صورة من صور الحياة

08/01/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

عرفتها صديقة لأدراج ولبلاط البيوت والمحلات في حيّنا. أراها كل يوم وهي مارّة أمام بيتنا متثاقلة الخطى تتأبط كيساً وضعت فيه عدّة العمل التي تحتاجها لتزيل بقايا إهمال النّاس وأثار أقدامهم وأفواههم عن الأدراج ومداخل البيوت. إنها الخالة أم صبحي، تلك الأرملة التي حملت سنيّ عمرها السبعين لتعمل حرصاً على كرامتها وحفاظاً على ماء وجهها. فهي أمٌّ لم تعرف من الأمومة إلا الشوق والحنين إلى ولدها لأنّ زوجها تركها وحرمها من فلذة كبدها بعد أن فقدت إبنتها أثناء الحرب اللبنانيّة، وخسرت من جسدها ما يخوّلها أن تكون أمّاً من جديد.

إنتقلت إلى بيت ذويها لتعمل في الزراعة وقطاف الزيتون، وهي تحمل وصمة طلاقها وعدم إنجابها في مجتمع إفتقر أفراده للرحمة، وكثرت فيه لسعات الألسن.

شاءت الأقدار أن تتزوج من رجل متزوج أصيبت زوجته بمرض عضال وله منها خمسة أولاد لا يريد زيادتهم. وهكذا أصبحت أم صبحي زوجة ثانية لرجل غريب عن بلدتها لتحمي نفسها من ألسنة النّاس وقسوة نظراتهم.

دام زواجها الثاني خمسة وثلاثين عاماً لغاية وفاة زوجها. ومن هنا بدأت رحلة الشقاء الثانيّة لأنّه لم يترك لها ما يحميها من أنياب العوز والفاقة، فقد طردها أولاده من البيت الذي صبغت جدرانه بأحزانها وشهد مراحل مأساتها وسمه أنين آهاتها بعد ثلاثة أيام من وفاة والدهم.

غادرت منزلها من دون أن تلتفت إلى الماضي، تركت لهم كل شيء، حتى المقتنيات التي أشترتها من نتاج عملها في محل البقالة الذي إستأجرته لتنسى مرارة أيامها ووحدتها ولتكفي نفسها، فهي أبت أن تكون عالة على زوجها الذي كان يقدم كل ما يجنيه لأولاده وزوجته الأولى بغيّة إرضائهم.

وكان الزمن أمعن في زيادة قهرها فصدمها بعدم إعتراف ولدها بأمومتها وإعتبارها غريبة عنه لأنّه يعتقد بأنّها تخلّت عنه بإرادتها ولا فضل لها عليه، فكأنّ ذلك العذاب لم يكن كافياً لها حتى أضيف إليه تخلي إخوتها عنها وتركها لمصيرها من دون مأوى، لأنّها لم ترث من زوجها ولم تحصّل منه على ثمن سنين عمرها الذي أفنته في خدمته ورعايته، وهذا الخطأ في رأيهم تحمل وزره لوحدها، وما كان إلا حجّة ليتركوها وحدها تواجه قدرها وآلامها. ولكن الله لا يترك أرملة لجأت إليه ولاذت بحصنه، خائفة، ذليلة، مظلومة، متضرعة تطلب الرّحمة والستر وحسن الختام.

ها هي الخالة أم صبحي تعيش الآن مرتاحة في بيت متواضع رصيدها رحمة الله، ومحبة النّاس، وعطفهم عليها، ومساعدتهم لها.

أخي القارئ إنّ الحفاظ على رابط الدم وصلة الرّحم واجب على كل إنسان ونكرانهما عقوق وخطيئة يحاسب المرء عليهما يوم لا ينفع الندم. فالأخ الحق هو من يشعر بحزن أخيه ويحميه من أخ مصدرها يأس وألم. والإبن البار من يجد العذر لأمه ويقف إلى جانبها مهما كانت الظروف، فويل لأمّة تلاشت قيم إنسانها وفسد دم أبنائها ولم يعد يغلي في الشرايين لرفع الظلم ونصرة الضعيف وحماية الأرض والعرض...

 

الحاجة نمرة حيدر أحمد