ عشرين عاماً وعمر ابنهما هاني ثماني سنوات وابنتهما رنا سنة واحدة بحجة العمل وتحقيق طموحاته، فالعمل في مشروع

المياه لا يليق به، ولا يتناسب مع قدراته. انقطعت اخباره بعد عامين من سفره، فلم يعد يرسل نقوداً لتلبية حاجات الاسرة، ولم يبعث أية رسالة تبين سبب هذا الجفاء، وكل ما عرفته في ما بعد من أحد المهاجرين من قريتها انّه تزوج من ابنة صاحب الشركة التي يعمل فيها. امرأة في الاربعين من عمرها ثرية، وجدت فيه القوة والشباب مقابل أن يحيا في ظلها عيشة مرفهة من دون أن يكون له سلطة على أي شيْ.

عضت أمّ هاني على جرح كرامتها وفضّلت ان تحيا لولديها. راحت تنظّم امور حياتها، فاستثمرت قطعة من أرض ورثتها عن والديها، وفتحت دكاناً على مدخل مدرسة القرية لتسترزق منه وتؤمن ما يسد حاجتها ويكفيها وأولادها مرارة العوز والفاقة، ومذلّة السؤال. 

لقد عاشت أياماً عصيبة ولكن محبّة أهل قريتها واحتضان أقاربها لها ساعداها على تخطّي كلّ الأزمات الصّعبة، وعلى تعليم ولديها حتى تخرّجا من مدرسة القرية وذهبا إلى بيروت لإكمال دراستهما، وقد أنهياها بتفوّق. فولدها هاني كان نعم الولد البار فمحبته لوالدته ولأخته كانت مضرب مثل في القرية. كلّ ذلك وأبو هاني لم يتكرّم بالرّد على رسالة واحدة من مئات الرسائل التي أرسلتها. ما سبب عودته بعد كلّ هذه السنين؟ أكيد ليست عاطفته هي التي قادته  إلى قريته مرتع طفولته وشبابه وإلى البيت الذي شهد أجمل لحظات حياته كما كان يقول، كلّ هذه الأفكار جالت في رأسها بمجرد أن عرفته وكأنّ شريطاً مصوّراً أعادها عشرين سنة إلى الوراء.

استعادت أم هاني وعيها بعد لحظات من الذهول، فسمعته يقول: « أتسمحين لي بالدخول؟». وقفت مترددة لبرهة ومن ثمّ قالت له:» تفضل..» وكان في رأسها ألف سؤال وسؤال. دخل ومعه حقيبة وضعها بجانب الباب. توجه نحو الكنبة التي كانت مفضلة لديه عندما كان ربّ الاسرة ومعيلها، فجلس عليها مطرقاً رأسه نحو الأرض.

اقتربت منه أم هاني بخطى ثابتة ووقفت قبالته وسألته: «ما الذي ذكرك بنا بعد هذا العمر؟ وكيف تذكّرت درب البيت؟ «رفع رأسه  وراح يتأمل وجهها وعينيها باحثاً عن نظرة تشجعه على الكلام  وتضفي عليه شيئاً من الطمأنينة ولكن سرعان ما عاجلته بسؤال آخر:» أين زوجتك لمَ لم تحضرها معك؟ « إحمرّ وجهه وخفض سهام نظراته نحو الأرض وكأنّه محرج من الجواب ولكن سرعان ما استجمع قواه وسألها: «كيف حال الأولاد؟» فأجابته بشي من السخرية الممزوجة بألم الجرح الذي سببه لها وعاد اليوم ليدميه من جديد: «وهل لديك أولاد لتسأل عنهم ؟ ألم تتخل عن ولديك يوم رحلت وانقطعت أخبارك عنّا وتركتنا لمصيرنا وللزمن، ألم تنس مسؤوليتك نحونا وانصرفت لتلبية رغباتك ولتحقيق أحلامك التي لا مكان لنا فيها؟ عمن جئت تسأل أعن زوجة غدرت بها ولم تجد في ظلّك العطف والأمان  أم عن ولدين لم يعرفا عن معنى الأبوة إلا الاسم والكنية.

تململ في مكانه، ومسح عن خديه دموعاً ترقرقت خلسة، وأجابها بصوت خنقته غصة الألم فبدا وكأن صاحبه يحتضر:» كلّ ما قلته صحيح! وليس لدي أي عذر، فأنا اليوم أدفع ثمن أخطاء الأمس، والثمن باهظ أكثر مما تتصوّرين، لقد أصبت بمرض عضال ولم يبق لي من العمر إلا بضعة أشهر، فنصحني الأطباء أن أتأقلم مع أوجاع هذا المرض لغاية رحيلي عن هذه الدنيا، والمصيبة الأكبر أن زوجتي عندما علمت بذلك سعت لإبعادي عن بلدها وإعادتي إلى لبنان، وقد نجحت في مسعاها، لأن معارفها كثر، وسلطتها المرتكزة على ضخامة ثروتها قوية، وها أنا أمامك عدت كما سافرت حتى الثروة الصغيرة التي جمعتها من تعبي حرمتني منها واستولت عليها. إنّ الله يمهل ولا يهمل وأنا أمامك خير دليل على ذلك. فما أصابني هو من جنى يدي.

فأنا لم أكن ذلك الأب الصالح الذي يترعرع الأبناء في ظله، ولا الزوج الوفي الذي يحفظ العهد ويصون أمانة الروح. أنا اليوم نادم على كلّ لحظة سلمت فيها قيادة أمري لأهوائي وأنانيتي، وما كنت لأطرق باب هذا البيت إلاّ لأطلب منك ومن أولادي السماح. أنا لا استحق عطفكم ولا حتى شفقتكم، لأنكم عندما احتجتموني كنت منشغلاً بنفسي وبإرضاء رغباتي، ساعياً وراء الرفاهية والمال، تاركاً مسؤوليتي وواجبي تجاهكم، لقد حرمني الله من  صحتي ومالي ولكن ترك لي باب الاستغفار والتوبة. لي صديق في بيروت سيساعدني لدخول مستشفى مجاني للامراض السرطانية. كنت أود أن أرى أولادي قبل رحيلي ولكن لا يحق لي حتى التلفظ بذلك. فأنا لا أستحق شرف الأبوة. والآن استودعك الله، وسامحيني قبل رحيلي عن هذا العالم وأنا مثقل بالخطايا إلاّ إذا رحمني ربي وقبل توبتي.

نهض أبو هاني من مكانه قبل أن تقول له أي شيء، متوجهاً نحو الباب، وقفت وراءه مذهولة مأخوذة بما سمعت، ولكن سرعان ما انتبهت لنفسها واسترجعت رشدها، فعزّ عليها أن ترى أب ولديها في موقف ضعف بالرغم من كلّ ما أصابها منه، نادته قائلة: «انتظرني دقيقة حتى أعود». دخلت الى غرفتها وأخرجت من حقيبتها مبلغاً من المال كانت قد ادخرته للزمن. احضرت المبلغ وتقدّمت منه قائلة:«هذه كلّ مدخراتي خذها لتدفع نفقات العلاج وأنا سأخبر ولديك بالأمر. نظر اليها بحسرة وتابع تقدمه من دون ان يأخذ المال ولكن عادت وأصرّت عليه واستحلفته بولديها أن يأخذه. فأخذه والدموع تنهمر من مقلتيه لتغسل ندوب آلامه. حمل حقيبته  أجال نظره في ارجاء البيت ليطبع آخر صورة له في ذاكرته، ومن ثم التفت الى أم هاني التفاتة تلونت بألوان الندم والحسرة والألم  قائلاً لها: «فتشي في ذكرياتنا معاً لعلك تجدين بعض اللمعات المضيئة في حياتي فاذكريني بها، وأغلقي الباب على كل الأحزان والمآسي والحسرات  التي سببتها لك ولولدينا، لعلّ الله يغفر لي ويسامحني بعد موتي».

خرج أبو هاني وأغلقت وراءه  الباب لتبدأ التفكير برحلة جديدة من الصبر والمعاناة ولكن هذه المرّة باختيارها، رحلة من نوع آخر تبغي بها رضا الله وكرامة ولديها، وتحفظ معنى الرّحمة والمودة في زواج غير مسار حياتها وتاريخها، وجعلها أكثر نضجاً وتجربة وايماناً.