السّقوط في التّجربة

11/10/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الحاجة نمرة حيدر أحمد(1)

ارتمى ياسر متهالكاً على مقعد في بهو المطار، وألقى حقيبته بجانبه وكأنّه يُلقي معها هموماً أثقلت كاهله وأرهقته. أغمض عينيه فانسلت منهما دمعتان ساخنتان تنمّان عن ألم دفين في أعماقه. تنهّد ياسر ومن ثمّ شبك يديه ووضعهما وراء عنقه، واسترخى لتحمله الذكريات على أجنحتها إلى مساحة من العمر لم تكن لتفارقه طوال فترة إقامته في هذا البلد الشقيق. ولكنّ اليوم لن يسمح لذكرياته الحميمة أن تقوده ليغير مواقفه وقراراته، فالجرح عميق جداً ولن يلتئم مع الأيام ولن يشفيه الزّمن.          

عاصفة من النّدم واللّوم اجتاحت روحه فراح يسائل نفسه: لماذا ترك بلده ووثق به ؟ لماذا لم يترك مجالاً للحذر، وعَمِيَ نظره عن تصرفاتٍ كانت تخفي في طياتها عدم الوفاء وألواناً من الخيانة؟ هل لأنّه صديقه ورفيق طفولته وشبابه، وشريك أيامه ؟ هل لأنهما أكلا وشربا سوياً وتشاركا لحظات الفرح والالم، وتقاسما مرح الطفولة وطيش الشباب؟

 كلّ هذه الأسئلة جعلته يعود إلى عشرين سنة خلت ليجول بمخيلته في الحقول، والأحياء، والأزقة التي شهدت لهوهما، وتحملت هفواتهما. ويدخل الى مدرسته ليتفقد مقاعدها التي عايشت أحلامهما ومنافساتهما، واستمعت لتساؤلاتهما وتمردهما على ما حولهما.

  لقد أكملا الدراسة سوياً ومن ثم افترقا بعد أن تعاهدا على الصّداقة والأخوة مدى العمر، ليسير كلّ منهما في طريق الحياة لبناء المستقبل الواعد. ياسر عاكسته الظروف وبقي بلا عمل، يتصيد معاشه من بعض الأعمال الحرّة التي يحصل عليها بعد البحث والتفتيش. أما صديقه فريد فقد تمكّن بفضل ثروة والده من إنشاء شركة استيراد وتصدير في بلد عربي شقيق، ضمت هذه الشركة  الكثير من الموظفين، ولكن حاجته إلى موظف نشيط يحمل نفس اختصاصه دفعه للتّواصل مع صديقه والطلب منه العمل في الشركة معه، بعد أن أعياه البحث عن موظف. وافق ياسر ممتناً على عرض صديقه، ليصبح مديراً لقسم المبيعات في الشركة.

مارس ياسر عمله فكان نعم المدير المخلص والصّديق الوفي المؤتمن، ازدادت أرباح الشركة أضعافاً خلال فترة وجيزة من التحاقه، فنال رضى صديقه. ولكن هذا الاستقرار المهني لم يدم طويلاً، فنائب مدير الشركة لم يرق له ما يحصل، لأن هذا التّشدد من قبل ياسر في مراقبة الحسابات والكشوفات، أغلق باباً واسعاً كان يلجه للاختلاس والسّرقة بمساعدة مجموعة من الموظفين الّذين باعوا ضمائرهم وانصاعوا لأوامره.                                                                          

 لقد تمكن نائب المدير بسبب قدرته على الاقناع واسلوبه المميز في الكلام من التأثير في شخصيّة فريد، وكسب ثقته، وهذا ما سهّل عليه تدبير مكيدة لياسر، والباسه تهمة اختلاس اموال من الشركة كان هو بطلها، وهذا ما مكّنه من تحريض فريد على صديقه ياسر واقناعه بطرده. لم يتحقق فريد من الامر ولم يسأل صديقه واكتفى بما رآه من وثائق مزوّرة، وبما سمعه من نائبه الذي يثق به ثقة عمياء أنسته وفاء صديقه ياسر، وهو الذي تعرّض للضرب وللاعتقال مراراً لانقاذه من أيدي مجموعات مسلحة أيام الحرب اللبنانية، كما أنسته يوم أودع عنده في بيروت قبل سفره كل ما لديه من أموال خوفًا من سرقتها، والسّطو عليها، أو ضياعها في المصارف التي كانت تفلس أو تنهار بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية في البلد.  وعندما عاد بعد ثلاث سنوات استرجعها كاملة مع العلم ان ياسر عانى مع أسرته أياماً صعبة فيها تهجير وعوز.                                                               

 كل ذلك لم يذكره فريد ولكن وسوسة نائبه وادعاءه الامانة والإخلاص له استحوذا على تفكيره، وسيطرا على شخصيته،  وكأن غشاوة أسدلت على قلبه ونظره. فاستدعى صديقه ياسر، وطلب منه تسليم عهدته ومغادرة الشركة من دون أن يشعر أحد بذلك، ووفاء للعشرة قال بأنّه لن يبلّغ الشّرطة. حاول ياسر ان يعرف الجرم الذي اقترفه، فلم يبح له فريد بالأمر، واكتفى بطرده ودعوته للخروج من مكتبه.

  شعر ياسر بطعنة اليمة غرزت في صميم قلبه وكرامته. فبكى لا أسفًا على وظيفة في شركة وإنّما أسفاً على صديق غدر به ولم يحفظ عهد الصّداقة ولا رابط الثّقة الّذي جمعهما . لقد بكى ياسر لأنّ الانسان الذي كان الشّعلة المضاءة في حياته بات سبباً لألمه، ونفوره من الناس، ومن الحياة.  لقد ساءه ان يعيش معه كلّ هذه السنوات الطويلة من دون ان يكتشف عدم صدقه، وعدم قدرته على الوفاء بعهود، والحفاظ على صداقته. لقد باعه فريد عند أول مفترق طريق، وخذله، وفضل عليه نائبه الذي يعطيه من طرف اللسان حلاوة ويسرقه في الخفاء.                                           

صوت قوي آت من باب بهو المطار ينادي باسمه، انتشله من خضمّ ذكرياته، ففتح عينيه ليرى صديقه فريد مهرولاً نحوه، وعندما وصل إليه، جلس بجانبه مطأطئا رأسه، لاهثاً، بعد استراحة صمت قصيرة قال فريد: « لقد انكشفت الحقيقة وعرفنا المختلس، لقد وشى عليه المحاسب بعد ان اختلف معه، سلمنا الجميع للشرطة بعد إجراء التحقيقات اللازمة. يمكنك العودة إلى الشركة».                         

 ضحك ياسر ضحكة لم تخل من اللوم والعتاب وقال له :» كلفت نفسك عناء كلّ هذه المسافة  لتقول لي ذلك، أنا أعرف الحقيقة،  ولكن كان الأجدر بك ان تتحقق من الامر قبل طردي من الشّركة ومن مكتبك. لا يا فريد لن أعود معك حتى ولو سلمتني ادارة الشركة باكملها».                                                                   

أجابه فريد : أنسيت أننا صديقان؟

ـ أنا لم أنس يا فريد! ولكن انت من نسي صداقتنا يوم صدّقت خبر اختلاسي لأموال الشركة، وأنت أقرب النّاس الى نفسي، وأعرفهم بها،  لقد نسيت كل تاريخنا معاً.

ـ أهذا قرارك النّهائي ؟

ـ أجل الانسان الذي لا يتعلم من تجاربه يكون أحمق ويقضي عمره في تلقي الصدمات .

ـ هذا يعني أنك لن تسامحني على غلطتي هذه ؟

ـ من أسس الصداقة يا عزيزي فريد الوفاء، والثقة، والصدق، وأنت سقطت عند أول تجربة، ولم تكن وفياً وأهلاً للثقة، ولم تكن صادقًا معي واخبرتني بكل ما يجري لنتساعد على كشف الحقيقة،  فأنت لم تعد أهلاً لتكون صديقي.

ـ أنت تظلمني يا ياسر ..إن الله يغفر ويسامح وأنت لا يمكنك مسامحتي.

ـ لم أقل أنني لن أسامحك! ولكن قلت بأنّك لن تكون صديقي بعد اليوم، فأنا سأعود الى بلدي لأبدأ مرحلة جديدة من حياتي لا مكان للصّداقة فيها .

صوت المذياع يعلن اقتراب موعد اقلاع الطائرة ويطلب من المسافرين التهيؤ للدخول الى قاعة الانتظار الداخلية المخصصة للمسافرين فقط.

همّ ياسر بالنهوض، فأمسك فريد بيده قائلاً له: لا أمل في العودة عن قرارك؟

أجابه ياسر : إنّ صداقتنا أصيبت بشرخ كبير، وإن التحم فسيترك أثراً بارزاً يذكرنا بهذه المرحلة الصّعبة، أترك الأمر للأيام علّها تمحو من قلبي ما صنعته نفسك الضعيفة .

حمل ياسر حقيبته ومضى من دون ان ينظر إلى الوراء لينطلق من جديد تاركًا وراءه باقة من  الذّكريات الجميلة التي كان يلجأ اليها في ساعات تعبه  لأنّها تحولت إلى مصدر ألم وحسرة .

هي إبنة بلدة كفرسالا ـ عمشيت، أكملت دراستها الثانوية في ثانوية جبيل الرسميّة، ونالت إجازة الأداب من الجامعة اللبنانيّة، دخلت عالم التربيّة والتعليم منذ عشرين سنة، في مدارس المبرّات الخيريّة، تُعرف بالحاجة «أم مصطفى» نمرة حسين حيدر أحمد، شاركت في تأليف كتب التربيّة التكامليّة، لها عدّة مشاركات في التأليف الحر. وهي قرينة المُرَّبي الكبير الأستاذ زهير الحيدري مدير مسؤول في جمعية المبرات الخيرية.